"إذا كان الادخار هو الدواء والاستهلاك هو الحلوى، فيجب أن تكون الحلوى الإضافية متناسبة مع القرص الإضافي من الدواء" جون مينارد كينز، الاقتصادي الإنجليزي الشهير " 1883 – 1946 "، في كتابه النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود، ويتحدث في هذه الجزئية عن فرضية أساسية مفادها أنه يجب زيادة معدلات التشغيل حتى تحدث زيادة في الدخل، وتحقيق مدخرات إضافية، وفي تصوري أن أخطر ما يواجه المصريون في الوقت الراهن هو تراجع قدرتهم على الادخار، بعدما صار الدخل بالكاد يتساوى مع الإنفاق، في ظل مؤثرات وظروف خارجية وداخلية شديدة التعقيد.
عقب تحرير سعر صرف العملة "الجنيه" مطلع مارس الماضي، تواترت الأنباء عن انخفاضات وشيكة في أغلب السلع بنسب قد تتجاوز 20%، نتيجة التقديرات الجديدة للعملة المحلية والتدفقات النقدية الأجنبية، التي دعمت موقف احتياطي العملات الصعبة في البنك المركزي، والحقيقة أن العديد من السلع المعمرة مثل الأجهزة المنزلية والسيارات وغيرها قد استجابات للانخفاضات، إلا أن الموضوع له زوايا أخرى على مستوى السلع الاستهلاكية الغذائية، مع العلم أن هذه الأخيرة يفترض أن تتحسس الانخفاضات بصورة أسرع، ارتباطاً بدورة إنتاجها، وفترة تسويقها، ووفرتها محليا، لكن هذا لم يحدث، ليظل السؤال الأهم على لسان كل مواطن لماذا لم تنخفض السلع الأساسية على الرغم من انخفاض الدولار؟!.
بالأمس القريب ذهبت لأشتري "العيش" من أحد المخابز، فوجدته يعرض "رغيف الحجم الكبير" نظير 5 جنيهات، فتمتمت متسائلاً ألم ينخفض سعر طن الدقيق وفقاً لكل بيانات الغرف التجارية لأكثر من 12% وبواقع ألفي جنيه تقريباً في الطن، خلال الأيام الماضية، ليصبح 16 ألفاً بدلا من 18 ألفاً، لكن شيئاً لم يحدث، بل التلاعب في وزن الخبز مستمر، ومستويات الأسعار لم تتغير عن السابق، والوضع في رغيف الخبز البلدي لا يختلف كثيراً عن " الفينو"، الذي صار قزماً، عديم الوزن لا يعول عليه، إذا كنت تستهدف الشبع أو حتى سد الجوع، أو لتجهيز السندوتشات لأطفالك في المدارس، لذلك صار مهماً أن نناقش أبعاد الأزمة، وأسباب عدم انخفاض الأسعار رغم تراجع الدولار، ومكونات الإنتاج بصورة أساسية.
أي سوق في العالم تتحسس العرض والطلب بمعايير واضحة وآليات مدروسة ويتحرك التسعير فيها مع نقص المعروض أو زيادة الطلب، أو التوازن النسبي بينهما، لكن في مصر الموضوع مختلف وله أبعاد غير واضحة أو مفهومة بصورة دقيقة، لا يمكن تفسيرها بشكل محدد، إلا في ضوء عدة أسباب، أولها يرتبط بسياسة الاحتكارات التي يتبعها بعض التجار من خلال تخزين عشرات الأطنان من السلع الاستهلاكية الغذائية مثل الأرز والسكر والبصل والثوم.. إلخ، فالتخزين صار جزء من المشهد في السنوات الأخيرة، البعض يضع مفهوم شيك لهذا الموضوع ويصفه بأنه "تحوط" من التغيرات الحادة في الأسعار، دون النظر للموضوع باعتباره تدخل مخل في مسارات العرض والطلب، يؤدي في النهاية إلى غياب سلع من الأسواق أغلبها مصرية 100%، وتحقق الاكتفاء الذاتي!
السبب الثاني الذي يفسر عدم انخفاض الأسعار على مستوى العديد من السلع الغذائية المرتبطة بشكل يومي بحياة الناس يكمن في ضعف الرقابة، وغياب المتابعة من جانب أجهزة الحكم المحلي في الأحياء، وأجهزة المدن، التي تشرف عليها وزارة التنمية المحلية والمحافظات المختلفة، فقد انشغلت المحليات بمحاربة الإشغالات ومطاردة "تروسيكلات" الموز في الشوارع، وعربات الفول، وباعة الخبز، بدلا من مراقبة الأسعار ومتابعة دورها في مواجهة احتكارات السلع والتلاعب في الأسعار.
السبب الثالث ربما يرجع إلى الاستهلاك الكمي المتضخم في مجتمع الـ 110 ملايين نسمة، في ظل ثقافة استهلاكية متجذرة في المجتمع منذ عشرات السنين، تجعل فاقد الطعام رقماً لا يستهان به، وكميات المخلفات أغلبها ناتج عن الهدر في استهلاك السلع الغذائية، في حين أن حجم هذا الاستهلاك لا يتناسب مع حجم الزيادات في دخول الشريحة الأكبر من المواطنين، الأمر الذي يتم ترجمته في النهاية إلى ارتفاع الأسعار، فالطلب موجود طيلة الوقت، حتى وإن ارتفعت أسعار مكونات الإنتاج.
السبب الرابع في قضية الأسعار يكمن في مستويات هوامش الربح التي يستهدفها المصنع والموزع والتاجر "جملة أو تجزئة"، على طول هذه السلسلة ستجد هوامش ربح كبيرة جداً قد تصل إلى 100% في بعض حلقاتها، بل إن البعض يعلنها صراحة أنه سيخفض الأسعار 30% دفعة واحدة، وبالطبع يحافظ على هوامش ربح، فكم يكسب إذن ما دام يخفض 30% دفعة واحدة في سلع أغلبها غذائية كثيفة الطلب، لذلك يجب أن تكون هوامش الربح معقولة ومقبولة حتى تنضبط الأسعار.
بعد استعراض الأسباب الأربعة السابقة يبقى سبباً أخيراً يسهم بصورة كبيرة في ارتفاع أسعار السلع رغم انخفاض الدولار ومكونات الإنتاج، لكنه يرتبط مباشرة بغياب فكر المنافسة عن بعض التجار أنفسهم، الأمر الذي ينتج عنه أحياناً تقديم أسعار متباينة لسلعة واحدة رغم أنها بنفس المواصفات، وهنا أستعين بتجربة شخصية لتوضيح الفكرة، فغالباً ما أشتري المياه المعدنية من " هايبر ماركت"، نظراً لأنه يقدمها بأسعار مناسبة، لكن مؤخراً اضطررت إلى الذهاب لأقرب سوبر ماركت، تحت ضغط الحاجة، فوجدت أسعار المياه لديه تزيد 30% تقريباً عن التي أشتري بها، مع العلم أن المسافة بينهما لا تزيد عن 250 متراً، وهنا يراهن البائع أو التاجر على عنصرين أساسيين، الأول جهل المستهلك بالأسعار، والثاني حاجته العاجلة للسلعة، خاصة الغذائية التي ترتبط علاقة المستهلك بها بالحاجة أو الضرورة.
قضية ارتداد الأسعار إلى نقاط معقولة يشعر بها الناس أمر شديد التعقيد وله أبعاد وتفاصيل كثيرة، خاصة ونحن نتحدث عن جماعات ضغط وأصحاب مصالح وفئات عديدة تحقق مكاسب اقتصادية غير محدودة نتيجة بقاء الوضع على ما هو عليه، مثل الغرف التجارية والاتحادات الصناعية وشعب التجار والمستوردين، وعلى الرغم من أن هذه الفئات تخرج إلى شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام وتنادي بضرورة استقرار الأسعار والعودة إلى مستويات معقولة في نسب التسعير، إلا أنهم في الواقع المسئول الأول عن هذه القضية، ويجب أن يفهم الرأي العام هذا جيداً فهؤلاء ليسوا أكثر من مجموعات مصالح تجمعهم تجارة أو صناعة مشتركة، وهدفهم الأول الربح، حتى وإن كان على حساب المجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة