اليوم يبدأ شهر رمضان الكريم، مع الصوم الكبير للكنيسة القبطية الأرثوذكسية الصوم الكبير الذى يستمر 55 يوما، وبالتالى تحتفل الكنيسة بعيد القيامة بعد عيد الفطر بحوالى 25 يوما، وهذا التزامن يتكرر كل فترة، وخلال الأعوام الأخيرة تزامنت أعياد المسيحيين والمسلمين، وتزامن شم النسيم مرات مع عيد الفطر أو الأضحى. وهى مفارقات غالبا ما تجعل الجزء الاحتفالى مشتركا بين المصريين، فالأكل والشرب والكنافة والقطائف وحتى الفوانيس، هى طقوس مشتركة بين المصريين، مثلما يبقى شم النسيم عيدا مصريات عابرا للقرون.
الصوم الكبير للمسيحيين يتضمن الابتعاد عن الأسماك، أو أى مواد ذات مصدر حيوانى، والاكتفاء بالنباتيات، مع قداسات يومية، بينما شهر رمضان هو الشهر التاسع فى السنة القمريّة، وبالتالى فهو يتحرك ويأتى صيفا وشتاء، ويحمل فى مصر طعما فريدا، وشكلا خاصا جدا يمتد عصورا منذ دخل الفاطميون مصر، وزرعوا فيها الكثير من التفاصيل والطقوس التى تميز المصريين، بل إن الاحتفالات والموالد تتداخل بين المسيحيين والمسلمين، ضمن نوع من الطقوس المصرية، التى سعت بعض الأطراف المتطرفة إلى منعها او انتزاعها، لكن الروح المصرية انتصرت، وأطاحت بهؤلاء الذين اعتادوا محاربة العقل والفرح والبهجة، لصالح الكراهية.
شهر رمضان يمثل للمصريين مناسبة بطعم خاص، فللمسلمين هو مناسبة للتراحم والعبادات والصيام والصلاة والتراويح، ولعموم المصريين يحمل الكثير من الحنين والذكريات المشتركة، فى الطعام والشراب الكنافة والقطايف والسهر، أجيال تحمل الكثير من الذكريات، عن «اللمة»، وتختزن الذاكرة الجمعية الكثير من الصور بعضها ربما عاد إلى عالم التواصل من خلال التذكر واستعادة هذا العالم الذى يبدو مدهشا لمن لم يعاصروه، أو ربما لا يمثل الكثير من الجاذبية لأجيال ولدت وعاشت فى عالم السرعة والتطور السريع لكل تقنية أو اختراع.
كل طقوس المصريين فى رمضان أو شم النسيم، تحفر قنوات وتفاصيل عن الفسح والألوان والأغانى، وحتى التليفزيون، ومن قبله الإذاعة، التى قضت سنوات رفيقا وأنيسا للمصريين فى رمضان وغيره من الاحتفالات التى تواصلت عبر الزمن، لكل منها طعمها ولونها وشكلها المحفور فى الذاكرة، تغيرت الطقوس قبل الكهرباء وأيام الإضاءة باللمبات الجاز «عشرة، وخمسة» والكلوبات الجاز ما قبل الغاز.
كانت السيادة لذاكرة «ألف ليلة وليلة» حيث تترك الإذاعة مساحة للخيال، على عكس التليفزيون الذى كان الخيال فيه ملونا، قبل أن يطيح عصر الاتصالات بشكل الذكريات ويعيد صياغة كل شىء حتى الحنين، الذى لا يعنى رغبة فى العيش بالماضى، بل إن أجيال عصر الاتصالات لهم خيالاتهم وأفكارهم وحنينهم، وعاشت فى عصر الاتصالات لهم خياراتهم وحياتهم وذكرياتهم، التى تكون بالعودة إلى الأبيض وأسود مؤقتا.
وأحيانا يكون الحنين نفسه عنصرا من عناصر إعادة بناء الذاكرة، والاستفادة من التكنولوجيا فى ترميم وإعادة بناء العلامات الفارقة فى ذاكرة رمضان مثلا، حيث يتم إصلاح وترميم إبداعات كبار المقرئين والتواشيح، ونحن هنا لا نتحدث عن الطقوس الدينية، لكن عن الذكريات المشتركة بين عموم المصريين، مثل القطايف والكنافة والفانوس، وصوت الشيخ محمد رفعت، الذى كان المصريون يسافرون إليه للاستماع إلى تلاوته، التى تمثل فنا مصريا مثل باقى الفنون، ومن فوائد التكنولوجيا أنها أتاحت ترميم أسطوانات الشيخ رفعت، بشكل أعاد الصوت والدقة كما كانا، حيث يمثل الشيخ رفعت إحدى أهم ذكريات رمضان أو علامات الشهر.
وربما تتكون ذكريات من مسحراتى سيد مكاوى وفؤاد حداد، التى مثلت جزءا من خلفية ذاكرة أجيال متنوعة، عاشت وعاصرت هذا العالم، وحتى المسحراتى نفسه الذى كان صاحب سلطة فى عصر ما قبل الكهرباء والسهر، مثل الفانوس الصفيح المعشق بالزجاج، وكان الأطفال يدورون به وهم يغنون «وحوى يا وحوى إياحة» وهو نداء أو غناء مصرى قديم، يحمل بصمات مصرية تعبر الزمن والمسافات لتصنع عالما من الحنين الرقيق لأجيال متعاقبة، من المصريين لكل منهم اعتقاده، لكن الطقوس توحدهم، وكل عام وأنتم بخير.