يتكفَّلُ مُنفردًا بما تبقّى من سُمعة المُؤسَّسة الدولية. وقد أثبت الدبلوماسى البرتغالى عمليًّا أنه رجلٌ نزيه، بحسب أقصى ما تسمح به الظروف والتوازنات. والعِلَّة كلّها أنه وُضِع فى سياقٍ مُعطِّلٍ بالضرورة، بُنِيَت علاقاته ليكون وسيلةً لا غاية، وتابعًا لا قائدًا. هكذا لا يملك المُتابعون إلَّا أن يحترموا أنطونيو جوتيريش فى شخصه وخطابه وحركته، ويحتقروا أداء الأُمَم المُتّحدة فى هياكلها وعجزها وموازينها المائلة، ومن وراء ذلك إدانة مُباشرة لفلسفة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقيادة الأمريكية غير النزيهة، والاستتباع الأوروبى الذى صار غريبًا اليوم؛ ولو كان مُبرَّرًا وقتها فى أواسط القرن الماضى.
كان الأمينُ العام مُتحفّظًا فى البداية. الأيّام الأولى بعد «طوفان الأقصى» وإطلاق إسرائيل عدوانَها الجنونىَّ على غزَّة، لم تحمل ما يُعبِّر بجلاءٍ عن فَهمٍ عميقٍ للحظة، وقراءةٍ مُتجرِّدة لما وراءها من جذورٍ ومُسبِّبات، من دون انفصالٍ عن الواقع أو تحامُلٍ على التاريخ.. ربما تَصوَّر لأوِّل وهلةٍ أنها إحدى الجولات العابرة، وقد شهد منها تجربتان منذ خلف «بان كى مون» على رأس المنظمّة قبل سبع سنوات. ثمّ حدث أن أسفر مخابيلُ تل أبيب عن وجوههم الشنيعة، وأنشبوا أظفارهم فى لحم النساء والأطفال؛ ليكتشفَ المُيسِّر الدولى الرفيع أنه يشهد على فصلٍ دَامٍ من فصول العار، وهو بين خيارين مُرَّين: أن يصمت إلى موعد الرحيل وعلى جبينه لطخةُ الدم، أو يُجاهر بما فى صدره ويتحمَّل الإدانة المُعجَّلَة، وأن يكون هدفًا للتصويب وموضوعًا للنزيف.
نحو أسبوعين انقضيا قبل أن يدخل «جوتيريش» على الخطِّ دخول المُحاربين لا المُتكلّمين. كانت هجمة «حماس» على غلاف غزّة قد أحدثت دَويَّها المعروف، وتداخلت الأخبارُ والحكايات، ورَدَّ الاحتلالُ تَحايا المقاومة بما هو أشرس منها، والمُراقبون البعيدون عن المشهد تخبَّطوا بين الروايتين؛ إلى أن قُصِفَ المستشفى الأهلى العربى «المعمدانى» بحىّ الزيتون مساء 17 أكتوبر، واتَّضح أن ما يُدبَّر للغزِّيين يفوق حالةَ الغيظ، ويتجاوز سرديَّةَ الثأر من القسَّاميين، ومهمّة استعادة صورة الردع وتطمين الشارع العبرىّ الهشّ. تبدَّى أنها نزوعٌ «أبوكاليبتى» يستكمل ما بدأته النكبةُ الأُولى، وعِماده الرَّكين أنّ اليمين الإسرائيلى المُتطرِّف، قوميِّين وتوراتيِّين، يقتفون أثر «رابين» إذ يتمنَّى أن يستيقظ ليجد القطاع غاطسًا فى البحر، لذا فقد عقدوا العزم على إغراقه بالدم، أو اقتطاعه من جغرافيا فلسطين؛ أرضًا وبشرًا، أو أحدهما على الأقل، والسبيل لهذا أن يُباد الناسُ بالحديد والنار، أو يُساقوا بالتقتيل والتجويع لنزوحٍ مُتدرِّجٍ، وليس أفضل من أن يُصبحَ الشريطُ الضيِّقُ كومةَ خرابٍ على رُؤوس ساكنيه، وبيئةً غير صالحة للحياة اليوم، ولا تتيسَّر إعادةُ تأهيلها فى القريب.
حادثةُ المستشفى كانت شديدةَ البشاعة؛ فألغى قادةُ مصر والأردن وفلسطين لقاءً كان مُخطَّطًا مُسبَقًا مع الرئيس الأمريكى فى عمّان، بينما حضر «بايدن» مجلسَ الحرب إلى جوار نتنياهو؛ ليختم على خُطَط النازية الصهيونية بالقبول والتشجيع. السياقُ الطبيعىّ المُعتاد أن يدخل الأُمَميِّون فى عصمة السيد الأكبر؛ بمعنى أن تُعيدَ المُؤسَّسات الدولية دَوزنةَ آلاتها وضبطَ لَحنها على إيقاع واشنطن. والذاكرةُ تحتفظ بسيرة بطرس غالى، الوحيد فى ألبوم الأُمَم المتحدة الذى أُطيح بعد دورةٍ واحدة؛ لا لشىءٍ إلّا أنه لم يكن على «مازورة القياس» المُحدَّدة لمن ينوب عن القُطب الأوحد فى خداع العالم. وربما كان «جوتيريش» مُتحرِّرًا نسبيًّا من «عِبرة بطرس» لأنه فى ولايته الثانية، وربما استيقظ ضميره بأثر البشاعة فيما رأى؛ فتغلَّب على «عبرة همرشولد»، وقد قضى فى حادث طائرة بوسط أفريقيا تُحيطه الألغاز إلى اليوم، كما لم يُخِفه مصير الكونت برنادوت الذى قتله الصهاينة فى القدس بعد شهور من ولادة دولتهم المُلفّقة. الأكيد أنّ أشياء عديدة دارت فى خاطره؛ وأنه حسمَ النزاعَ لصالح الاستقامة الأخلاقية، مُنحازًا إلى حالةٍ طُهرانيّة يُحبّها لنفسه أوّلاً، وإلى تعبيرٍ صريح عن محنة المُؤسّسة التى يرأسها، وعوارها البنيوىّ إلى حدِّ أنّ أقصى ما تستطيع تقديمه أن تكون حانوتيًّا يحصى الجُثث، أو نائحةً تقتسم عبءَ البكاء مع ذوى الضحايا.
منذ هبط الأمينُ العام بالقاهرة فى المرَّة الأُولى بعد الطوفان، بدا أنّ لصوته نكهةً مُغايرةً عمّا كان فى مُفتتَح المَقتلة. وقف الرجلُ أمام «معبر رفح» ليُصرِّح بفداحة الأزمة الإنسانية، وبأن ما يُدار على أرض القطاع يتجاوز كلَّ الدعايات السخيفة عن إرهاب الفصائل، وحقِّ الاحتلال فى الدفاع عن النفس.. بعدها حضر «قمّة القاهرة للسلام» فى اليوم التالى، وقد قدَّمت مُقاربةً عقلانيّة تنحازُ لتجنيب المدنيِّين جميعًا ويلات الصراع؛ لكنها لا تتجاهلُ أنّ للمسألة جذورًا عميقةً فيما بين البحر والنهر، والمَخرج الذى لا بديلَ عنه يبدأ من حلحلة الأوضاع وصولاً إلى «حلّ الدولتين». كانت إشارات «جوتيريش» وقتها تُلمِّح إلى تحميل نتنياهو وعصابته من المسؤولية أكثر ممَّا يتحمّله «السنوار» ورفاقه، وكلاهما يستثمر فى الأُصوليّة والخطابات الحارقة. وظلّت نبرةُ الدبلوماسى الأوّل تَصَّاعدُ إلى أن فجّر قُنبلتَه فى وجوه الجميع، على أرض الأمريكيين وتحت سقف الناطحة التى حبسوا فيها ضمير العالم، ليقول إن ما فعلته «حماس» لم يأتِ من فراغ؛ إنما هو حصيلةُ عقودٍ من الاحتلال والقهر، وسَدٍّ منافذ الأمل والتسوية السياسية العادلة.
كانت الانتفاضةُ جَليَّةً وشديدةَ القوّة والدلالة. ولعلَّها فاقت توقّعات الإدارة الأمريكية وضِباعها فى تل أبيب. نتاج ذلك؛ أنّ الأمين العام تعرَّض لهجومٍ وإهاناتٍ إسرائيلية مُباشرة، وتعدَّى عليه مندوب الصهيونية بالمنظمة علنًا وبأحطِّ الأساليب، وصِيغَت حملةٌ دعائية فجّة لاستهدافه داخل المُؤسَّسة وخارجها؛ بل اتُّهم بمعاداة السامية ودعم الإرهاب لمجرَّد أنه تحدَّث لُغته الدبلوماسية ومارس أدواره الميثاقية.. ورغم الهجمة الشعواء لم يجفُل أو يرتد عن قناعته؛ إنما على العكس اتّخذ مَوقفًا تصعيديًّا فى حدود المُتاح له من أدوات، فخاطب مجلس الأمن بموجب البند 99 من الميثاق، مُفعِّلاً حقَّه فى التنبيه إلى المسائل التى يراها تُهدِّد السلم والأمن الدوليِّين. وقبل ثلاثة أيام عاد الرجل إلى رفح، وجدَّد الرسائل التى لا يُحبّها الاحتلال، وبالتأكيد لن تُحبّها الولايات المُتحدة.. والمعنى أن المسؤول الرفيع الذى يقوم على إنفاذ الإرادة الدولية، ويقود كيانًا تأسَّس من رحم الحرب الكونية؛ أخفق فى أن يكون بديلاً عن الصراعات الصفرية ومُباريات الأقفاص الحديدية حتى الموت، كما أُريد للهيئة التى ورثت عُصبة الأُمم وتوَّجت هيمنة الحلفاء على دول المحور، ولا يستنكفُ الاعترافَ بالإخفاق؛ عندما يقود جولاتٍ تنشيطيّةً أقرب للدبلوماسية الشعبية، ويُغادر مقعدَه فى قلب نيويورك؛ لأنّ البلد المُضيف سحبَه من تحته، أو ألغى فاعليّته تمامًا، فصار رأس المؤسَّسة بين احتمالين: أن يظل صورةً لامعةً بروحٍ مُطفأة كما كان سابقوه، أو أن يصير ضميرًا حيًّا بمجال حركةٍ يتجاوز حدود المبنى الزجاجىّ، كسابقةٍ أُولى تظلّ لها دلالات مهمَّة؛ وإن لم تُحدث أثرًا ذا قيمة.
فى زيارته الأخيرة أدان أرفع المسؤولين الأُميين إسرائيل بالتصريح، وأدان مُؤسسته والولايات المتحدة بالتلميح، أو على المعنى الضمنى المخبوء فى دلالة الرحلة ومضامينها. يقف العالم على أطراف أصابعه، ولم يُفلح فى تليين غطرسة الصهاينة، ولا إثناء الأمريكيين عن ذهابهم الاندفاعى فى الحرب كأنهم أحد طرفيها المُباشرين. و»جوتيريش» إذ يُضطرّ للقدوم إلى البوابة الوحيدة المُفعّلة مع قطاع غزة؛ فإنه يُثبت تسلّط إسرائيل وغطرستها، وحقارة الإسناد الغشوم من حلفائها الغربيين، وقصدية التجويع والإبادة بالممارسة المباشرة، أو بالتحايل والتضليل على حصيرة البدائل الشائنة والمُشينة؛ كأن تُسقط واشنطن وجباتها الجاهزة على رؤوس الأطفال لتزيد القتلى بدلا من تقليل الجوعى، أو تشرع فى بناء رصيف بحرى يحتاج شهرين لإنقاذ مليونى نفس من المجاعة الواقفة على أبوابهم، ثم التحضير لتهجيرهم لاحقًا كما يُريد عدوّهم وسارق أراضيهم. كُلُّ خطوةٍ يقطعها الأمينُ العام، وكلُّ كلمةٍ يتفوَّه بها تحت سقف المُنظّمة، أو على خطِّ النار؛ تكتسبُ معانىَ ودلالاتٍ أعمق من منطوقها، وممّا لو جاءت على ألسنةِ آخرين من السياسيين والقادة؛ لأنه بالرمزية يُمثّل الوصاية الغربية على العالم، وبالموقع فقد جاء على مقياس الأمريكيين فى انتقاء الشركاء والمُتعاونين، وبالثقافة فلم يأتِ من خلفية شرقية، ولم يكن غريبًا عن فكرة التفوُّق المعرفىّ والأخلاقى، و»عبء الرجل الأبيض» على تصوُّر كبلينج فى قصيدته الشهيرة، وهكذا تتضاعف قيمة الشهادة؛ لأنها تتمرَّد على فكرة أن إسرائيل قاعدة مُتقدِّمة ومُمثّل حضارى عن الغرب، كما تُدين الريادة الأنجلوساكسونية من داخلها، وتُعيدُ تعريفَ البداوة باعتبارها مُمارسةً مُكتسَبة لا ثابتًا جينيًّا، وعليه فإنها تخصّ السيكولوجيا بأكثر من الجغرافيا، وتدمغُ من يستعيرون صفحات النار من التوراة؛ ليُؤسِّسوا صراع السياسة على أرضية عقائدية، تُغذّى أصوليَّات المنطقة وتتغذّى عليها.
يستحق «جوتيريش» التحيّة على ما أبداه إلى اليوم. فى زيارة أكتوبر إلى رفح، وكلامه فى الأروقة الأُمميّة ومخاطبته لمجلس الأمن، والرسائل التى لم تنقطع من وقتها، وأخيرًا وقفته الرمضانية على أبواب المعبر، وإدانته للقصدية الواضحة فى رفع الكُلفة الإنسانية داخل القطاع. وشهادته عن المشهد على خطِّ التّماس، وأدوار مصر العملية المُناقضة لكلِّ دعايات الاحتلال، ومن يَلفّون لَفَّه من الميليشيات الرجعية والمحاور المذهبية. وجدَّد الرجلُ فى لقائه بالرئيس السيسى، وبوزير الخارجية، إدانةَ المُمارسات الجارحة بحقِّ المدنيِّين العُزَّل، ورفض مُخطَّطات الترحيل والتهجير، والتشديد على نهائية «حلّ الدولتين» باعتباره المَخرَج الذى لا مفرَّ منه، لا سيّما أنه الخيار الوحيد المُنسجم مع الشرعية الدولية، وسوابق المُنظَّمة ومُدوَّنتها القانونية والإجرائية الطويلة، من قرار التقسيم إلى بحث محكمة العدل الدولية أخيرًا لآثار الاحتلال بطلبٍ من مجلس الأمن.. ينزفُ العالم من سُمعتِه وأخلاقه، وثمَّة رجلٌ يقف فى بِركة الدم، ينزفُ اعترافًا مع النازفين، ويتألَّم إشفاقًا مع المُتألّمين؛ لكنه ما زال قابضًا على إنسانيته، وقادرًا على تعليق جرس النفاق فى رقبة النظام الدولى، ولا دليلَ على انحطاط المنظومة القائمة من أنَّ مُمثّلها وعرّابها وأرفعَ قادتها يُدينها بالقول حينًا وبالصمت أحيانًا، ويرفع لها البطاقة الحمراء علنًا، ويُغادر مكتبَه المُريح فى أمريكا ليغسل يديه وضميره فى القاهرة وسيناء.