في الوقت الذي ذخرت فيه الأعمال الفنية التي قدمتها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، بالإشادة الكبيرة، في ضوء قدرتها على ملاقاة كافة الأذواق، ونجاحها المنقطع النظير في تحقيق تطلعات المتابعين، يبدو مسلسل "الحشاشين"، بمثابة "درة التاج"، في ضوء ما يحمله من كنوز تاريخية ومعرفية، تتعلق بحقبة مهمة في التاريخ الإسلامي، بينما يبقى أحد أهم حلقات ما يمكننا تسميته بـ"تحديث الخطاب الدرامي"، في ضوء ما يحمله العمل من رسائل، أهمها ضرورة إعمال العقل، وتعزيز حالة النقد الأدبي، لدى المتابعين، وهو ما تحقق بالفعل في ضوء حالة الجدل لدى قطاع كبير من المشاهدين، حول الأحداث، وهو ما يمثل أحد أهم أوجه النجاح للعمل الدرامي.
ونجاح الأعمال الدرامية في واقع الأمر لا يقتصر في نطاقه على حجم الإشادة، والمدح، وإنما يرتبط في الأساس بما يثيره من جدل، شريطة أن يكون جدلا "إيجابيا"، يعتمد على مناقشة الفكرة، التي يقدمها المسلسل، وهو ما يساهم مع كل حلقة في وضع "لبنة" جديدة في بناء أفكار المتابع، في حالة المسلسل، فيما يتعلق بالنهج الذي يتبناه أصحاب الأفكار المتطرفة، لاستقطاب الأتباع، والسيطرة على عقولهم، ثم استخدامهم لتحقيق أهداف شخصية، ليست مرتبطة بأمة أو وطن أو عقيدة، إلى الحد الذي يصل بمثل هذه الشخصيات إلى وضع أنفسهم، في موقع الإله نفسه، من حيث السيطرة على العقول والقلوب، حتى يصل بها إلى قناعة أن الموت في سبيلهم، هو الشهادة، والدفاع عنهم هو حماية للدين، وأن المخالفين ليسوا أكثر من عصاه أو ربما كفار.
ولعل تناول شخصية تاريخية مثيرة للجدل، على غرار حسن الصباح، في مسلسل تلفزيوني مصري، يمثل حلقة جديدة من حلقات "الخطاب الدرامي"، والذي لا يقتصر في نطاقه على بناء وعي المواطن، وإنما يبدو ممتدا، في ضوء أن معظم أحداث العمل لم تحدث في مصر، بينما شهدت تحولات مكانية عملاقة، بين أرجاء مناطق الخلافة، وهو الأمر الذي من شأنه تعزيز الرسالة المقدمة، لتشمل شعوبا ودولا أخرى في منطقتنا، وهو ما يعكس تحولا مهما في مسارات الخطاب المشار إليه، والذي انطلق من الداخل، عبر الحديث أعمال سابقة، منها "الاختيار"، وغيرها، والتي تمحورت حول ما شهدته مصر في الداخل، خلال فترة حرجة، ربما عايشناها جميعا منذ بداية العقد الماضي، وما ارتبط بها من تفاعلات ومآلات، سواء في المنطقة أو العالم.
الخطاب الدرامي، المرتبط بسلسلة "الاختيار"، كان بمثابة جرس إنذار للمواطن، عبر توجيهه نحو إدراك المخاطر المحيطة به لحظيا، في ضوء مخطط يهدف إلى هدم الدولة، بل والدول المحيطة به، على أساس منظم، وهو ما يمثل مقدمة مهمة، لتوسيع مدارك المصريين حول خطورة ما سوف تؤول إليه الأمور، وكيفية استخدام الجماعات المتاجرة بالدين من قبل قوى دولية لتنفيذ مخططاتها، عبر توجيه سلاحهم، نحو شركائهم في الوطن والعقيدة والدين، فتنهار الدول "أهليا" دون الانغماس المباشر في معارك عسكرية، وهو ما يساهم في حشد الجبهة الداخلية، نحو تعزيز الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة المصرية في الحرب على الإرهاب.
بينما انتقل في مسار آخر، نحو تصحيح الأفكار المغلوطة، التي طالما زرعتها الجماعات المتطرفة في العقول، عبر تقديم الرؤى المعتدلة، وهو ما بدا في سيرة الإمام الشافعي، في مسلسل "رسالة الإمام"، والتي تهدف في الأساس إلى تحقيق التعايش بين أفراد المجتمع باختلاف أعراقهم وأديانهم، وأجناسهم، وهو ما يمثل خطوة هامة، في إطار البعد الفكري، الذي تخوضه الدولة المصرية، في محاربة الإرهاب، جنبا إلى جنب مع الذراع الأمني التقليدي، بحيث تغلق الباب أمام الخطاب العاطفي الذي تتبناه جماعات الظلام لاستقطاب آلاف الشباب من هنا أو هناك.
في حين يبقى "الحشاشين" مسارا ثالثا، لا يقل أهمية عن المسارين سالفي الذكر، حيث انتقل الخطاب الدرامي، من مجرد حشد الجبهة الداخلية ضد الإرهاب، وتقديم الفكر المعتدل، القائم على التعايش، نحو استدراج المتابع إلى متابعة حالة تاريخية، تبدو في شخصية "حسن الصباح"، ربما ليس فقط لكشف الاستراتيجية التي استلهمتها تلك الجماعات في حشد الأتباع، وإنما لتقييمها من منظور تاريخي، بعيدا عن التسميات، مما يساهم في دفع هؤلاء الذين مازالوا يحملون قدرا من التعاطف تجاه تلك الكلمات المتراصة، التي يحملونها كشعارات، لاستقطاب القلوب قبل العقول، نحو مراجعة تلك الأفكار، وإدراك حقيقة مفادها أن الانتصار لمجرد كيانات ضيقة، سواء في صورة أشخاص أو جماعات، ليس انتصار للدين أو العقيدة.
عبقرية "الحشاشين" تبقى في جزء منه، في حالة النقاش المثارة حوله، لأنه يمثل أحد مراحل الخطاب الدرامي، عبر الوصول بالمشاهد نحو الحوار، سواء في نطاق الأسرة أو العائلة الكبيرة أو الأصدقاء، أو حتى من خلال مواقع "السوشيال ميديا"، خاصة أن هذا الجدال، يبدو إيجابيا، في مساعدة المواطن على تقييم التجارب والحقب التاريخية بنفسه، وبالتالي تشكيل رؤيته الخاصة، وذلك بعد مرحلتين، أولهما رصد معطيات الواقع المرتبط بالحاضر (الاختيار)، بينما اغتمدت المرحلة الثانية، على تعزيز معايير الاعتدال (رسالة الإمام)، والتي من شأنها تعزيز قدرته على التقييم، بعيدا عن نهج التلقين، والقائم على تصدير انطباعات من قبل صناع العمل للمشاهد، من شأنها توجيهه مباشرة للانتصار لما يرونه خيرا، على حساب ما يصفونه بالشر، في إطار المعارك الحياتية.
بينما يبقى الجزء الآخر من نجاح العمل، أنه يعد بمثابة امتداد لسلسلة من الأعمال التي تهدف لبناء وعي المواطن، على الرغم من اختلاف الحقب الزمنية بين الأمس القريب للغاية، والذي رأيناه بأعيننا، والماضي في ظل تقديم رسالة الاعتدال، التي تصدرها أحد أهم كبار الأئمة في التاريخ الإسلامي، وهو الإمام الشافعي، ثم عملا آخر يرصد حقبة تاريخية بعينها، لدفع المشاهد نحو التقييم، والمقارنة، والبحث وكتب التاريخ، من أجل تكوين فكرته بنفسه، بعيدا عن التوجيه.
وهنا يمكننا القول بأن الحشاشين يمثل مسارا جديدا في الخطاب الدرامي، الذي تتبناه "المتحدة"، في إطار حالة من الارتباط بين الأعمال وبعضها، ناهيك عن مواصلتها العمل، على تعزيز وعي المواطن، نحو الانتقال به تدريجيا، نحو التقييم، بحيث يشكل رؤيته الشخصية القائمة على معايير موضوعية تتسم بأكبر قدر ممكن من الاعتدال، وهو ما يساهم في نهاية المطاف، في خلق مجتمع صحي، يقوم في الأساس على التعايش وقبول الآخر، بعيدا عن التطرف.