آلافُ المُصلِّين فى الأقصى؛ رغم تعنُّت الاحتلال وقيوده، والغزِّيون الذين يَصِلون النهارَ بالليل، بين جوعِ الصيام لله، وتجويع العدو بطشًا وتنكيلاً، يُقيمون صلواتهم على أنقاض المساجد المُهدَّمة. جُوعان مشبوكان ببعضهما: الأوَّلُ على نيّة التعبُّد، والآخر من قصديَّة الاستعباد، وقد دخل رمضانُ وتأخَّرت الهدنةُ عمَّا وعد الرئيس الأمريكى، فلم يجد ما يُلطِّف إخفاقاته فى خطاب «حال الاتحاد» قبل أسبوع؛ إلَّا الحديث عن مُواصلة إسقاط المُساعدات جوًّا، وتوجيه جيشه لبناء رصيفٍ عائم لتمرير احتياجات أهالى القطاع، لقد تعرَّت وحشيّةُ الصهاينة بأكثر ممَّا كان مفضوحةً لعقود، وفضحت معها وجهَ الولايات المتحدة شديدَ الانحياز والتناقض؛ أمَّا الفلسطينيون فيُؤكِّدون عمليًّا أن إرادةَ الحياة أعلى من ترسانة القمع، وأنها أشرسُ صور المقاومة والثبات على ثُغور القضية، وأقواها مناعةً وتحصينًا ضد كلِّ مُحاولات التذويب والإنكار وسرقة الحقوق العادلة.
قبل أسبوعين كان «بايدن» يُبشّر بتهدئةٍ وشيكة؛ ثمّ عاد ليسحب وُعودَه بعدما تشدَّدت حكومة نتنياهو فى المفاوضات، والواقع أن ضِباع تل أبيب ما أفرطوا فى القتل والعناد إلَّا لِبُؤس شُركائهم فى واشنطن. وقد أمَّنوا لهم إسنادًا عسكريًّا لم ينقطع منذ 7 أكتوبر، بنحو مائة صفقة تسليحٍ خفيَّة ومُعلَنة، ثمّ أسدلوا غطاء السياسة على مُمارساتهم الفجَّة، برَفع بطاقة الفيتو ثلاث مرَّات فى مجلس الأمن، والدفاع عنهم أمام محكمة العدل الدولية، فى قضية جنوب أفريقيا، كما فى جلسة الفتوى التى طلبتها الجمعية العامة بشأن تبعات الاحتلال وآثاره القانونية، ولم يخلُ الأمرُ من مناوراتٍ وضغوط على الغرب والشرق؛ لأجل امتصاص فائض التوتُّر والإدانات، وإبقاء إسرائيل آمنةً من ميليشيات الإقليم، ومطلقةَ اليد ضد الأبرياء، وهذا ممّا يطعنُ فى موقف البيت الأبيض ودعاياته الإنسانية؛ إذ لا يستقيمُ أن تبكى على القتيل بينما تُعِين القاتلَ. ولعلّ البكاء لا يتجاوز لُعبة تقطيع الوقت، وتضليل الرافضين للعدوان، وأوَّلاً وأخيرًا خداع الناخبين فى موسم الرئاسة، بعدما تبدَّى أن ورقة غزَّة ربما تضغط على فُرص الرئيس الديمقراطى فى ولاية ثانية.
تتصرَّف واشنطن ميدانيًّا كطرفٍ مُباشر فى الحرب، وتتحرَّك أخلاقيًّا كأنها فرعٌ للصليب الأحمر؛ وليست حليفَ إسرائيل الأول، والقوّةَ المُهيمنة على مقاليد النظام الدولى؛ لدرجة تنشيطه فى أوكرانيا وتعطيله فى فلسطين. وإذا كانت عدَّلت جانبًا من خطابها بالأسابيع الأخيرة؛ فإنه كان سلوكًا اضطراريًّا إزاء صلابة بعض المواقف العربية، وارتفاع منسوب الغضب تجاه فداحة الحرب وكُلفتها الباهظة. وكلّ ما فات يكفى للطعن فى الرؤية الأمريكية، والشكّ فى نواياها؛ حتى عندما تتكلم بلسان مُنظّمات الإغاثة، وتخلطُ بخطابها شيئًا من الأخلاقية. وما منعتها النكهةُ القِيَمية من إبادة اليابانيِّين بالقنبلة الذريّة قديمًا، ولا من تخريب العراق وإرجاع أفغانستان عقودًا للوراء، وتمكين الحوثيِّين حديثًا قبل أن تكتوى بنارهم عند مدخل البحر الأحمر. إنها عادةُ الحواة التى أدمنتها وأسَّست حقبتها الامبراطورية على دعائمها، وبينما كانت تستفيد منها حصرًا لمشروعها الخاص؛ باتت تلعبُ دورَ الوكيل، وتصرفُ رصيدَها لفائدة قاعدتها الاستيطانية المُتقدّمة، ولا تكتفى بإسقاط الفجوات المنطقية فيما بين خطاب الدولة الديمقراطية الحديثة، وسلوك الكيان الدينى المُعبّأ بالرجعية والميثولوجيا الفاقعة. فكأنَّ حارسَ العالم الحرّ يشتغلُ «مندوب تسويق» لدى الأُصولية الجارحة، ويحرسُ حقل الموت مُتجاهلاً كلَّ ما فى تُرابه من دبيب الحياة؛ فتصير لمستُه الإنسانيةُ تأويلاً خفيفًا وعديمَ المعنى لقبضته الدمويّة. إن «بايدن» على أرقّ التوصيفات يرتدى زِىَّ مُهرِّج عجوز، ويحمل المنجل سائرًا فى مواكب حاصدى الأرواح.
وإذا كانت الصدمةُ من وقاحة الرجل الأبيض المُتحضِّر مُعتادةً؛ فإن نكبتَنا الصاعقةَ فيمن يقفون فى صفِّ المظلوم ويرقصون رقصةَ الظالم. فمنذ البواكير وُضِعت غزَّة على طاولة المُقامرة، ولم يكن مطلوبًا أن تقضى خمسةَ أشهر فى النار لتعرف أن أعداءها والذين يدّعون صداقتها قد تكالبوا عليها بالشراهة نفسها. قِيلَ الكثيرُ عن شعارات «وحدة الساحات»؛ ولعلَّ بعض الأقاويل كانت حافزَ الفصائل على المغامرة، وإطلاق «طوفان الأقصى» دون أُفقٍ سياسى أو ترتيبٍ لما بعدها. ثمَّ عندما غرست الصهيونيةُ مخالبها فى أبدان النساء والأطفال؛ انطفأت الخُطَب العصماء وسقطت الرايةُ السوداء الجامعة. والحقّ أنهم ما حضروا فى الهجوم ولا الدفاع، وما فتحوا جبهات الإسناد كما تاجروا، ولمَّا استفحلت المحنةُ لم يُطعموا جائعًا أو يُطبِّبوا مُصابًا. التيَّار الذى يزعمُ المُمانعةَ يُتاجر بالقضيّة لغير صالحها، ولا يقف وراءها بالحرب أو الإغاثة، وربما ينحصرُ غرضُه فى مُقايضة نهر الدم الهادر برِبحٍ حاضر أو مُؤجَّل خارج فلسطين، ولأنّ القاتلَ يعرفُ دناوةَ خصومه ورُعونتَهم؛ واصل مهمَّته العنيفةَ مُوقنًا أنه ليس مُضطرًّا لأىِّ تنازل، ولا خطرَ عليه فى معركة الحناجر والبطولات الزائفة.
تبدَّلت الأوضاعُ عمَّا كانت زمن انتفاضة الحجارة، ثمّ فى نسخةٍ تالية حملت اسم الأقصى، وكانت مُنتميةً له أكثر من كلِّ الفعاليات التى استعارت رمزيّته أو ادَّعت الانتماء له. نظرةٌ سريعة على الإقليم تكشف أنّ كلَّ الذين سرقوا القُدسَ ليُزيِّنوا بها خُطَبَهم وبيارق ميليشيّاتهم، ما أطلقوا رصاصةً باتجاهها ولا لصالحها، والقطاعُ الذى خُصِم قهرًا من خريطةٍ مُقطَّعة الأوصال، قضى عقدين مُستقلًّا داخل قفص الاحتلال؛ ثمّ عندما أراد أن يكسرَه أسقط قضبانَه على رُؤوس المحبوسين؛ فمات البعضُ وما تحرَّر الباقون، وصارت الأمورُ أسوأَ من زمن أوسلو المذموم من الإسلاميين، وكانت بذرةُ السوء فى الانقسام طمعًا بزعامةٍ لا تتوافر شروطُها، على جغرافيا لا تحوزُ أوراقًا ثبوتيّة أصلاً. الثابت الوحيد هُم الفلسطينيون، الأفراد لا الجماعات، وقد ناضلوا فى السِّلْم والحرب بكلِّ ما فى صدورهم من أمل، وما فى أرواحهم من محبَّةٍ للأرض وإخلاصٍ لحياتها وحياتهم.
إذا كان الاستسلامُ جُبنًا مرفوضًا؛ فالمُكابرة فى غير سياقها سذاجة وانتحار، أمامك عدوّ مجنونٌ وبندقيّته محشوَّة بالبارود، وكل ما يُريده أن تمنحه مُبرِّرًا تافهًا لإطلاق النار، للأسف تكفَّلت حماس وأخواتها فى القطاع بذلك، ولا أُدين المقاومة أو أسلبها حقَّها، كما لا أُبرِّئ الاحتلال أو أقبلُ تفسيراتِه المُحرَّفة؛ إنما أُفتِّش عن زاويةٍ منطقيّة تشرحُ قفزة الفصائل فى الجحيم؛ فإن كانت تغافلت عن المخاطر اللاحقة فقد استسهلت إشعال المحرقة، وإن توقّعتها فقد ألقت الناسَ فيها دون عقلٍ أو مَغنم، والمأزقُ أن التلاقى على الجنون فى بادئ الأمر، يكتملُ بالتلاقى على سرديَّاتٍ مُشوَّهة فى خواتيمه؛ قد تبدو مُختلفةً ومُتضادّة ظاهرًا، لكنها فى الجوهر تغرفُ من بئرٍ واحدة، وتصل لمآلاتٍ مُتطابقة.
عندما وصف جنرال العدوان يوآف جالانت أهلَ غزّة بأنهم «حيوانات بشرية»؛ لم يكن يُنفِّس طاقةَ غضبه أو يُغنى على نغمة جمهوره المشحون. إنها عقليّة إسرائيل التى تُجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم؛ لتُؤسِّس خطابًا يَصِم الخصوم ويُدينهم، ثمّ يُبرِّر تقتيلَهم أو عقابهم جماعيًّا. وفى المقابل؛ فإن سردية البطولة والصمود تحت القصف، وإنكار الضعف والهشاشة وحقّ الناس فى الخوف والاختباء، ليست إلا تنويعةً أكثر بلاغةً وعاطفيّة على لحن «تشيىء» الفلسطينيين ونَزع إنسانيّتهم. القاتلُ يقول إنه يستهدف حيواناتٍ لا تعرفُ التمدُّنَ والقيمَ، وأهل القتلى يقفزون على أحزانهم ليقولوا إنهم آلاتٌ معدومة الشعور، أو أُضحيات منذورة للموت المجانى، وفى أعلى صُور المكايدة والاستفزاز يتصنَّعون الثبات كما لو أنهم لم يخسروا أحدًا، أو أن طوابير النعوش أرخص عليهم ممَّا هى على العدوّ. وهكذا تكتمل المُفارقة السوداء؛ أن يلتقى المُحتلّ والمُقاوم على جُثث الضحايا. كأنَّ القضيةَ شعارٌ هُلامى مُعلَّق فى الفراغ، وليست بشرًا مع الأرض، وربما قبلها وقبل الخريطة والمقدسات وحلم الدولة.
أحدُ المُحلِّلين فى قناةٍ إخبارية شهيرة، أدمنَ تحويل المأساة إلى مُباراة، والخروج على الناس بهيئة مُعلِّقى الكُرة ومُحلِّليها، وبعيدًا عن ميوله الإخوانية؛ فقد صار من حيث لا يعى أو يُريد بوقًا للبروباجندا الصهيونية، فقدت الحربُ معانيها الواقعيّة لصالح استعاراتٍ عاطفية يكفيها أن تصرفَ انتصاراتها كلامًا، حتى لو شيَّعت مُقابلَ الكلمة شارعًا أو مدينةً بكاملها، وعلى هذا؛ صار العدوانُ لعبةً تُحصَى فيها النقاط، وكلَّما تطاولت كومةُ الجُثث؛ تقدَّمنا معنويًّا لأن المُشجِّعين ينتشون بالأشلاء، وتقهقرنا ماديًّا لأن الأرض تفقد ما يربطُها بالحياة، أبناءها وساكنيها. فالمُؤسف أنه رغم حجم العداوة وتاريخها المُلطَّخ بالدم؛ حينما نقع فى مُواجهةٍ مُباشرةٍ مع العدو نستعير منطقَه ونلعب بطريقته، وإذا كان يرانا حيواناتٍ زهيدةَ السعر؛ فإننا لا نُخطِّئه ولا نسعى للدفاع عن آدميّتنا، وشرطها أن نكون بشرًا طبيعيِّين، نخافُ ونحزن ونبكى ونهرب من الموت لو استطعنا، ولسنا خِرافًا على المذبح، يُهلِّل الجزار كلَّما نَحَر واحدًا، ويُهلِّل جيرانُ الحظيرة لأنَّ السُّلالةَ لا تفنى ولا تخشى السكاكين.
ليس أفضل من موسم الصيام لتصويب السردية البائسة، أهلُ غزَّة كبقيَّة الناس، خُلِقوا ليعيشوا ويُحقِّقوا بطولاتهم بالحياة لا الموت. وهم ضعفاء ومأزومون، ومهزومون أيضًا أمام آلة قتلٍ مُتوحِّشة، ولم يختاروا الذهاب فى طابور الفداء الذى رَصّه آخرون واختبأوا فى الأنفاق، أو يُشرفون على المقتلة من فنادقهم الفاخرة فى عواصم آمنة. كما لم يستشرهم أحدٌ فى التضحية ومواعيدها، ولا فى الطريقة التى يُحبّون افتداءَ أرضهم بها، ربما لو خيَّرت شابًا مِمَّن دُفِنوا غدرًا لاختار أن يحملَ السلاح ويُقاوم، أو أن تكون وسيلته للمُقاومة أن يتعلَّم ويُنتجَ ويُحبّ ويُنجب، وأن يضعَ إسرائيل أمام المُعضلة الديموغرافية، بدلاً من مُعاونتها كلَّ عدّة سنوات على تنفيذ استراتيجية «جَزّ العُشب»، وترشيق أعداد الفلسطينيين وإعادة رسم خرائط الصراع بما يُناسبها أمنيًّا. كلُّ شهيدٍ يختزلُ عُمرًا وأحلامًا، وأسرةً ربما أفادت القضية مُستقبلاً بأفكارٍ أعمق من نزوات الفصائل وتحالفاتها المُلوّنة، وربما خرج منها من يُعيد سيرة عرفات أو يستكمل مسيرة مروان البرغوثى. فالضحايا ليسوا أرقامًا كما يراهم العدو، وكما يُباهى بهم الأصدقاء والمُزايدون.
لم تكن غزَّة طوال العقدين الأخيرين مأزقًا للصهاينة. فالأرجح أنهم ارتاحوا للانقسام، وكانوا معنيِّين بتمكين حماس من القطاع؛ ليظلَّ وَصلُ الجغرافيا المُحتلة ببعضها مُستحيلاً، ودعائيّة التشرذم وغياب الشريك صالحةً للتداول، المآزق كلُّها كانت فى الضفّة؛ لأنهم ينتصرون للحياة فى وجه الموت، ويُقاومون يوميًّا بصلابتهم أمام زحف المُستوطنات وهمجيّة المستوطنين وحواجز التفتيش، كما لا يخجلون من الضعف ولا يُخفون همومَهم وآلامَهم. فإن كان عصيًّا عليهم النصرُ بالسلاح، مع فارق القوة واختلال موازين العالم؛ فالحلّ أن ينتصروا بالبقاء على ثُغور الأمل، وألَّا يُفرّطوا فى صلابتهم إذا امتُحِنَت، وألَّا يدَّعوا البطولة حينما يحتاجون إظهارَ الوجيعة الصافية وفضحَ العدو المُجرم.
ثمّة تيَّار يُناضل على جُثث العُزّل، ولسان حاله: ثابتون لآخر قطرةِ دمٍ فلسطينية، وليس لأحدٍ أن يتبرّع بالأرواح إلا أهلها، هذا الفريق احتفى بمشهدٍ لمُلتَحٍ ينهرُ شابًّا يبكى راحليه، وتكرَّر الموقف بتنويعاتٍ شتّى. إنها البطولة القسرية حينما تتأتَّى من ولاداتٍ مُتعسّرة، ولا فارقَ بين الإلحاح على فكرة «شعب الجبارين» وسط الأطلال وأكوام الرفات، وأن يخرج «أبو عبيدة» مُتفاخرًا بما لا يُناسِب سياقَ الفجيعة، ولا يُعبِّر عن القطاع وقد صار سرادقَ عزاءٍ وموكب جنازات لا تنقطع، فى المُقابل؛ تمارسُ إسرائيل البطش لسادسِ شهرٍ، ولم تتوقَّف عن أكاذيب قتل الأطفال واغتصاب النساء يوم الطوفان، وتتلطَّى وراء ستار الضعف والمظلومية، وتستثمرُ أهالى المخطوفين فى إطلالاتٍ دعائية للداخل ورحلات ترويجٍ بالخارج. نتنياهو وعصابته يقتلون ويبكون، و»السنوار» ورجاله يدفنون القتلى ويدّعون أنهم الأقوى ولهم اليدُ العُليا، وفضلاً على التناقض؛ فإن دعايةَ الصمود تستفزُّ السفَّاح وتستنفر طاقةَ عنفه، العالية أصلاً، ولا تحرمه ورقةَ التبرير كلَّما قالت «حماس» إنها على حالها؛ فتُؤكِّد واشنطن والغرب بقاءهم بجانب إسرائيل حتى تصفية الحركة.
العالمُ ظالم، وأمريكا تُمارس الانحطاطَ علنًا، ولا حاجةَ لمزيدٍ من بلاغة النقد والهجاء. بعضُ المُتمسِّحين بالقضية كَذِبًا لا يقلِّون انتهازيةً ووقاحة عن المُتشدِّدين ضدَّها، والناس يدفعون فواتير المخابيل من الجانبين: العدوّ الوضيع فكرًا وسلوكًا، والشقيق المُتعالى على كلِّ شىءٍ حتى أرواح إخوته. وما بين جوع التعبُّد فى نهارات رمضان، وتجويع الاستعباد قبل شهر الصوم وفى لياليه، لا يبدو نقصُ الطعام أكبرَ الاستعصاءات؛ بل نظرة كلّ طرفٍ للأزمة: إسرائيل تُبيد بلدًا أمام أعيُن القانون، والمُمانعون يُحصون الجُثث لا لشىءٍ إلَّا الحصول على مُقابلها نقدًا، أو بتسهيلات فى السياسية ومناطق النفوذ، وواشنطن تقترحُ رصيفًا بحريًّا يضمن لها تطويقَ القطاع عَونًا لحليفتها، وربما تيسيرًا لمُخطَّط التهجير الطوعى أو القسرى مُستقبلاً. لن يتوقَّف المُحتل عن القتل؛ وإنما يجبُ أن يتوقَّف صاحبُ الأرض عن الانتحار.. للجائعين بهجةُ الصوم والتراويح، وأمَّا مَظلمتُهم فتتعلَّق فى رقابٍ ثلاثة: القاتلُ المُنحطّ، والتاجر المُراوغ، وشاهدُ الزُور العجوز هناك فى البيت الأبيض، وقد صار لُبَّ المأساة وراعيها، وانحدر لصيغةٍ تجمع أردأ ما فى تاريخه من إبادةٍ، بأسوأ ما تبقّى من مُخلّفات الكولونيالية الغربية. وكُلَّما تعالت روحانيّاتُ غزّة والضفّة، وتقدّم نضالُ الاعتصام بالحياة على بُطولات المخابئ الزائفة، يخسرُ المُعتدى أرضًا وسرديَّاتٍ لصالح الضحايا، وبتوسعة مجال الرواية تنتصرُ فلسطين؛ إذ لا دولةَ ولا مُقاومةَ ولا جدوى أصلاً لو ظلَّ الموتُ أعلى صوتًا من الحياة.