حازم حسين

الهدنة بين الوساطة وتجربة 1701.. مستقبل غزة يبدأ من ترويض حاضر تل أبيب

الأربعاء، 06 مارس 2024 01:26 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ماراثون لا يهدأ من أجل إنجاز هُدنة مُعجّلة فى غزّة. الأوضاع تفاقمت إلى حدٍّ لم يعد مُحتمَلاً، ورمضان على الأبواب، والصلابة التى كانت تُبديها الفصائل خفَّت قليلاً بغرض إنهاء المحنة الإنسانية، وما زالت العُقدة فى مواقف الاحتلال، ونزاعات الجنرالات وصقور السياسة فى تل أبيب. وبعدما بشَّر الرئيس الأمريكى بالوصول إلى اتفاقٍ قبل يومين، عاد إلى الحديث عن المصاعب والتحدِّيات، واستقبل قادةُ إدارته عضو مجلس الحرب، بينى جانتس، فيما يبدو مسارًا بديلاً لإرخاء قبضة نتنياهو على المشهد.. وإن كان مُرجَّحًا أن تُولَد التهدئةُ المأمولة رغم المُماطلة الإسرائيلية؛ فالأزمة أنه لا ملامحَ واضحة للأُفق السياسى ما بعد إسكات البنادق، إذ لا يُبدى الائتلاف اليمينى المُتطرّف مُرونةً بشأن اليوم التالى، ولم تتّفق مُكوّنات البيئة الفلسطينية على ورقةٍ واحدة يُمكن تسويقها محليًّا وخارجيًّا، كما لا إشارة على رغبة البيت الأبيض فى اتخاذ مواقف جادة، وقد استعر موسمُ الانتخابات الرئاسية وتلقَّى بايدن رسالةً مزعجة من تصويت ميتشجان، وقد يتعاظم الانزعاج مع نتائج «الثلاثاء الكبير»؛ إذ يُرجَّح أن يُسجّل غريمه ترامب تقدُّمًا ملحوظًا فى خمس عشرة ولاية، باتجاه حسم السباق وانتزاع ترشيح الحزب الجمهورى.
 
كانت الهدنةُ الأُولى أواخر نوفمبر الماضى نتاجَ جهدٍ دؤوب من الوسيطين المصرى والقطرى. وقتها كانت الحربُ طازجةً، والجنون الصهيونى فى أعلى مستوياته، وخطاب واشنطن بعيدًا للغاية عن المسألة الإنسانية ومُتماهيًا بالكامل مع سرديّة الاحتلال، بشأن فظائع «طوفان الأقصى» وحقّ الدفاع عن النفس.
 
باختصار؛ كانت مصاعبُ التفاهم أكبر ممَّا هى عليه الآن، والمقاومةُ فى أوج نشوتها قبل أن تتضرَّر قواعدها العسكرية، أو تتعاظم الكلفةُ المادية والأخلاقية لحالة الدمار، بما تُرتّبه من أعباء مُباشرة على المدنيين، وضغوطٍ اجتماعية ونفسية على قادة الفصائل ومُقاتليها. تلك الحالةُ كانت تُبشِّر بتليين المواقف كلما تمدَّد الوقت، وتأكَّد الطرفان من استحالة إحراز النصر أو خطورة الإقرار بالهزيمة؛ لكنَّ واقع الميدان تطوَّر فى اتجاهٍ أكثر دراماتيكية: خطَّة الليكود تعرَّت مع طول النزاع وإخفاقها فى باقة الأهداف المُعلنة، وقناة الاتصال انقطعت بين أنفاق حماس وقادتها السياسيين فى الخارج، وإزاء ديناميكية الأخيرة وسعيها إلى الفوز باستراحة لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق، صار نتنياهو أكثر تمسُّكًا بمنطق التفاوض تحت النار، والهروب من الاستحقاقات الداخلية بإحماء ملفات الخارج إلى آخرها، سواء ناحية القطاع، أو فى التلويح بتحضير عملية عسكرية على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
 
المسألةُ اللبنانية صارت أكثر تشابكًا مع أوضاع غزّة؛ رغم تصريح كلِّ الأطراف برغبتهم فى فَصل الجبهات عن بعضها، وتجنُّب التصعيد إلى مواجهةٍ إقليمية واسعة. والحادث أن الحزب ما زال قايضًا على رواية الإسناد، وإشغال جزءٍ من جيش الاحتلال تخفيفًا عن الغزِّيين، وساسة بيروت يتحدّثون عن وجوب تفعيل قرار مجلس الأمن 1701 لعزل النزاع فى الجنوب عن ملف فلسطين، بينما تُقدّم تل أبيب تصوُّرًا هجينًا يتلطّى وراء القرار وينتهكه فى الوقت نفسه؛ إذ تُطالب بإزاحة عناصر قوّة الرضوان الشيعية شمال نهر الليطانى، وأن تُترَك المساحةُ المنصوص عليها لحركة الجيش اللبنانى وقوات اليونيفيل حصرًا، فى الوقت الذى لا تتوقَّف فيه عن توجيه ضرباتٍ فى العمق، وصلت إلى صيدا وبعلبك على بعد عشرات الكيلو مترات من الخط الأزرق.
 
لم تنجح تدابير 1701 فى تبريد جبهة المواجهة اللبنانية الإسرائيلية. صحيح أن الأوضاع ظلّت منذ العام 2006 تحت سقف قواعد الاشتباك المُتَّفق عليها ضمنيًّا؛ إلّا أنها أبقت جمرةَ النار تحت الرماد، فكان إشعالُها سهلاً بعد السابع من أكتوبر، عندما قرَّر «نصر الله» أن يحفظ ماء وجه المحور الشيعى بمناوشات لا يُعوَّل عليها فى التخفيف عن غزّة، ولا تستفز العدوّ بما يكفى للانخراط فى الحرب؛ لكنّ صقور تل أبيب وجدوا فيها ضالتهم لتعميق سرديّة الخطر الوجودى، والضغط على أعصاب صانعى القرار الأمريكيين بغرض إبقائهم فى حيِّز الدعم المُطلق، وترشيد النزعة الإنسانية فى خطابهم، ثم الاستفادة من حضورهم الإقليمى فى توجيه رسائل ردع ساخنة لقيادة المحور الشيعى. والحال هذه فإن حصيلة التضارب أنتجت مناخًا مُشوَّهًا لا يمكن التنبّؤ بمآلاته؛ فالحزب لا يريد الحرب لكنه ينزلق باتجاهها، وإسرائيل تُلوِّح بها وإن كانت آخر ما يجب أن تُفكّر فيه، والجبهات لم تعُد موصولةً لدرجة الصدام الشامل، كما أنها ليست معزولةً بالمستوى الضامن للطمأنينة، والضحيّة الأكبر قرار مجلس الأمن وقد صار عاجزًا عن ترشيد الجنون، وعن إعادة المنطقة لما كان قبل الطوفان، ناهيك عمّا اعتُمد على خطِّ التّماس منذ 2006 مرورًا بمحنة سوريا قبل ثلاث عشرة سنة.
 
الوساطةُ الدائرة بشأن غزة لا تستبق المراحل. من المهم طبعًا أن يكون الأُفق السياسى حاضرًا فيما يخص اليوم التالى، ومستقبل الإدارة والحكم داخل القطاع وفى عموم الأرض المحتلّة؛ لكن الأزمة وتكاليفها الباهظة يفرضان الاهتمام أولاً بالهُدنة المؤقتة، ثم تحويلها إلى تهدئةٍ دائمة، والانتقال بعدها لملفّات التسوية فى ضوء الحقوق العادلة، المصونة بالقانون الدولى وسوابق القرارات الأُممية. الخصمان لا يتّفقان فى أى شىء تقريبًا: خلاصة الحرب، ومعنى النصر والهزيمة، وقادم العلاقة وقد تأكَّد أن لا طرفَ قادرًا على إزاحة الآخر؛ لكن النقطة التى يصعُب الاختلاف فيها أن أوضاع غزّة تفاقمت بصورةٍ سيئة، والعدوان الإسرائيلى شحذ كلَّ جبروته إلى حدٍّ يتجاوز الإنسانية وأعراف الحرب، والحاجة ماسّة إلى مُتّسعٍ هادئ لانتشال المدنيين من محنتهم. والوسطاء مشغولون بالوصول إلى الأولويات، ثم تأتى بقيّة العناوين فى مواعيدها المناسبة.
 
ثمّة صورة واضحة من مجموع ما تواتر على ألسنة قادة حماس، مفاده أن أقصى أمانيهم أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه فى السادس من أكتوبر. ونتنياهو طرح ورقةً عن «اليوم التالى» خلاصتها العودة إلى ما قبل فكّ الارتباط بالعام 2005، والرؤيتان أبعد كثيرًا ممّا آلت إليه الأوضاع، وما يُمكن أن يكون صالحًا للتطبيق فعليًّا. وإن كانت بعضُ المقاربات تتحدّث عن تنشيط السلطة الفلسطينية، بدءًا من حكومة تكنوقراط غير فصائلية، ثم إعادة هيكلة منظمة التحرير ودمج حماس والجهاد؛ فإن ذلك خيار الضرورة الذى تأخّر كثيرًا، ويتّصل بصالح القضية إجمالاً، وليس بالحرب ووضعية الانسداد الراهن. لكن ما يتفرَّع على ذلك يُشير لرغبةٍ فى إنتاج نسخة غزِّية من القرار 1701، بالحديث عن قوَّات خارجية تتولى مسألة الأمن والمنطقة العازلة بين الجانبين مُستقبلاً، وتتنوَّع البدائل من الإشارة لدورٍ عربى، أو تحالفٍ دولى، أو قوة أُمميّة على غرار اليونيفيل فى لبنان، والفكرة نفسها غير قابلة للتطبيق عمليًّا؛ لأنها من دون تسوية سياسية تنهى الاحتلال وتستولد الدولة الضائعة؛ ستكون أقرب إلى سياقٍ قانونى لتمرير حالة غير قانونية، وأداةٍ تُغلق قناة السياسة وتُصادر فكرة المقاومة المشروعة، كما تتهرَّب بها تل أبيب من التزاماتها بموجب اتفاق أوسلو، وممَّا تُرتّبه الشرعية الدولية من التقسيم حتى صيغة القرار 242، وما بعدهما من أعباء، ليس آخرها المثول أمام محكمة العدل الدولية على خلفية انتهاكاتها لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.
 
صيغة 1701 فى لبنان تتوافر لها عناصر مُعِينة على البقاء المُتوازن؛ حتى لو كان القرارُ عرضةً للانتهاك منذ إقراره إلى اليوم. فالواقع أنه يُنظّم العلاقة بين دولتين مُستقلتين، ويُمهّد أرضيّةً مُستقبلية دائمة لفضّ الاشتباك وترسيم الحدود، ولا يحرم أىَّ طرف من حرية الحركة وبناء عناصر قوّته. بينما فى غزّة لا دولة قائمة لنتحدّث عن حدودها، والفكرة نفسها تعزل الجغرافيا الفلسطينية عن بعضها، بما يجعل تطبيقها انتهاكًا للقانون الدولى لا تقعيدًا له، فضلاً على أن الكيانية السياسية الضامنة للالتزام غير مُتحقِّقة، ومن دون حالة التوافق الوطنى يُمكن لأىِّ تيّارٍ أو فرد وحيد أن يشعل الأجواء برصاصة واحدة. وإذا كان المطلوب أن تؤول جبهة القطاع إلى وضعٍ مُجمَّد كما فى جنوب لبنان؛ فإنّ شرط ذلك أن تُتاح لها إمكانات البقاء ذاتيًّا، وأن يُقدّم المجتمعُ الدولى ضماناتٍ حقيقية تقود لإنهاء الحصار وتفكيك وصاية الاحتلال على الضفّة وغزّة مُستقبلاً، لتتحقَّق الدولة فى مجالها المادى قبل أن يُطلَب منها التحقُّق معنويًّا لناحية الالتزامات السياسية والأمنية.
 
للميدان حساباتٌ أكبر ممَّا للسياسة، ولعلَّها السبب وراء تعطيل صيغة القوات الدولية فى لبنان، وهى فى غزّة أشدّ وطأةً وإحكامًا؛ لأنه لا أفقَ يتنفّس فيه الفلسطينيون هواءَ بلدهم النظيف بعيدًا من وحشيّة الاحتلال ونواياه الإلغائية. وإذا كانت وساطةُ القاهرة والدوحة، وخلاصاتُ الحوار فى اجتماعات باريس بنسختيها وجلساتها المُتعدّدة، قد مهَّدت الدرب لاستخلاص هُدنة مُؤقّتة من أنياب نتنياهو، فإنّ تمديد المسار باتجاه رؤيةٍ مُثمرة بثباتٍ واستدامة يتطلَّب تغييرًا عميقًا لدى الجبهتين: القوى الفلسطينية بدأت جولةً جديدة للتفاهم بغرض إنهاء الانقسام، واستقالة حكومة أشتية تفتحُ البابَ لبناء طاولة وطنية جامعة، بما يُلائم الأزمة الوجودية وشروطها؛ إنما يتبقَّى أن تنعكس الورشةُ الدولية بشراكة الولايات المتحدة على ذهنية السلطة فى تل أبيب، ليس بإغراء جانتس ويمين الوسط من أجل إحلال الوجوه؛ لنتفاجأ بعدها بأنّ السياسات على حالها، ولكن عبر ضغوطٍ حقيقية تُعيد بناء العقلية الإسرائيلية على قاعدة أكثر التزامًا بالقوانين والضوابط الأخلاقية، وتفعيل المنظومة الأُمميّة بما يُنهى حالة الاستعصاء والحصانة التى يتدثَّر بها الاحتلال منذ عقود. الهُدنة أوّل طريق الحل، وترويض الجنون الصهيونى شرطُه اللازم، وعواصم الاعتدال لم تُقصِّر فى أدوارها، والباقى أن يُغادر رعاةُ إسرائيل مكانهم الدائم وراء دبابات الصهاينة فى الميدان، وبعثاتهم فجّة الخطابات فى المحاكم والمُؤسَّسات الدولية.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة