منذ أنشدَ المُتنبّى قصيدتَه الداليّة الشهيرة، فى رحلة خروجه من مصر قبل قرابة أحد عشر قرنًا، ربما لم يتردّد بيتٌ من الشعر كما تردَّد قولُه «عيدٌ بأيّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ/ بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديدُ».. وكلّما تجدّدت المناسبات تتجدَّد التساؤلات، دون أن يخصم ذلك من بهجة الحدث، ولا أن يكون الاحتفال حجابًا عن الالتزامات التى يحملُها الناسُ تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم. واليوم، ونحن نحتفلُ بعيد الفِطر، نقفُ على إضاءاتٍ وتحدّيات، ومعنا كثيرٌ ممّا أحرزناه فى رمضان وقبله، وعلينا الكثيرُ ممّا يتوجّب السعى له والاجتهاد فى تحصيله. والأعيادُ بطبعِها كشوفُ حسابٍ عمّا فات، وبشائر بمساراتٍ جديدة، وجسورٌ عريضة بين الماضى والحاضر؛ وإذا صحَّ فيها انعتاقُ الأبدان من قيود الطقوس قليلاً، وامتزاجُ الروح بمادة الحياة ومباهجها؛ فإنه ممَّا يُعظِّم شعائرَ الله والأوطان، أن تكون تجديدًا للمواثيق مع الذات والآخر، وفُسحةً للرضا بسوابق الطاعات، ومنفذًا إلى التمتُّع بحصادها فى الخطاب والمُعاملة. فبالصلوات والتكبيرات وكَسر الصوم تكتسبُ اللحظةُ صيغتَها الدينية، وبالمودَّة واللِين والإخلاص واستبقاء نفحات الشهر الكريم يكتملُ طابعُها الإيمانى.
جذرُ المناسبة مغروسٌ فى تُربة الاعتقاد؛ لكنها مع الزمن وسَبْك الهُويّات أخذت شكلاً اجتماعيًّا. على هذا المعنى يصومُ المسيحيون مع المسلمين، ونبتهجُ بعِيْدَى الميلاد والقيامة كما بالفطر والأضحى والمولد النبوى. والواقع أنّ العيدَ للصائم وغير الصائم بالتساوى، مُسلمًا كان أو خلافَ ذلك؛ لكنّ عنقودَ الفرحة يلمعُ ويتلألأ فى أيدى الذين أدَّوا فُروضَهم، لناحية الفلسفة العميقة من وراء فكرة الصيام، ومُقتضى العبودية أمام كمال الأُلوهيّة. ولعلّ المصريين على تنوُّعهم قد أنجزوا واجباتهم الروحانية والإنسانية خلال الشهر على خير مثال، وتعاملوا فى سياقهم الغالب مع الفريضة بحقِّها، فى الجزء اليسير الذى يخصُّ علاقةَ كلّ فردٍ بالسماء، والأجزاء الأكبر التى تُحدِّدها علاقاتُهم ببعضهم، وبالغلاف الواسع الذى يقتسمونه معًا. وأعظمُ ما فى المشهد أنه كان تضامُنًا تحت الضغط، واختيارًا حُرًّا فى غير الأحوال الطبيعية، وعن إيثارٍ ومَكرُمة لا عن بحبوحةٍ وسِعَة. كأنّ الناس قد انفضّوا عن ذواتهم إلى غيرهم؛ فحقَّقوا مُرادَ الله من أيّامه المُباركة، بأن يكون الناسُ كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضُه بعضًا، ويتغلّبون معًا على ما يسوء الواحدَ منهم، وما يُعطِّل حكمةَ الخَلق فى التقارب وعمارة الأرض.
العادةُ السنوية التى اسْتنّها الرئيسُ قبل عدّة مواسم، وحافظ عليها؛ بأن يفتتح اليومَ بالاحتفال مع أبناء الشهداء تعويضًا عن مُصابهم فى الحاضنة العائلية، وتأكيدًا لأنّ رباط الوطنية لا يقلُّ قيمةً وصلابة عن صِلة الرحم والدم، تُمثِّل واحدةً من أسمى القِيَم التى يُدعَى إليها الناسُ فى رمضان والأعياد، وفى سائر الأيام أيضًا؛ لأنها تعبيرٌ صافٍ عن التكافُل والأُسرة الواحدة، وعن المودّة فى أوضح معانيها، وتنطوى على إقرارٍ صادق باستحقاق الراحلين لأنْ تظلّ ذكراهُم حاضرةً؛ كأنهم باقون، وبحَقّ ذويهم فى أن يُعاينوا البهجةَ كاملةً غير منقوصةٍ. وإذا كان علينا فى صَومنا أن نفتح الموائدَ على بعضها، ونتشاركَ اللُقمةَ مهما تضاءلت؛ فلا يبيتُ جائع ولا يُصبح محروم؛ فالمشاعرُ زادٌ أهمُّ وأجدى من المأكل والمَشرب، وإطاعة الله بصَدَقة القلب ربما تفوقُ صدقات الطعام والمال. وأثمنُ ما نُقدّمه للآخرين، أن نقتسمَ معهم مواجعَهم الثقيلة، وأن نُقاسِمَهم مباهجَنا وأوقاتنا وما فى وِسْعنا من جهدٍ وطاقة.
لم يكُن الظرفُ مِثاليًّا؛ لكنّ السلوك تخطّى الأعباء وقيودَ الاستثناء. حلَّ رمضان فى سياق شبكةٍ مُعقّدة من الأزمات، بعضها أنشأه الاقتصادُ بمصاعبه المحلية والمُستورَدة، وكثيرها تأسَّس على توتُّرات الإقليم وأوضاعه المُلتهبة. وإن كانت الدولةُ قد سارت باتّجاه البحث عن بدائل وحلولٍ جادّة، وقطعت شوطًا باتجاه الخروج من دائرة العجز وشُحّ النقد الأجنبى وانفلات الأسعار؛ فإنّ الخُطَى الإيجابية الملموسة ما تزال فى أوَّلها، ولم تُحقِّق فوائدَها الكاملة بعد. ورغم ذلك؛ لم يُقصِّر المصريون أو تختلف عاداتُهم، فانتشرت الموائدُ الرمضانية فى الأحياء والشوارع، وتدفّقت المُساعداتُ ومُبادرات الخير بوتيرةٍ مُنتظمة، من صندوق تحيا مصر وصكوك الإطعام بوزارة الأوقاف، وأنشطة التحالف الوطنى للعمل الأهلى وبقيّة المؤسسات والجهات الرسمية، إلى الشركات والجمعيات والأفراد العاديين، وبينما كان مُتوقَّعًا أن تُؤثّر موجةُ التضخُّم على الحجم والكثافة؛ فإنّ الأرجاءَ كلَّها امتلأت بقوافل العَون والمَدَد، وامتدّت طاولاتُ الإفطار مئات الأمتار، وتشارَك الناسُ طُقوسَهم الرمضانية مثلما اعتادوا فى كلِّ سنة.
اتُّخِذ قرارُ تحرير سعر الصرف فى الأسبوع السابق على رمضان، ولم تتضرَّر ميزانياتُ أغلب الأُسَر أو تختلف أنماطُ إنفاقهم ومعيشتهم؛ بل إنّ المُؤشِّرات تتحدَّث عن تراجُعٍ ملموس فى الأسعار ومستويات التضخُّم. وإلى ذلك؛ فقد واصلت مصرُ دورَها الأخلاقى والإنسانى تجاه الأشقاء فى غزّة، وكثَّفت ضخّ المُساعدات وشحنات الإغاثة طوال الشهر، وضاعفت أعدادها خلال الأيام الأخيرة. والأهمُّ أنّ الدولة حافظت على ثبات موقفها المبدئى برفض العدوان، والتصدّى الحاسم لمُخطّطات التهجير والتلويح باجتياح رفح، وجدّية البحث عن هُدنةٍ تُمهِّد لإيقاف النار بشكلٍ مُستدَام، ولا ينفصلُ ذلك عن دورها تجاه النازحين على أثر فوضى السودان وصراعاته، والعمل الدؤوب مع الفُرقاء الليبيين من أجل استعادة المسار السياسى، والنأى بالنفس عن الاشتباك الأمريكى مع الحوثيّين عند مدخل البحر الأحمر؛ رغم تأثيراته الاقتصادية المباشرة؛ لأنه بدا انحيازًا صارخًا من إدارة بايدن لجانب إسرائيل فى بطشها المُنفلت بالفلسطينيين. فالإدارةُ السياسية اضطلعت بمسؤوليّاتها الوطنية والإقليمية على صورةٍ أكملت حالةَ المجتمع التضامنية، ولم ترَ فى رمضان عائقًا عن العمل الجاد، ولا فى ماديّة التحرُّكات التكتيكية والاستراتيجية ما يتعارضُ مع روحانيّة الشهر ومعانيه الرسالية.
بدأ الأقباطُ صومَهم الكبير مع بداية رمضان، ويتبقّى لهم نحو ثلاثة أسابيع حتى «أسبوع الآلام» وموسم العيد.. وخلال الشهر انعقدت عشراتُ الموائد الجامعة، تحت رايةٍ إسلامية أو مسيحية، تجاور فيها الجميعُ بلونهم المصرى وتمايُزاتهم العقائدية. ليس عاديًّا ولا بسيطًا أن تُرتّب إحدى الكنائس إفطارًا لمُختلفين، وتضع على مائدته طعامًا تمتنعُ عن تناوله؛ فالمعنى أن الدين يُميِّز ولا يُفرّق، وقد تُلزمُنا الطقوسُ بالاختلاف الظاهر، وتظلّ البواطنُ مُتآلفةً ولها روحٌ واحدة. وإذا كان الامتحانُ الأقسى خلال العقدين الأخيرين؛ أنّ فريقًا من المُتطرّفين سعوا إلى شَقّ الصفّ والاستثمار فى الفتنة. فإنَّ استعادةَ اللُحمة والوئام فى الأجواء الرمضانية، وهى أبرز تجلّيات الحضور الإيمانى فى المُمارسة والمجال العام، كأنها تعبيرٌ عن الخروج من أَسْر الرجعية القديمة، وسَدّ المنافذ التى تسرَّب منها الأُصوليّون لإشاعة نزعات الفُرقة والانقسام. ربما انعقدت مثل هذه الموائد قديمًا بحالتها الراهنة؛ لكنها كانت وقتها نضالاً ضد خطاباتٍ هائجة، وتصدِّيًا لموجةٍ عارمة من الشحن والاستقطاب، واليوم صارت مُمارسةً اجتماعية طبيعية، تتجذّر فى الوعى كحالةٍ يومية عادية وعابرة، يُنجزها الناس بأريحيّةٍ كما يتنفّسون؛ بعيدًا من الانشغال بالظلال السياسية وما يعُدّه البعضُ مُواءمةً ظرفيّة، يتّقى بها أحدُ الطرفين الشرورَ، ويُسوِّق بها الآخرُ دعاياته الانتحالية عن السماحة والاعتدال، على ما يُوافق جوهرَ العقيدة ويُخالف اعتقاد جماعاتهم المُتشدِّدة.
أنجز المصريّون فُروضَهم كاملةً، وأدقُّ ما فيها التوازنُ الخلّاق بين الروحى والمادى، والجاد والخفيف. لقد انعقدت الإرادةُ على أن يكون الشهرُ عاديًّا فى إيقاعه المُثمر كبقيّة الأيام، وفى ألّا تُطوّحه العواصفُ وتحرِفُ مسارَه، وأن يكون استثنائيًّا فى انعكاساته الاجتماعية والإنسانية، بما يُناسب طُهرانيّة المُناسبة الدينية، ويستجيبُ للحظة بكفايةٍ وفاعليّة. وخلال الأسابيع الأربعة تتابعت حركةُ المُؤسَّسات التنفيذية فى كلِّ مُستوياتها بدأبٍ واضح، ونشطت الحكومةُ على عدّة محاور، بدأت من الأسعار والرقابة وضَبط الأسواق، وتفعيل اتفاقات وتفاهمات حيوية؛ لناحية إنعاش الاقتصاد واستكمال برنامج الإصلاح، وصولاً إلى رَفع الحدّ الأدنى لأُجور العاملين بالقطاع الخاص قبل أيامٍ قليلة. وشهد الرئيسُ وقرينته احتفالَ المرأة المصرية وعيد الأُم فى ثلث الشهر الأول، وبعدها أدّى اليمينَ الدستورية لولايةٍ ثالثة، وألقى بيانًا مُوجزًا يرسمُ ملامحَ المرحلة المُقبلة، تلاها حفلُ ليلة القدر بمزيدٍ من رسائل الطمأنة والتفاؤل، ثمّ استضاف مئاتٍ من كلِّ التيّارات والانتماءات على مائدة «إفطار الأُسرة المصرية»، وجدَّد الحديث عن ثوابت الرؤية الوطنية إزاء الداخل والخارج، والتمسُّك بمسار «الحوار» الجامع؛ لتنشيط البيئة السياسية والوصول إلى توافُقٍ فعّال بشأن التحدّيات والشواغل واهتمامات الشعب وأولويّاته، وفى كلِّ ذلك كان رمضان حاضرًا بالمعنى والمبنى؛ لا كمسرحٍ زمنىّ للفعاليات فحسب؛ إنما كإطارٍ قِيَمىّ وأخلاقىّ تنطبعُ به السلوكيات، وتنضبطُ الرسائلُ والدلالات.
وفى شأن الفُروض المُنجَزة أيضًا؛ أُضِيئت عشراتُ آلاف المساجد طوال ليالى الشهر بين تراويحٍ وتهجُّد، وأُعِيد تنظيمُ الاعتكاف على وجهٍ مُرتَّب ومُنضبط، وازدهرت الدعوةُ فى المقارئ وحلقات الدرس، وفى خريطةٍ تليفزيونية حاشدةٍ بالبرامج الدينية، لعلَّ أبرزَها تجربة «نور الدين» للدكتور على جمعة، وقد تصدَّت لأُمورٍ من صميم التنوير والتماس الجوهر الإيمانى الصافى؛ حتى أنها أزعجت المُتطرّفين واستجلبت لصاحبها النقدَ والتطاول. وبالتوازى؛ تمدّدت قوافل الثقافة والليالى الرمضانية فى أوصال البلد، بمسرحيّاتٍ وأُمسياتٍ شعريّة وعُروض إنشادٍ وغناء، كما ارتَقَت صناعةُ الترفيه إلى مدىً غير مسبوقٍ، وأصابت الدراما المصرية مستوىً شديد النُّضج فى المضامين والمُعالجات البصرية، ما حقَّق لها رواجًا إقليميًّا واسعًا، هيمنت به على الشاشات الكُبرى فى المنطقة العربية كلّها، واجتذبت ضَخًّا كثيفًا من المواد والحملات الإعلانية، وتركت بصماتٍ كانت بمثابة التأسيس لمرحلةٍ مُغايرة، تتعالى فيها طموحاتُ الكتابة والصورة وحجم الإنتاج عمّا كان مُعتادًا، كما فى مُسلسلَى الحشاشين وجودر مثلاً؛ فحقّقت اختراقاتٍ على صعيد التقنية والإبهار ومعايير الجودة والإتقان، وأنجزت مهمّة التسلية والترويح، ممزوجةً بأهداف التثقيف والتوعية وترقية الذائقة، والسَّير الحثيث إلى جانب الدولة على مُحور الهُويّة وبناء الإنسان.
يُشبه العيدُ فى جوهره فرحةَ الطالب المُجتهد بنتيجة الامتحان. وظاهرُ الحدث أنّ الصائمين يحتفلون بالفطر؛ إنما فى باطنه طبقاتٌ من الأعياد والاحتفالات. على معنىً من معانيه يصحُّ عيدًا للأُسرة الواحدة التى أكّدت وحدتّها، ولم ينقطع الخيرُ من شوارعها وموائد ناسها، وعيدًا للتضامن الإنسانى الذى أبداه المصريون تجاه بعضهم، والالتزام الأخلاقى الذى اعتنقوه كأفرادٍ ومُؤسّسات مع فلسطين والأشقاء فيها، وللفاعلية السياسية التى حافظت عليها الدولة منذ ستة أشهرٍ، ولا تزال، وسمحت لها بإدخال المساعدات رغم تعنُّت العدو، ثمّ بإزاحة مُخطّط التهجير، وإرجاء اجتياح رفح، وأخيرًا مُضاعفة تدفِّقات الإغاثة والاقتراب من إبرام هُدنة، وهو عيدٌ أيضًا للإبداع والمُبدعين الذين صنعوا موسمًا دراميًّا غير مسبوق، وأبهجوا الملايين فى مصر والمنطقة العربية كلها، كما أنه بمثابة عيدٍ لاكتمال الاستحقاق الدستورى وإعلاء الإرادة الشعبية؛ فإذا كانت الانتخاباتُ الرئاسية حُسِمَت قبل أربعة أشهر، فإنّ إنفاذَ أثرها عمليًّا واكتمال هيئته الرسمية تحقّقا فى مراسم التنصيب قبل أيام، ومعهما إعلانٌ عن الجمهورية الجديدة وعافيتها البادية فى العاصمة الإدارية، وفيما وراءها من فلسفةٍ تنموية ورؤيةٍ للمستقبل. هى فرحةُ الفطر أوّلاً، وأفراح الفروض المُؤدّاة باستقامةٍ وإتقان فى كلّ التزام ومسألة، وقد كان رمضان شهرًا من العمل والأمل والإنجاز والمحبّة الخالصة، وللخارجين منه جميعًا أن يبتهجروا بما تركوه فيه وما تركه فيهم.. عيد سعيد، وكل عام ومصر والمصريين بخير.