أسوأ ما فى الحروب أن تصير روتينًا اعتياديًّا؛ وللأسف حدث ذلك فى غزّة. اكتملت 200 يوم من العدوان على القطاع، دون إرادةٍ واضحة أو عمل جاد على إسكات البنادق، ودون أُفقٍ سياسىّ منحته الولايات المتحدة اسم «اليوم التالى»، واستهلكت فى مُداولاته أكثر ممّا أنفقت على مُحاولات التهدئة وإغاثة الأبرياء.. الحال تُلامس سقفَ المأساة الكاملة، وصارت يوميّات الغزِّيين تراجيديا مفتوحةً على نهرٍ من الدماء والدموع، بينما لا تبدو الفصائلُ الكامنةُ فى الأنفاق جاهزةً للخيارات المطروحة على الطاولة، لناحية الاستمرار فى الخشونة أو البحث عن مخارج ناعمة؛ فضلاً على عجزها عن الإمساك بزمام الإدارة، أو اقتراح مساراتٍ توافقية بشأن مسائل الإعمار ومُداواة الجروح النازفة، وتطبيع الحياة على ما كانت عليه قبل «طوفان الأقصى» والشهور السبعة التالية.
الجميعُ خاسرون من دون شكّ. وإسرائيل فقدت كثيرًا من صورتها الدولية، وما كانت تُغلِّف به وحشيّتها الجينيّة من اصطناعٍ أخلاقى، وسَرديّةٍ مُضلِّلة عن بلدٍ ديمقراطى حديث وسط غابة من المُترصِّدين والأعداء. كما اهتزّت مُعادلة الرَّدع التى رسَّختها لعقودٍ، وتعرَّض صُلب فلسفتها الأمنية لامتحانٍ قاس، وقد بدا أنها عاجزةٌ عن توفير الأمن لمواطنيها وصَون صفة الدولة اليهودية الحاضنة. لكن فى المقابل؛ كانت خسائر غزّة أكبر وأكثر فداحةً، لا سيّما أنها اختبرت واحدةً من أشرس الحروب التى شنَّها الاحتلالُ على القطاع، وافتقدت الجاهزيّةَ اللازمة لامتصاص الهجمة وتقليص آثارها. ويعود السبب إلى الشراسة التى أبداها الصهاينة أوّلاً، وإلى سوء حسابات القسَّاميين وإغفالهم للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية المُحتمَلة على المدنيِّين. ولعلّ الطرفين تقصَّدا الوصولَ إلى الحافة؛ فالضحية اعتاد النضال باللحم الحىّ، وحساب أهدافه المُسجَّلة فى مرمى الخصم بعدد الأرواح والبيوت المُهدَّمَة، والقاتلُ سعى لتعويض محنته النفسية من دَم الخصوم، وإعادة تثبيت التوازنات القديمة بقبضةٍ تشطبُ آثار عملية الغلاف وتردعُ المُقاومة وحُلفاءها عن التفكير فى تكرارها، وفيما بينهما كانت دماء النساء والأطفال حبرَ الرسائل، ونعوشُهم صناديقَ البريد.
نحو تسعة وعشرين أسبوعًا من الموت والخراب العميم. الحصيلةُ إلى الآن تُقارب 35 ألف شهيد و77 ألف جريح، بما يفوق 4 % من سكان القطاع، فضلاً على مئات آلاف اليتامى والأرامل والمُشرَّدين. وقد فرَّ قرابة المليونين من منازلهم، وتعرَّض أغلبهم للنزوح عدَّة مرّات، من الشمال إلى وادى غزّة، ثم لخان يونس، وبعدها رفح، والآن تُطاردهم آلةُ الحرب فى الجنوب دون ملجأ بديل. وماديًّا؛ فما بين 70 و80 % من البنية التحتية والمرافق صارت أثرًا بعد عين، ودُمِّرت مئاتُ آلاف الوحدات السكنية، والتقديرات تُرجِّح الحاجةَ إلى ما بين ثلاثٍ واثنتى عشرة سنةً لرَفع الأنقاض، ناهيك عن مُدّة الإعمار وتكاليفه الباهظة. تلالُ الركام تُنبئ عن خسائر بنحو 20 مليار دولار، بما يُقارب الناتج الإجمالى لعُموم فلسطين «الضفّة والقطاع» بحسب أرقام العام 2022، ومبدئيًّا تتطلَّب العودةُ للوضع السابق، بكلِّ قصوره وهشاشته، ما يتجاوز 50 مليار دولار، تُرافقها مصاعبُ التدبير أوّلاً، ثمّ طُول فترة العمل، وأخيرًا الضمانات الكافية لئلا تتكرَّر اللوثةُ الصهيونية كما حدث فى كلّ المحطَّات السابقة.
منذ أُبرِمَت الهدنةُ الأُولى أواخر نوفمبر؛ لم تتوقَّف الوساطةُ المصرية القطرية بشراكة واشنطن عن محاولات تجديدها، وعُقِدت عشراتُ اللقاءات بين القاهرة والدوحة وباريس، والواضح أنَّ ائتلاف اليمين فى تل أبيب لا رغبةَ لديه فى التهدئة، هَربًا من الاستحقاقات التالية فيما يخصُّ المُساءلة والحساب ودَفع أثمان الإخفاق فى الطوفان وما بعده، وكلّها تُهدِّد بنَقض التحالف القومى التوراتى الحاكم، فضلاً على الزج برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو فى السجن، أو إنهاء مشواره السياسى. وعلى الضفَّة الأُخرى يغيبُ الوفاق بين الفلسطينيين، ليس فى مستوى النزاع الفتحاوى الحماسى، ولا صراع الأخيرة مع مُنظّمة التحرير والسلطة المُنبثقة عنها بموجب مراسيم أوسلو؛ بل داخل حركة المقاومة الإسلامية نفسها، وتحديدًا بين المستويين السياسى والعسكرى؛ حتى لَيبدو أحيانًا أننا إزاء فصيلين مُختلفين، أحدهما يُدير الجولةَ على الأرض بانقطاعٍ شبه كامل عن التوازنات الداخلية والخارجية، والآخر يُناور فيما بين الحلفاء والوسطاء، وفى الأخير يصعُب أن يتّفق على ما لا يُريده الرُّعاة والشركاء فى المحور المُسمَّى بالممانعة، وهو فى الحقيقة فعاليّة مذهبيّة تُدار لصالحِ تيّارٍ بعينه، ولا تعدو قضيةُ فلسطين أن تكون ورقةً فى مَلفِّه المُتخَم، وليست غايةً مقصودة لذاتها، وبإخلاص وطُهرانيّة كاملين.
آخرُ التوافقات فى مسار التهدئة توصَّلت إلى ورقةٍ أفرزتها لقاءات باريس، وعزَّزتها نقاشاتُ القاهرة. محورها وَقف النار لستّة أسابيع مقابل 40 أسيرًا إسرائيليًّا، والإفراج عن مئات الفلسطينيين من سجون الاحتلال، وتكثيف إنفاذ المُساعدات الإغاثية، مع إعادة تموضع القوّات خارج القطاع أو على أطرافه.. ويُفترَض أن تكون الجولةُ افتتاحيّةً لتفاهماتٍ تالية، تقود لتمديد الهُدنة مُقابل صفقاتِ تبادُلٍ إضافية. والعُقدة أنّ «كابينت الحرب» عاد للتشدُّد فى الشروط، والفصائل تمسَّكت بالانسحاب الكامل من اليوم الأوّل، ثمّ أُشِيع أنه لا يتوافر عددُ الأسرى المطلوب؛ إذ يُرجَّح أنَّ من بين 133 أسيرًا باقين فى الأنفاق، يقلّ عدد الأحياء عن أربعين. ولا يعنى ذلك إفساد خُطَط المُبادلة فقط؛ بل يسلبُ المُقاومةَ ورقةَ قوَّتها الوحيدة، ويُحقِّق غايةَ نتنياهو فى الإفلات من السياسة، وتخطِّى عقبة الرهائن بكلِّ ضُغوطها، وقد ثبت من قبل أنه وجَّه بتفعيل «بروتوكول هانيبال» سِرًّا؛ حتى أنَّ حِصّةً غير قليلة من قتلى مُستوطنات الغلاف أردتهم نيرانُ الطائرات الإسرائيلية.
المُعاناةُ الماثلة على تراب غزَّة لا تبدو آخرَ المطاف. يتشدَّد الصهاينةُ فى إكمال حربهم البرّية باقتحام مدينة رفح، ويرهنون تحقيقَ أهدافهم الثلاثة، إفناء حماس واستعادة المخطوفين وإنهاء الخطر القائم من ناحية القطاع؛ بأن يكسروا أربع كتائب تتركَّز فى الجنوب؛ بعدما أذاعوا أنهم تخلّصوا من ثمانى عشرة كتيبة فى الشمال والوسط. وقد جُوبهت الفكرةُ برَفضٍ مصرىّ حاسم، وبمُوجبه عدَّلت الولاياتُ المتحدة رؤيتَها لتشترط برنامجًا كاملاً يُراعى الظروفَ الإنسانية قبل الإقدام على الاجتياح، وهو ما اعتُبِر رفضًا ضمنيًّا فى ظلّ الخسائر المُتوقَّعة. لكنّ الأيام الأخيرة بدَّلت المواقفَ فى ضوء الاشتباك بين تل أبيب وطهران؛ إذ فردت الثانية غطاءً من الألعاب النارية على انكشاف الاحتلال، وانصاعت الأُولى لرغبة واشنطن فى عدم التصعيد؛ ربما فى مُقايضةٍ تتضمَّن إطلاقَ يدِها لتنفيذ ما كان مُعطَّلاً. ولو تحقَّق السيناريو؛ فستكون إيران طوقَ النجاة الذى أُلقِى لحكومة نتنياهو، والعامل المُحفِّز لمُعادلة الحرب الغزِّية؛ بدلاً من دعايات المُشاغلة والإسناد وتخفيف الضغط عن المدنيين والمُقاتلين فى الشريط الساحلى الضيِّق.
المرحلةُ الماضية شهدت مُتغيّرًا أكثر إزعاجًا؛ فقد وسَّعت إسرائيل محور نتساريم الأمنى الذى يقسم القطاع نصفين. ليست مُصادفةً أن يحملَ اسم مُستوطنةٍ قديمة جنوب مدينة غزّة، بينما يُطالب التوراتيّون بالعودة إلى جنّة «جوش قطيف» التى سُلِبت منهم فى خطّة فكّ الارتباط قبل عقدين، ويتحدَّث الجنرالاتُ عن بقاءٍ دائم، أو على الأقل سيطرة أمنية وحُرّية فى الدخول والخروج. وقد صار المحورُ الآن حزامًا خانقًا بعُمق 7 كيلو مترات، ما يُشير إلى خطّةٍ لعَزل الشمال عن الوسط والجنوب؛ ربما فى مُقدّمةٍ لتجديد العمل على مسألة تقسيم النطاق الجغرافى بين العشائر، أو ضمن نطاقاتٍ إدارية معزولة ومُنقطعة عن بعضها.
والخطورة هنا أنهم لا يتركون مُتّسعًا لأكثر من مليون مدنىٍّ يتكدّسون فى رفح، للعودة إلى منازلهم أو البحث عن مقاصد آمنة من نيران القصف. يُضاف لذلك أنَّ إسرائيل تُغلق معابرَها، وتفرضُ طوقًا حديديًّا من التجويع على النازحين، ولا ثغرةَ لنفاذ المُساعدات إلّا عبر الأراضى المصرية، مرورًا بمعبَرى رفح وكرم أبو سالم، ومعنى إطلاق عملية عسكرية عند الخطِّ الحدودى أنَّ الاحتلال يتقصَّدُ قتلَ الفلسطينيين بالنار والجوع، ويذهب عامدًا لقَطع الإمدادات الإنسانية بعدما استهلكت شهورُ الحصار كلَّ إمكانات البيئة المحلية. ولعلَّها تُخطِّط لأن يأتى التعويض من خلال الميناء العائم الذى تُدشّنه الولايات المتحدة، وقالت إنه سيكتملُ فى غضون أسابيع. هنا ثمّة إشارة زمنية تُنبئ عن موعد الهجوم؛ لكنها فى الوقت نفسه تُهدِّد بإنفاذ مُخطّط التهجير تحت سقف اليأس وانعدام الخيارات، وإذا كانت مصر قد رفضته وتصلّبت فى الرفض؛ فإنّ واشنطن قد تتكفَّل بالأمر عبر رصيفها البحرى، وقد رحَّبت به تل أبيب على غير العادة؛ بل كان اقتراحًا منها بالأساس، فيما يُشير لنوايا وأغراضٍ خفيّة وراء الخطوة ذات الطابع الإنسانى المُخاتل.
ارتكب الصهاينةُ كلَّ المُوبقات فى الشهور الأخيرة. صحيح أنها عادتهم لثمانية عقودٍ خَلَت؛ لكنهم اليوم أكثر صخبًا ووحشيّة، ويُسرفون فى القتل والتدمير، ويتحدَّون العالمَ وعيونَه المفتوحة، بالذهاب إلى آخر مدى من الإبادة الجماعية دون رادعٍ أو انشغالٍ بالتبعات؛ مُتسلِّحين بمُساندةٍ غربية وأمريكية لا تحيد، وإن خفتت بأثر البشاعة الفجّة؛ سرعان ما تتجدَّد تحت ستار العبث من المحور الشيعىّ وقادته. وإن كانت الأولويةُ بعد مائتى يومٍ أن تتوقّف الحرب، وأن تمتدّ كلُّ الأيادى لتضميد الجراح وإغاثة المنكوبين؛ فإنّ محنة غزّة تتجاوز الميدانَ وحساباته العاجلة والآجلة. يفرضُ الظرفُ التوصُّلَ إلى مُقاربةٍ سياسية عاقلة وقابلة للتطبيق، بحيث لا تجور على الفلسطينيين، ولا تُكافئ الاحتلال على دمويّته، وتكون مُنطلَقًا يُؤسِّس لمرحلةٍ من الدأب الدبلوماسى والتفاوضى؛ بغرض استيلاد الدولة الضائعة، وترسيم معالم الطريق إلى الحلِّ النهائى.
لم تُعوّض تل أبيب ما أُهدِر من كرامتها فى الطوفان، وغاية حماس الآن أن تعود إلى ما قبله، والثابت الوحيد أنه لا سبيلَ إلى السادس من أكتوبر على ما كان عليه، سواء فيما يخصُّ استبداد الاحتلال ووحشيّته وتغوّله على الحقوق العادلة، أو فى انفراد الحماسيِّين بغزّة، ومُقاطعة الضفّة لصالح الارتماء فى أحضان طهران وغيرها من العواصم والميليشيات. والأولويّةُ لوَقف الحرب قَطعًا؛ لكنّ أُمور الإعمار وصيغة الأمن والإدارة من الأولويات أيضًا، وتنشيط قدرات القطاع بحيث لا تنحصرُ الورشةُ المُقبلة فى بناء البيوت ورَصف الطرقات؛ إنما أن تشمل إرساءَ قاعدةٍ اقتصادية وإنتاجية قادرة على توليد الدخل، واستدامة الإنتاج والنمو، وتعزيز الآمال والطموحات لدى مجتمعٍ يائس أنهكته الحروب والأُصوليّات. مائتا يومٍ من العدوان، لكنها تتطلَّب مائتى شهرٍ من العلاج، وربما أكثر.
الاستقامةُ الأخلاقية تبدأ وتنتهى عند إدانة العدوِّ الجامح، ونزعته النازية المُغلَّفة بنصوص التوراة الحارقة؛ لكن ذلك لا يمنع من التوقُّف للفحص والتقويم، واستقراء مواقف الفصائل، وما تورّطت فيه من مُمارساتٍ سلبيّة وخياراتٍ سيّئة. وإذا كان لازمًا أن يلتئم الفلسطينيون على طاولة واحدة؛ ليتبادلوا النقد والنصح، ويفحصوا أجندتهم الوطنية، ويُعيدوا صياغتها على وجهٍ أكثر انضباطًا وجدّية؛ فإنَّ على كلِّ صاحب ضميرٍ حىٍّ أن يُدين نتنياهو وعصابته، وأن يتصدَّى لنزوات المُمانعين وتجارتهم الرخيصة بالقضية. فى مقام الإنسانية يتعيَّن أن يشتغل الجميع على إيقاف الحرب وإغاثة المكروبين، وفى مقامات الفكر والرأى والسياسة لسنا مُضطرّين لتغطية خطيئة فريقٍ بأخطاء الآخر، ولا للمُفاضلة بين السيِّئ والأسوأ. وفلسطين لا تُريد من المُحبين إلَّا أن يُوقفوا نزيفَها ويُجفِّفوا دموعَ أبنائها، وأن يُعينوها على استنقاذ نفسها والتحويط على البقيّة الباقية من بيوتها؛ قبل أن تُبتَلَع فى فوضى العبث والمُناكفات، والذين ينطلقون من عنوانٍ غير الدولة، ويسيرون فى طريقٍ سوى حقن الدماء وإعلاء الحياة فوق الموت؛ ربما يعملون لصالح العدو، أو لمصلحتهم الشخصية؛ لكنهم ليسوا من أهل القضية ولا جنودها؛ مهما ادَّعوا وأقسموا وغلّظوا الأيمان. الغزّيون وحدهم يُسدّدون الضريبةَ المفروضةَ قهرًا، ولا يتحصَّلون على جنازةٍ وديعة أو وقتٍ للبكاء، والساحات الرديفةُ تسخن وتبرُد بحسب الإملاءات وتوافقات الكواليس، ولا أبطالَ إلَّا الذين يموتون مرَّتين: أهونهما بنار العدو، والأصعب بدعايات الصديق وخُطبه الرنّانة.