بيشوى رمزى

غزة و"التعددية الجزئية".. والانتقال من الهيمنة المطلقة

الجمعة، 15 مارس 2024 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تبدو الأحداث الكبيرة التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة، جزءً لا يتجزأ من حالة المخاض الدولي، والذي يعيش حاليا طور الانتقال من حقبة الأحادية المطلقة، والتي بدأت منذ التسعينات من القرن الماضي، مع انهيار الاتحاد السوفيتي، نحو ما يمكننا تسميته بـ"التعددية الجزئية"، في ظل صعود كبير للقوى المنافسة للولايات المتحدة، وعلى رأسها الصين وروسيا، وكذلك تصاعد الدور الذي يمكن أن تقوم به القوى الإقليمية البارزة في مختلف مناطق العالم، لتصبح شريكا حقيقيا في صناعة القرار العالمي، وهو ما يتجسد في العديد من المشاهد التي أحاطت بالأزمات الأخيرة، سواء على استحياء، كما هو الحال في الأزمة الأوكرانية، أو بصورة أكثر وضوحا كما في أزمة غزة.

والحديث عن حالة "التعددية الجزئية" ربما يبدو أكثر واقعية من وجهة نظري، مقارنة بالرؤى، التي باتت ترى "ضمور" أمريكي حاد، لصالح القوى الأخرى، وإن كانت من الممكن أن يكون المصطلح معبرا عن مرحلة انتقالية بين الهيمنة المطلقة، والتعددية الكاملة، التي يربو إليها البعض، حيث أن واشنطن ربما تراجعت بالفعل، من حيث حجم التأثير، إلا أن القرار العالمي مازال مرتبطا بها إلى حد كبير، بحكم ما تملكه من أوراق، سواء في الاقتصاد أو التكنولوجيا، تتفوق فيها بخطوات واسعة عن منافسيها الدوليين، ناهيك عن سطوتها السياسية على العديد من المنظمات الدولية والاقتصادية العالمية الكبرى، بالإضافة إلى ضبابية المرحلة المقبلة، في ضوء احتمالات عودة ترامب، والذي يضع هدفا رئيسيا أمامه وهو "استعادة قوة الولايات المتحدة"، وهو ما يمكن أن نستلهمه من شعار حملته الرئاسية الأولى، في 2016 "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا"، وهو ما يعكس رؤيته للتراجع الذي تشهده بلاده، ويمكن ترجمته بأنه لديه خطة ما، بدأ بتطبيقها في حقبته الأولى، عبر مطاردة الصين تارة، وتغيير قواعد التعامل مع الحلفاء، خاصة في أوروبا تارة أخرى، مع انتهاج أسلوب جديد للتعامل مع مناطق الأزمات يبتعد تماما عن الانغماس المباشر في مستنقع الحروب تارة ثالثة.

ولكن بعيدا عن أوضاع الولايات المتحدة ومستقبلها، أو حتى منافسيها الرئيسيين (روسيا والصين)، تبدو الحاجة بالأكثر إلى الحديث عن دور القوى الإقليمية، في إطار نظام عالمي "متعدد جزئيا"، في ظل العديد من المعطيات، أبرزها تمدد وامتداد الأزمات الإقليمية في مختلف مناطق العالم، سواء جغرافيا، لتبتلع بتداعياتها الكارثية مناطق أخرى، وهو ما يفرض، في الحالة الأوروبية على سبيل المثال، مواقف قد تتعارض في جزء منها مع ما يتبناه الحليف الأمريكي، أو فيما يتعلق بالمقارنة بين مواقف الدول وأوروبا موحدة، وهو ما يتطلب تغييرات جذرية، ربما أبرزها التعامل مع ما أسميته في مقال سابق بـ"اختطاف السيادة"، والتي تحمل شقا مرتبطا بالتبعية للولايات المتحدة من جانب، والالتزام بما يقرره الاتحاد الأوروبي من مواقف وقرارات من جانب آخر.

ولعل التحرر من الهيمنة على الدول في القارة العجوز، سواء من قبل واشنطن أو الاتحاد الأوروبي، قد بدت الحاجة إليها بصورة كبيرة، خلال أزمة أوكرانيا، خاصة مع اقتراب الصراع جغرافيا من مناطق القارة واحتمالات تمدده إلى دول أخرى، بالإضافة إلى التداعيات الكارثية الكبيرة على الدول، والتي طالت قطاعات حيوية، أبرزها قطاعي الطاقة والغذاء مما ساهم بصورة كبيرة في أوضاع اقتصادية صعبة ترجمتها موجات التضخم العاتية وارتفاع الأسعار، وهو ما يضع الحكومات في مأزق أمام الشعوب.

إلا أن استجابة الدول الأوروبية ربما لم ترقى إلى المستوى المناسب لحجم الأزمة الأوكرانية، وهو ما يرجع في جزء منه إلى صعوبة التحول من التبعية المطلقة لواشنطن ومن وراءها الاتحاد الأوروبي في صورته الجمعية، نحو التحرر الكامل، حيث اقتصر الأمر على التصريحات التي أطلقها بعض الزعماء حول رفض العقوبات المفروضة على موسكو أو الدفاع الخجول عن مخاوفها الأمنية، في ضوء رفضها لتمدد الناتو إلى كييف والتي تمثل عمقا استراتيجيا لها، ولكنها لم تخرج في نهاية المطاف عن كونها تصريحات لفظية، ولم تترجمها أية إجراءات عملية.

بينما بات الموقف الذي تتبناه الدول على المستوى الفردي، أكثر تطورا مع اندلاع الأزمة في قطاع غزة، في ظل امتعاض أبدته عدة دول تجاه الفيتو الأمريكي الرافض لوقف إطلاق النار، بالإضافة إلى الحديث الجاد حول إمكانية اعتراف بعض الدول بدولة فلسطين، على غرار إسبانيا، وهو الموقف الذي يحمل في طياته، ليس فقط انتصارا للشرعية الدولية، وإنما أيضا انتصارا لـ"السيادة" المفقودة، خاصة وأن مثل هذه الخطوة، وإن كانت تحظى بتوافق دولي باعتبارها الأساس لتحقيق حل الدولتين، ولكن من المفترض أن تتم بـ"ضوء أخضر" من الولايات المتحدة أولا ثم أوروبا الموحدة، وهو ما يعكس حالة الانقسام حول توقيت اتخاذ الخطوة، بين فريق مؤيد وآخر معترض وثالث يبدو أكثر ارتباكا.

وتعد خطوة الاعتراف بدولة فلسطين، إن اتخذتها إسبانيا وربما بلجيكا، بمثابة ميلاد الحقبة الدولية الجديدة، أو بالأحرى انطلاق مرحلة "التعددية الجزئية"، في ضوء ما تمثله من تعزيز لصعود القوى الإقليمية، وقدرتها على المشاركة بفاعلية في صناعة القرار الدولي، بعيدا عن التبعية للقوى المهيمنة على الكوكب، والتي ما تزال لديها من الأوراق ما يجعلها الفاعل الأكبر، ولكن ليس الوحيد.

وفي الواقع، يبدو أن صعود دور القوى الإقليمية يتصاعد نحو المشاركة في صياغة القرار الدولي، وذلك عبر شراكات يمكنها السماح لدول بالتداخل في أزمات تبتعد عنهم جغرافيا، وهو ما يعززه بزوغ منظمات دولية عابرة للأقاليم على غرار بريكس، مما يسمح بمزيد من التنسيق، والقيام بأدوار تتجاوز مناطقهم الجغرافية.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة