الضجة الكبرى واللغط الكبير الذي أثير في الأوساط الصحفية والفنية في الأيام القليلة الماضية، بعدما حدث من تجاوزات في جنازة الفنان صلاح السعدني، ومن قبله عزاء الفنانة شيرين سيف النصر لم تواجه بالصورة المهنية المطلوبة من جميع الأطراف.
دعونا نعترف أن ما حدث في جنازة الفنان صلاح السعدني هو نتيجة مأساوية لإهمال ظاهرة جديدة في الصحافة المصرية، وهي صحافة السوشيال ميديا والمنصات الإلكترونية، التي أصبحت مصدر رزق لقطاع عريض من هواه الشهرة والاسترزاق باسم الصحافة الجديدة.
المعنيون بالظاهرة الجديدة أهملوها حتى صارت مثل كرة الثلج التي تدحرجت أمام أعين الجميع، حتى تحولت إلى جبل الجليد الضخم، أو مثل قمة جبل البركان الذي كان لابد أن ينفجر في وجه الجميع ويسيل بحممه النارية على أهل المهنة الأصليين، وأصبح الحل والمواجهة الآن عملية تستدعي جهات كثيرة وليس فقط نقابة الصحفيين أو الممثلين أو الهيئة الوطنية للإعلام.
المواجهة ومعالجة هذه الظاهرة ليست كما طالب البعض بالمنع التام، أو بالاكتفاء بمصور وصحفي واحد يمكن من خلاله إرسال المادة الصحفية المكتوبة والمصورة إلى باقي الزملاء والصحف والمواقع الإلكترونية، أو الاكتفاء بخبر ينشر عقب انتهاء مراسم التشييع والعزاء. وهذا في رأيي عبث و يكاد يعتبر "جريمة" في حق المهنة والتاريخ الذي لولاه ما قرأنا وشاهدنا جنازات لكبار الشخصيات السياسية والفنية والدينية ورموز المجتمع كانت- ومازالت- توثيق غاية في الأهمية لمواقف تاريخية وحالة سياسية، وتقييم شعبي وسياسي، وربما أيضا وبعد فترة تعتبر صور الجنازات أحد المعايير الضرورية في قراءة مرحلة زمنية وسياسية معينة في تاريخ مصر أو تاريخ أي دولة.
فتوثيق الجنازات ليست بدعة أو ظاهرة قاصرة على مصر فقط، وإنما هي حالة عالمية منذ بدايات القرن الماضي أو نهايات القرن التاسع عشر، مع اختراع آلات التصوير والكاميرات السينمائية.
فلولا التوثيق الصحفي المصور ما شاهدنا أعظم الجنازات في العالم مثل جنازة الزعيم السياسي الهندي أنا دوراي، الذي توفي يوم 3 فبراير عام 1969، بعد صراع طويل مع مرض السرطان، بعد 3 سنوات من توليه منصب رئيس وزراء ولاية تاميل نادو في جنوب الهند، وحضر الجنازة 15 مليون شخص لتسجل في موسوعة جينيس كأكبر جنازة في التاريخ. أو جنازة المهاتما غاندي أو الخوميني والأميرة ديانا والملكة اليزابيث، إلى آخر القائمة من جنازات المشاهير في العالم.
أما في مصر، عرف الناس أضخم الجنائز مثل جنازة الزعيم سعد زغلول، ونجيب الريحاني، وسجلت عدسات المصورين لحظات سياسية وفنية عظيمة في تاريخ مصر، ثم جنازة الزعيم محمد فريد والزعيم جمال عبد الناصر وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وكانت خير تعبير للقيمة السياسية والفنية لهؤلاء الكبار للأجيال المتعاقبة.
وتصف بعض المراجع جنازتي سعد زغلول ونجيب الريحاني بالجنازات المليونية التي شهدتها شوارع مصر المحروسة في النصف الأول من القرن العشرين، فجنازة سعد زغلول كانت في أغسطس عام 23 والريحاني في عام 49.
لولا هذه الجنازات ما رأينا ملايين الناس في الشوارع وما رأينا كبار الساسة والفنانين يحملون النعوش في لحظة زمنية تاريخية سجلتها عدسات الكاميرات، وكانت الصورة بمليون كلمة عكست التقدير الشعبي قبل الرسمي والاجتماعي قبل السياسي. فقد تم تصوير الجنازتين- كما ذكر الصديق الكاتب الصحفي محمد رفعت – بآلات التصوير السينمائي لأول مرة وفي الجنازة ظهرت بديع مصابني وهي تبكي رغم انفصالها عن الريحاني بسنوات وظهر في الصور يوسف وهبي وأنور وجدي وعدد آخر من الفنانين وهم يحملون النعش.
وفي جنازة عبد الناصر رأينا بالصوت والصورة والكلمة زعماء العالم والعرب وملايين المصريين وكافة فئات الشعب المصري تتلون بهم شوارع مصر المحروسة في القاهرة والصعيد وبحري.
فتوثيق الجنازات أحد المهام والوظائف الكبرى لمهنة الصحافة والاعلام عموما ولا يمكن تجاهلها أو تحجيمها من خلال مطالبة أصوات للأسف بمنع تصوير الجنازات، وتلك أصوات جاهلة لا تعي ما تقوله، وتسير ضد حركة التاريخ الصحفي.
الأمر هنا يتطلب تحركا فوريا بشكل جماعي من الجهات التشريعية ونقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للإعلام ونقابة الممثلين والموسيقيين للتنظيم، وليس المنع، بحيث يصدر تشريع واضح لمعاقبة هؤلاء والتوافق على طبيعة من يحضر الجنازات من الصحفيين والمصورين أعضاء النقابة والمصورين من الصحف والمواقع الإلكترونية المعترف بها ومراسلي الفضائيات المعروفة، وما دون ذلك من حملة الموبايلات اللاهثين وراء دولارات فيس بوك، ووضع عقوبات واضحة لتحجيم ومنع تلك الظاهرة المقيتة التي أساءت كثيرا للمهنة الأصيلة ودورها التاريخي في توثيق لحظات تاريخية من خلال الجنازات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة