يعتبر فن الرباعيات واحدًا من الفنون الشعرية الصعبة جدا على أي شاعر، فهي أقرب إلى الإبيجراما؛ حيث الحكمة المصفاة الخالصة التي تعبر بأقل قدر ممكن من الكلمات عن أوسع مدى ممكن من المعاني، وهي الفن الذي ينم عن قدرة الشاعر واللغة معا في التعبير الخالص، وكثيرا ما يقع الشعراء في دائرة هذا الفن في فخ الغموض والتعقيد، حين يريد تحقيق هذه المعادلة الصعبة التي لا يقدر على تحقيقها سوى شاعر مجيد يمتلك لغة قادرة.
إن أي جولة في هذه الرباعيات ستجعلك ترى بصورة واضحة كيف يمكن لشاعر أن يعبر ببساطة وعمق لا يتناقضان عن أكثر حالات الوعي الإنساني تعقيدا بوعي جمالي يجعل من تلك الحالات صورا واضحة لكل من يقرأها، يبدو وضوحها قادرا على الوصول إلى وعي القارئ محققا له درجات متعددة من متعة الاكتشاف والتذوق والفهم في آن واحد.
أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي مني أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام
ليبدو التعبير كأنه يركز على حالة فردية لكنها بالتأكيد معبرة عن حالات عامة كثيرة، كما يبدو أن الشاعر يتحدث عن نفسه لكن وعيه بلغته يجعل من تعبيره ذلك القادر على جذب القارئ لدائرته كأنه يعبر عنه هم بالتحديد.
فعلي الرغم من البساطة الشديدة التي تجعلك تشعر أنك ببساطة يمكنك قول مثل ذلك، فإن العمق الشديد يجعل للدهشة مكانها الأصلي عند القراءة
مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
غير أن هذه البساطة الظاهرية لا تمنع الشاعر من طرح قضايا وجودية ربما شغلت فلاسفة من قبله ولم يصلوا إلى رأي واضح فيها، لكنه الطرح الأكثر احتمالا للوصول على وعي قارئ يهتم بجمال اللغة المطروحة
خرج ابن آدم م العدم قلت ياه
دخل ابن آدم للعدم قلت ياه
تراب بيحيا وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت ولا الحياة
وهكذا تتنوع الأفكار المطروحة في الرباعيات بوصفها شعرا يلبس قناع الحكمة أو حكمة يتم تقديمها في ثوب شعري لكنها في الحالات كلها تعبير عن قدرة صلاح جاهين وامتلاكه للغة استطاعت أن تصنع لنفسها طريقتها الجمالية الخاصة التي تجعل من السهل علينا الإقرار بأن قصيدة العامية المصرية استطاعت أن تصنع في مائة عام ما صنعته القصيدة الفصحى في أكثر من أربعة عشر قرنا من الوجود والتطور، وربما تكون تلك بداية لدعوة أن يكون شعر العامية المصرية ضمن مقررات الأدب في جامعاتنا في برامج دراسية مستقلة كما هي دعوة لأن تفرد لطرائقه التعبيرية الدراسات في مراحل الماجستير والدكتوراه وما بعدهما، وهو واجب وطني كما هي ضرورة أكاديمية تحتم علينا النظر في إبداعنا بصورة تليق به.