حازم حسين

رمضان كما يُحب أن يكون.. طقوس الخير والروحانية على شرط البهجة وكَفّ الأذى

الإثنين، 11 مارس 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عاد رمضانُ على موعده، حاملاً بركاتِه وباقةَ طقوسه المعهودة، والناسُ كعادتهم بين مُحتفلٍ ومُتعبِّدٍ ومُتسابقٍ فى الخيرات، صار من لوازمِ الموسم أن يُعادَ إحياءُ الاجتماعيات التى تأكلها مشاغلُ الأيام العادية، وأن يُقسِّم الصائمون بهجتَهم بين الطاعات والمَسرَّات، ويُشرقَ أنْفَسُ ما فينا سلوكًا ومُعاملاتٍ وأعمالَ خيرٍ وبِرّ، والحالُ أننا أحوجُ ما نكون للإتقان فى هذا الشهر، لا فيما يخصُّ السماءَ والروح فقط؛ بل ما يتّصل بالأرض والبدن أيضًا، ليست أُمثولة الصيام فى الانقطاع لحرمانٍ وتعذيب؛ إنما فى التوحَّد مع الآخر المحروم أو المُعذَّب، ولا يمنع التفانى فى المشقَّة والاجتهاد أن نحفظَ لأنفسنا شيئًا من المُتعة والترويح والمُكافأة الطيِّبة، وكلها يُمكن أن تكون دعوةً لمكروبٍ، أو بُشرى نزُفّها لملهوفٍ، أو طعامًا نُطعمه ودقائقَ نتشاركها على الموائد وفى الطرقات، كما قد تكون ساعةً دافئة بين الأهل والأَحِبّة، أو فُرجةً دراميّة برفقة صديقٍ أو زميل، العبرةُ أن تكون الأيامُ مُثمرةً لنا وللآخرين، وفى التصدُّق وخدمةِ الآخرين ما يُرقِّى شعورَنا، ويُهذِّب ذواتنا، وفى الفن والجمال ما يُنفِّس طاقتنا السلبيةَ ويُجلى جوهرَنا العميق، فإذا ما خرجنا من رمضان كما دخلناه؛ فقد خسرنا فرصةً ذهبيّةً لتقويم اعوجاجنا، أو تثبيت ما نُحبّه فى أنفُسِنا، أمَّا لو انعكس علينا بالإيجابية فيما بعده فقد ربحنا، والطريقُ إلى الله بعدد أنفاس البشر، وقد تُحصِّله فى حلقة ذِكرٍ ومجلس عِلم، أو فى لحظة أُنسٍ وتَسرية تهديك بسمةً أو رسالةً؛ ما كنت بالغَها بوجهٍ عابس وشفتين مزمومتين.
 
والحالُ أن رمضاننا الجديد ليس كسوابقه، بالمنطقِ البسيط؛ فإنَّ الأيام ليست توائمَ سياميَّة، ولا يقعُ لها حافرٌ على حافر، مرَّ عامٌ على آخر صَومٍ، والهواء الذى نتنفَّسه غير ما تنفَّسناه من قبل، والوجوه والتفاصيل والأحلام والامتحانات، وكذلك الدراما وبرامج التليفزيون وقطعةُ اللحم على سُفرة الإفطار، كلُّ شىءٍ غير ما جرَّبناه سابقًا؛ ولو بدت التفاصيل مُتشابهةً لحدِّ التطابق، ولا يخفَى أننا نعيشُ أجواءً استثنائية، وقد مَسّتنا عواصفُ العالم والإقليم، وتبدَّلت أحوالُ بيئتنا لظروفٍ من الداخل والخارج، وإذا كان التضامنُ قيمةً مطلوبةً فى كلِّ وقتٍ؛ فإنه الأسمى والأعلى طَلبًا فى أوقات المِحَن والأزمات الطارئة، ولا شىءَ يعلوه قيمةً وأثرًا فى ليالٍ مُباركةٍ كرمضان، والخيرُ الذى يُحسِنه المصريون ويتفنَّنون فيه طوالَ الوقت؛ هُم مَدعوّون الآن إلى تكثيفه وإتقانه وحُسن صناعته، كما يفعلون فى عباداتهم وتراويحهم، كمُمارسةٍ أَوَّلُها إفشاءُ المحبَّة واللِين فى القول والفعل، وذُروتها بَذلُ الطاقة والمال، وعَمودُها ومحورُ ارتكازها ألَّا نكون كالتى نقضت غزلَها، بحسب التشبيه القرآنى، فنُحسِنُ فى جانبٍ ونُسىء فى آخر، ونتحصَّلُ على ما نعتبره حقًّا لنا من الشهر، ولا نمنحُ الشهر والناسَ حقوقَهم علينا، كأننا نُعاملُ الله بالقطعة، أو نتحايلُ على فلسفة الصوم نفسها، وأَجَلّ ما فيها أن ينقطع الحلالُ بمقدارٍ، وينقطع الحرامُ بكلِّ المقادير.
 
لستُ داعيًّا دينيًّا، ولا أحبُّ أن أكون، رغم وافر الاحترام للذين اختاروا مسارَ الدعوة بزُهدٍ واستقامة؛ لكننى لا أرى الدينَ مصفوفةً من النصوص والعبادات فحسب، إنما تكتمل قداستُه بانخراطه العميق فى الحياة الفردية، بحيث يكون ناظمًا لسلوك الفرد، لا مُجرَّد خطابٍ يتطايرُ بعشوائيّةٍ وطَيشٍ فى المجال العام، ولعلَّ المُعاملات أَهمّ ما فى كلِّ العقائد، وأكثرها تكرارًا بين الأديان على تنوُّعها واختلافها، يختلفُ المسلمون مع غيرهم من السماويِّين والوضعيِّين فى الثوابت والطقوس؛ لكنَّهم جميعًا يتّفقون فى البديهيات الإنسانية، إذ لا خلافَ على قِيَم المحبَّة والخير والجمال وحُرمة حياة الإنسان وماله، وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ رمضان يتَّخذ هيئتَه الظاهرةَ بالصوم والصلاة؛ لكنَّ جوهرَه لا يخرجُ عن عودة الصائم لفِطرته الندِيّة فى مُعاملة الله والناس، والفِطرةُ تُحبّ الترويحَ عن القلوب لأنها تصدأُ كما يصدأ الحديد، وتستنكفُ الكذبَ والخداع والتضليل، ولا تنسجمُ إطلاقًا مع التعالى على مَواجع الآخرين؛ ناهيك عن الشراكة فى صُنعها أحيانًا،
نحتاجُ فى رمضان أن نُجدِّد مواثيقَنا مع الذات والعالم، أن نكون أكثر إقرارًا بضَعفنا، وأكثر رغبةً فى التحرُّر منه على وعىٍ وبيّنة، وفى سياقٍ لا يخلو من مُنغِّصاتٍ؛ فإن مهمَّتنا جميعًا أن نتكاتف لتمرير أوقات الضيق، وإعانة غيرنا على أن يكون قادرًا على العبور المُتّزن: لا يخجل من هشاشته، ولا ينكسرُ أمامَ الضغوط المُلقاة على كتفيه، وتلك الفكرة قانونٌ مُجرَّدٌ يسرى على صغائر الأُمور قبل كبائرها؛ من أوَّل الكلمة العابرة إلى الفعل الماسّ بأصلٍ من الأصول، لا فارقَ بين أن تقول ما يؤذى باللسان، وأن تفعله باليد والإرادة وسَبق الإصرار، والخير ما أسدى للغير معروفًا وصنع يومه على غير ما كان يخشاه؛ فالبسمةُ خير، والصدقةُ والإطعام، وكَفّ الأذى واحترام القانون، وحتى الإحسان للذات بمُمارسةٍ تُحبّها أو وجبةٍ تُفضّلها أو مُسلسلٍ يُبهجك، كلّها خيراتٌ نُثاب عليها كما نُجزَى عن الآخرين؛ على الأقل لناحية أننا لو ابتهجنا وتعافينا نفسيًّا، فقد تتعاظم فُرَص ألَّا نكون سببًا فى إيذاء مَنْ حولنا أو التسبُّب فى تعاستهم.
 
خَطَت الدولةُ على طريق الإصلاح، والأوضاعُ مُبشّرة فى قادم الأيام؛ لكننا حتى اللحظة نتلمَّس طريقَ التعافى، ولا يُمكن إنكار أنَّ المرحلة فيها من الصعوبة ما يَستحثُّ قيمةَ التكافُل، ويدعونا للتخلِّى عن الأنانية والانتهازية وكلِّ ما يُخالط نفوسَ البشر من مساوئ، تغيَّرت الأسعارُ عمّا كانت عليه قبل سنة، ورغم الجهود الحكومية، وحِزمة الرعاية الاجتماعية التى وجّه بها الرئيس؛ فإنَّ التكاليف ما تزال عاليةً وتُرهق ميزانيات كثيرٍ من الأُسَر، كانت موائدُ الرحمن وأنشطةُ البِرّ عَونًا للفقراء فى المواسم، ونحتاجُ اليوم إليها أكثر من ذى قبل، صحيح أن الكُلفة ارتفعت على أهل الخير أيضًا؛ لكنهم بالتضامن والشراكة وحُسن التدبير واستهداف المُستحقِّين الفعليِّين، يُمكن أن يُعزِّزوا أثرَ فوائض أموالهم وما خصَّصوه لوجه الله، والخيرُ فى الترشيد أيضًا؛ إذ الشهرُ للروح أكثر من البدن، وللجوهر لا المظهر، وحُسنُ الانتفاع لا خِفّة البذخ، وقد يُستَحسَنُ أن تتَّخذ الموائدُ طابعًا تكافليًّا، فالوجبةُ الأُسرية التى يُهدَر نصفُها عبثًا يُمكن أن تُقسَّم على فردٍ أو اثنين بجانب الأسرة، من الجِيرة أو المَعوزين وعابرى السبيل، فتتحوَّل مائدةُ الخير من مُؤسَّسةٍ مُشهَرةٍ فى سرادق إلى ورشةٍ صغيرة فى كلِّ بيتٍ ومطبخ، ويتلاقى مع ذلك أن يرتدعَ التجّارُ الجشعون، وأن تتقدَّم أخلاقُ رمضان على نوازع الربح وتضخيم الثروات؛ فلا يكونُ الإحسانُ حصرًا فى الزكاة والصدقات، بل يتكاملُ مع كَفّ الأيدى عن أقوات الناس وأموالهم، والتعبُّد بالنزاهة والتجرُّد مثلما نتعبَّدُ بالصلوات والأدعية.
 
لا أُحبّ أن يبدو الأمر خطابًا أخلاقيًّا أقرب للشعارات، وأنحاز لما قاله الرئيس السيسى فى الندوة التثقيفية ليوم الشهيد قبل يومين، حينما أشار إلى أن الدولَ والأسواق تنضبطُ بالنظام والقوانين؛ حتى لو تساءلنا عن التناقض الذى يسقطُ فيه البعض، بين دعايات الإيمان والطاعات، وممارسات الإنكار والاستغلال، والحكومةُ بالتأكيد مَدعوّةٌ إلى استكمال مسارها الإصلاحى، بما يُواكبه من تشديدٍ للرقابة وتفعيلٍ لسيف القانون، وردعِ المُحتكرين والمُستغلّين بكلِّ الأدوات التنفيذية والعقابية المُتاحة؛ لكن يظلّ الباب مفتوحًا فى مجال الجدل والمُحاججة، لنُخطِّئ الصائمينَ الساعين لمرضاة الله إذ يمدُّون كفوفهَم فى جُيوب الآخرين، ويستحِلّون ما لا يحقّ لهم بالحقِّ والعدل ومنطق التجارة القويم، إنها ليست دعوةً أخلاقيّةً طُوباوية مُتفائلة، بقدر ما هى إقامةٌ للحُجّة بمنظومة الاعتقاد التى يعتنقونها، بالتوازى مع ما يتعيَّن أن تُنجزه الأجهزة والمُؤسَّسات بالحجيّة التى تُناسب مُعتقَد الدولة؛ أى بالقوانين والإجراءات الحاسمة.
 
لدينا وفرةٌ فى الروحانيّات، الجميعُ مُتأهّبون لرمضان، ويُداومون على العبادات وقراءة القرآن أضعافَ ما فى أيّامهم العادية؛ والباقى أن تنتقل تلك الحالةُ إلى بَقيّة الموضوعات والتفاصيل، ثمّة جهدٌ بارز للمجتمع المدنى، ووزارة الأوقاف أطلقت صكوكَ الإطعام، وخصَّصت جزءًا منها لأهلنا المنكوبين فى غزّة، وكثيرٌ من الوزارات وأجهزة الدولة تنشطُ عبر الإعانات الغذائية أو معارض السلع مُخفَّضة الأسعار، وبالتكامل مع ذلك؛ نحتاجُ لإعلاء حالة التكافل الاجتماعى، فى كلِّ منطقة وشارعٍ وبِناية سكنية، والاهتمام بالموائد وشُنَط رمضان بأكثر ممَّا كان فى السابق، وأن تتوب عصاباتُ التجارة الحرام عن انفلاتها قليلاً؛ فالشياطين نفسها تُكَبَّل فى تلك الأيام المُباركة، أمَّا فيما يخصُّ بقيّة الأجواء، فلدينا زخْمٌ فى المحتوى الجاد والترفيهى، والقنوات المصرية تبثُّ عشرات البرامج الدينية، ونحو عشرين عملاً دراميًّا، تتنوَّع فى فئاتها ومضامينها وأحجام إنتاجها، وتُتيح معروضًا يُلبِّى طَلب كلّ الأذواق، ويضعُ التثقيف والإشباع على قَدم المساواة مع الترويح والإمتاع، ولعلَّ من حالة رمضان أن نبتهج بما أنجزه أهلُ الفن، ونَكُفّ عنهم سخافات السوشيال ميديا التى تبتذل جهدهم، أو تستحلُّ التهجُّم عليهم خارج إطار الرأى المنضبط والنقد المشروع، إنَّ البهجةَ لتَتَحصَّلُ بالطاعات كما بالمعرفة والإبداع، وإذا كان الشهرُ لا يكتسب طابعَه إلّا بالروحانيّة والخير؛ فإن أجواءه لا تكتمل من دون المُتعة بالفن، وقد صارت طقسًا مُكمِّلاً لطقوسه، كأنها رشَّة المكسَّرات على طَبق حَلواه السنوية.
 
 بدأ الموسمُ فعليًّا، وعلى قِصَر أيّامه فإنه «ماراثون» طويلٌ ومُجهد، الساعون للخير لديهم من أبوابه ما يسَعُ طاقاتهم ويُثرى محفظةَ إحسانهم، والمُهتمّون بالبهجة لا تنقصهم فُرَصُ الوصول إليها فى كلِّ وقتٍ ومن عديد الطُرق،، كلُّ البطون تجوعُ فى رمضان؛ والمطلوب أن تشبعَ معًا عندما يحلُّ أوانُ الشبع، وألَّا يمسَّ جوعُها العارضُ شِغافَ القلوب والعقول، إنَّ فلسفةَ الصيام أن نأخُذَ من المَعدة لنُضيف إلى الروح، وتلك تتحصَّل مَؤونتها من لَجْم الغرائز وتهذيب الشهوات، وترقية الوعى والبصائر، والبحث فى رُكامنا القديم عن ولادات جديدة؛ فليكُن الشهرُ تدريبًا جماعيًّا على أن نكون أرقى وأكثر إنسانية، وأن نبتهجَ بالإبداع كما نتحصَّن بالاتّباع، وبالغيرية كما بالذاتية، وأن نلتمس الجميلَ الذى يُغطيه تُرابُ الأيام العادية فى داخلنا؛ ليصيرَ العالمُ جميلاً، بقدر ما سنصيرُ أجملَ مما كُنَّا، وأقربَ لِمَا نتمنّى، كلُّ عام وأنتم بخير، ورمضان كريم.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة