ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التى تفجر مواقع وأدوات التواصل قضية الخصوصية والموقف القانونى، ومدى القدرة على تحقيق الأدلة ومحاسبة من يرتكبون جرائم التشهير والابتزاز، فى الظاهر فإن الأمر بحاجة لتوظيف أدوات التكنولوجيا للتعرف على مصادر التهديد وتوقيتات ارتكاب الجرائم، وفى قضية فتاة جامعة العريش، نحن أمام واقعة متعددة الأوجه، ومتنوعة الأدلة، خاصة أن ما نشر على مدى أيام يحمل قدرا من الانحياز، وبعضه اتضح من التحقيقات عدم دقته، وفى المقابل هناك حملة خرجت من لجان إلكترونية تهاجم الضحية التى رحلت وتحاول الإساءة إليها، وهذا فى حد ذاته جريمة أو جرائم متعددة الأوجه، تسعى لصناعة رأى عام مضاد لضحية رحلت، وفى قضية موجودة تحت أيدى جهات التحقيق.
وربما لهذا فقد تضمن بيان النيابة تأكيدا أن حرمة الحياة الخاصة مصونة بمقتضى نصوص الدستور والقانون، وأنها ستتصدى بحزم لأى وقائع تتضمن انتهاكا لهذا الحق، وتضمن البيان أيضا لفت نظر إلى «ظاهرة النشر والتداول على مواقع التواصل الاجتماعى لأخبار من شأنها إثارة الرأى العام وإشاعة الفتن ونشر الكذب دون التريث والتحقق من المعلومات قبل النشر»، وهنا نحن أمام ظاهرة أخرى تضاف إلى مخالفات تتم عن طريق مواقع التواصل، تستهدف التلاعب أو توجيه قطاع من الرأى العام بشكل متعمد، وهذه الطرق تتم عن طريق مجموعات أو شركات محترفة، تعمل لصالح من يدفع وليس لصالح الحق، وبالتالى تساهم فى تشويه صورة ضحية لا تملك من أمر نفسها قدرة على الدفاع، وهذا النوع من الجرائم بحاجة إلى أدوات واستعدادات لمواجهته وردع مثل هذه الجهات التى تقتل الضحايا وتغتال الموتى معنويا، حدث هذا مع فتاة الدقهلية «نيرة»، سعيا لتشويهها لصالح المتهم الذى تمت محاكمته وصدر عليه حكم القصاص.
الآن يتكرر الأمر مع فتاة جامعة العريش الراحلة، وبينما النيابة تحقق صدرت منشورات على مواقع التواصل تسىء للفتاة، وتحاول تبرئة المتهمين، النيابة العامة من جهتها استمعت إلى شهود الواقعة وتحريات الجهات الأمنية التى كشفت أن الضحية تعرضت لضغوط نفسية ناجمة عن قيام «المتهمة» بتهديدها بنشر مراسلات نقلتها خلسة من هاتف المتوفية إلى هاتفها وأرسلتها إلى زميلها «المتهم الثانى»، الذى نشر على «جروب» يضم جميع طلاب الدفعة بالجامعة على «واتساب» همز ولمز فيها عن موضوعات تمثل أسرارا للفتاة الراحلة، وخصوصيات تم الحصول عليها رغما عنها، وهددها بنشرها فى حال عدم اعتذار الضحية، التى اعتذرت، لكن هذا يبدو أنه لم يكن كافيا.
النيابة والقضاء هنا سيحسمان الأمر، لكن الأخطر هو تداعيات مثل هذه القضية ومثلها، والتى تشير إلى «فيروس» انتهاك الخصوصية واستسهال الاعتداء على أسرار الغير، وممارسة التهديد والتشهير والابتزاز ببساطة ومن دون أى شعور بالذنب.
وبجانب المتهمين الرئيسيين، الذين يخضعون للتحقيق، هناك جرائم جديدة تتم ضد الضحية بعد رحيلها، تتمثل فى منشورات تسىء إليها، ومن يرتكبها لا يقل إجراما عن الفعل الرئيسى، ويجب أن يخضع للتحقيق، لأن هؤلاء يهدفون إلى إعادة صياغة الرأى العام، والتلاعب به بهدف الربح، وهو أمر يتطلب الكشف والمحاسبة.
ولا شك أن أجهزة البحث والتحقيق تواجه صعوبات فى مواجهة وكشف هذه الجرائم، التى تتطلب امتلاك قدرات تكنولوجية حديثة، لكنها ضرورية لمواجهة ظاهرة وجرائم تتضاعف كل يوم وتمثل خطرا اجتماعيا، لأنها يمكن أن تسعى لصنع الإدانة أو البراءة المدفوعة مقدما، وليس لصالح الحق.