انتصف أكبرُ مواسم الدراما التليفزيونية وأهمّها. بعضُ الأعمال تُواصل مسيرتها فى المنافسة، وبعضها تتأهّب لإخلاء مواقعها لمُنافسين جُدد، وإن كان يصحّ التقييم فى حالة التجارب التى أوشكت على الانتهاء؛ فالأغلبيةُ ما تزال فى مُختبر المُتابعة والفحص، والحكم النهائى بعدما تكتمل الخريطة وتنزل تترات الحلقات الأخيرة، ولا يمنع ذلك من استخلاص بعض الإشارات الدالة، والاقتراب بالقراءة الأولى من إحدى أبرز الورش الرمضانية منذ سنواتٍ طويلة؛ لا سيما لناحية العدد والتنوُّع وحجم الإنتاج، والمضامين والتقنيات، وآليّات السرد والمُعالجة وبناء الشخوص، وتطوير الحكايات وصراعاتها، ثمّ مساحات الأداء وألمع الوجوه من كلّ الأجيال، وبقيّة عناصر الصنعة الفنية، وصولاً إلى فضاءٍ مُنفتح تتمثّل فيه المُكوّنات الاجتماعية كلها؛ إمَّا بانعكاس المزيج الطبقى على الشاشات، أو بتحقيق معروضٍ يُلائم الطلبَ من فئاتٍ ظلَّت مُستبعَدة طويلاً؛ بأثر هيمنة عالم الكومبوندات والمجتمعات المخمليّة. وهكذا تكتمل الصورة: تيمات مُعتادة مع أفكارٍ طازجة، تسلية بمقادير مُنضبطة وأهداف مضبوطة، وفلسفة لا تنساق تمامًا فى مُغازلة المُتلقّى، كما لا تتعالى عليه أو تضعه تحت وصايةٍ خانقة.
مشهدُ الدراما العربية يُمكن اختزاله فى مصر، من زاوية كَمّ الأعمال، والثراء فى القصص وصُنّاعها، والزخم الجماهيرى المُواكب لها. ومحليًّا يصحّ أن تُقاس الحالةُ بكاملها على مقياس الشركة المُتّحدة؛ لأنها حقَّقت القائمة الأكبر من المسلسلات المعروضة، ولديها تمثيلٌ واسع لكلّ النوعيات والقضايا، وتملك قائمةَ الشاشات الأكثر ذُيوعًا وتكاملاً فيما تبثّه حصريًّا. فضلاً على تعاونها الوثيق مع قائمةٍ طويلة من المُنتجين، بلغت نحو أربع عشرة شركة، ما يجعل خطّتها الموسميّة تعبيرًا عن سياقٍ فنى وإنتاجى كامل، يكاد نسيجُه يستوعب خيوطَ الساحة وألوانها جميعًا، ويُمثّل السوق تمثيلاً مُحيطًا وشاملاً، ولعلّ تلك النقطة نفسها أهمّ ملامح الموسم؛ إذ صارت المُنافسة تدور على مستويين: الأوَّل مع بقيّة اللاعبين هنا وهناك، والثانى داخليًّا تحت راية الكيان الجامع، ومن خلال لجنة مُختصّة بالمحتوى الدرامى تتولّى استقبالَ المشاريع وتقييمها، وانتقاء ما يُناسب الرؤية المُحدّدة وينسجم معها؛ فيتحقَّق التنوُّع فى الشُّركاء والأدمغة وطرائق العمل، ويتنافس الجميعُ فيما بينهم للوصول إلى الحالة المثالية لمُنافسة الآخرين، وينضبط كلّ ذلك بمعايير تخصُّ الرهانات الجمالية والمضامينية، وانضباط مُعادلات الكفاءة والجدوى والتشغيل المُستدَام، والصيغة الناضجة للشراكة تسمحُ بفَتح الباب لمُغامرات إنتاجيّة، لا يسهُل إنجازها فى الأحوال العادية، وتدوير الفُرَص بين الأجيال، واختبار الشباب وتمكينهم عبر تجارب طليعيّة أو غير تقليدية، تتجاور مع غيرها من وصفات النجاح المضمون، بما يُنشِّط الصناعةَ، ويستعيد التوازن، ويُقلّص أثرَ مُعادلة الربح والخسارة بحسابات كلّ شركة بمُفردها.
خاضت «المُتّحدة» الموسمَ بعشرين مُسلسلاً، تُمثّل أغلب الإنتاج الرمضانى فى مصر والمنطقة، عددًا وحجمًا وتكلفة. وقد بدأ الشهرُ بعرض ثلاثة أرباعها: تسع من ثلاثين حلقة، وستّ بواقع خمس عشرة حلقة بينها «لحظة غضب» حصريًّا على منصّة Watch it، وتدخلُ خمسةُ أعمال على خطّ المنافسة فى النصف الثانى، العناوين المُمتدّة تتنوَّع بين التاريخى والشعبى والاجتماعى الخفيف والمُشوِّق، والقصيرة مُنتهية العرض كانت كلها اجتماعيّة، بين الخِفّة والإثارة والكوميديا، والتى تحلُّ بدلاً منها تتضمن الأنواع نفسها، إضافة إلى الفانتازيا والاقتراب من القضية الفلسطينية. وإذا كانت الشراكة من آيات الموسم؛ فإنها لم تلغِ التمايُزات أو تطمس معالمها، حتى أنه يسهُل أن تُخمِّن هويّة الشركة المُنتجة لكلّ عملٍ من حلقةٍ أو عدّة مشاهد فحسب؛ لكنّ هذا لم يمنع أن الأعمال كلّها تحقَّقت فيها حالة من التجانس، تبدو واضحةً فى الاهتمام العالى بالصورة والموسيقى والمؤثرات، وتناغُم تفاصيل ما بعد الإنتاج، وقبلهما السخاء الواضح فى العملية الإنتاجية بكلِّ عناصرها، حتى أنّ أحد المسلسلات تجوَّل بين ثلاث قارات وقائمة طويلة من الدول.
يقينًا لا يُمكن أن تتطابق البصمات، وطبيعةُ الإبداع أنه لا يخطو خطوتين بمقاسٍ واحد، أو بالكيفية نفسها. ثمّة تفاوتٌ فى مستوى العروض؛ لناحية تفضيلات نجومها ورهاناتهم، وشخصية المُنتِج وتجاربه السابقة، والتوليفة التى اجتمعت على كلِّ حالةٍ منها. وفى النظرة البانورامية الأُولى يُمكن الجَزم بتفوُّق «الحشّاشين» على مستوى تكنيك الإخراج، وخيال صُنّاع الصورة وما أنجزوه من اختراقٍ بصرىّ مُدهش، ولعلَّه غير مسبوقٍ فى الدراما العربية. وإلى ذلك؛ فإنّ عملاً مثل «مسار إجبارى» يُمثِّل الحصانَ الأسود للموسم؛ إذ يُقدِّم قصّةً بسيطة بمعالجةٍ حيوية طازجة، وإدارةٍ حصيفة للحكاية وأطرافها بإيقاعٍ سردىّ مُختلفٍ ومُنضبط وجذّاب؛ وهو أقربُ إلى القادم من الخلف ليتقدَّم السباق؛ إذ هو الإنتاج الأول لاستوديوهات المُتّحدة، ويمنحُ البطولةَ لوجهين شابين، وتُحقّقه مُخرجةٌ لا تُحبّ دغدغة الجمهور بالبهارات العاطفية والشعبوية. والخلاصةُ؛ أن التصوُّر الأوّل يُرجح ألّا يُراهن العمل على ما يتجاوز المساحة الدافئة، بمعنى أنه لا يطمعُ فى تصدُّر الموسم ولا يُريد أن يتذيّله؛ لكنه صار مع الأيام يسبق كثيرًا من التجارب التى تفوقه إنتاجيًّا وفى حسابات التسويق ومُغازلة المُتفرجين.
الجرأةُ من ملامح الموسم؛ فالخريطةُ تتضمَّن أعمالاً عالية الإنتاج، وعودةً لأجواء «ألف ليلة وليلة» بمُتطلّباتها ومصاعب تنفيذها، وتُراهن على عددٍ من المُخرجين الشباب فى تجارب مهمّة، وتجترح مضامين ثقيلةً بالتوازى مع أدوار التسرية والإمتاع، فضلاً على الاشتباك مع عناوين اجتماعية وقيمية خارج المواءمات والمُحافظة والسَّير فى الطرق الآمنة. ومن حصيلة أُسبوعى العرض؛ يُمكن القول إنّ بعض الأعمال أصابت أهدافها، والجَرد الأوَّلى لا يُمكن أن يتجاهل محاولاتٍ مُثمرةً مثل: «بابا جه» و»كامل العدد+1» فى الكوميديا، و«مسار إجبارى» و«لحظة غضب» و«امبراطورية ميم» فى الاجتماعى. ومن أعمال النصف الثانى، يُمكن التفاؤل بمسلسل «جودر» للكاتب أنور عبد المغيث، و«بدون سابق إنذار» لآسر ياسين، فضلاً على «مليحة» بما ورائه من معانٍ سامية ومطلوبة فى سياقها؛ لا سيّما أنه يتزامن مع استمرار العدوان الإسرائيلى على الفلسطينيين فى غزّة والضفة الغربية.
منطقُ الجمهور يتقدّم على ما عداه طبعًا؛ ويُمكن بحسبة الذيوع والمُتابعة أن نستكشف تقدُّمَ «الحشاشين» مُجدّدًا، ومعه أعمال مثل: «المعلم» لمصطفى شعبان، و»حقّ عرب» للعوضى، و»صيد العقارب» لغادة عبد الرازق. وإلى جانب النجاح على مقياس الرواج؛ فإنَّ الموسمَ يشهدُ بروزًا لوجوهٍ فى كلِّ عناصر الصنعة: فى الكتابة، يُسر طاهر ورنا أبو الريش عن «كامل العدد»، ومُعالجة باهر دويدار وسيناريو أمين جمال ومحمد محرز فى «مسار إجبارى»، ووائل حمدى ومحمد إسماعيل عن «بابا جه»، ومهاب طارق عن «لحظة غضب»، وفى التمثيل يتفوَّق أحمد داش وعصام عمر ودينا الشربينى وفتحى عبد الوهاب وأحمد عيد وصبا مبارك ومحمد شاهين ومحمد أوتاكا ورياض الخولى وأحمد ماهر ووفاء عامر ومحمد لطفى، وطابور من الأطفال أبرزهم لافينيا نادر وآدم النحاس ومنذر مهران. وفى الإخراج يحلّ بيتر ميمى فى أوّل القائمة بتفوُّقه الواضح فى التكنيك، وقدرته على الإدهاش البصرى بمزيجٍ من الجمالية والتعبير، ومن بعده يكون التوقُّف إجباريًّا أمام نادين خان وشريطها الناضج سردًا وتحقيقًا، ثمّ محمد سلامة وخالد مرعى وخالد الحلفاوى وعبد العزيز النجار.
أمَّا سحرةُ الصورة فيتربَّع منهم على عرش الموسم: حسين عسر عن تُحفته الاستثنائية فى «الحشاشين»، ومحمد مختار عن صورته الجمالية الناعمة والأليفة فى «امبراطورية ميم»، وعمر حسام عن «مسار إجبارى» ثم محمد عبد الرؤوف عن «لحظة غضب»، وفى الموسيقى يتفوَّق خالد الكمار بتيمة «عتبات البهجة» التى تعلق فى أُذن مُستمعِها من أوّل مُصافحة، وأمين بوحافة عن «الحشاشين»، ومعهما خالد حماد وشادى مؤنس وأمير خلف، وفى رهانات النصف الثانى يُمكن أن نتوقَّع سيناريو مُميّزًا لـ»جودر» بتوقيع كاتبٍ مُهتم بالتراث والمعالجات الشعبية، وألمى كفارنة ورشا النجار فى «بدون سابق إنذار» و»مليحة» بالترتيب، وإخراجيًّا لدينا موعد مع عمرو عرفة وهانى خليفة، ويُمكن التفاؤل بإسلام خيرى مع عالم ألف ليلة وليلة، بعد تجربته الشبيهة مع دنيا سمير غانم فى رمضان الماضى، إذ صارت لديه حساسية الاقتراب من عالم الفانتازيا بخفّةٍ وإتقان وجماليات واضحة.
اللمحاتُ الإيجابية عديدة، والسياق لا يخلو من مُلاحظاتٍ كما هى طبيعة الفن، وإذا كان الموسمُ مُزدحمًا بالأعمال مُتفاوتة المستوى، وفيه عاديون وبارزون من كلِّ طبقات الإبداع؛ فإنَّ بطلا واحدا يحضر فى كلّ التجارب بالتساوى. ومن دون تزيُّد أو مُبالغة؛ فالإنتاج نجمُ السباق الرمضانى بجدارة. أوّلاً لأنه اشتغل على التنوُّع من دون فرزٍ أو وصاية واستبعاد، ووفّى المشاريع حقوقَها بحسب ما تقتضى، ورسم ملامحَ أقرب للثوابت فيما يخصُّ مستوى التنفيذ وجودته، ثمّ إنه قدّم للجمهور ما يُفضّله فى جانب، واجتذبه إلى ما يرتقى به فى جوانب أخرى، وجمع بين صُنّاعٍ من مدارس وميول شتّى، وغامر بالمواهب الصغيرة، وأعاد كثيرًا من الكبار الغائبين.. الإنتاج بطلٌ لأنه اشتغل على ضبط المُعادلة، وضَمِن أن يعمل الجميع بتكاملٍ وتناغُم، وأن تكون أهم أعمال الدراما العربية فى مصر، وأهمّ ما فى مصر على شاشات المُتحدة. هذا فى ذاته رهانٌ جديرٌ بالتوقّف؛ إذ يتّصل بالريادة وتأثيرات القوّة الناعمة، ويُثبِت أنه مهما تبدَّلت مُعادلات الإنتاج والوفرة المالية وقدرات الإغراء والجذاب؛ فستظل مصر قلبَ المنطقة وعقلها، وخزّانَها الأضخمَ من المواهب والمبدعين والأفكار والطاقات الفنية. وما يجرى له الآخرون سنوات، يطويه المصريون بخطوةٍ واحدة؛ أو بالأحرى فى موسمٍ واحد.