أتأمل المعلم عندما يتصرف بصورة صحيحة داخل البيئة التعليمية حينما يواجهه أى موقف؛ فأرى أن سلوكه الظاهرى يترجم بوضوح ما يجول فى وجدانه بمصداقية، وهذا يجعله فى حالة نفسية جيدة، ومن ثم يتمكن من إفادة من يقدم له الخبرة سواءً أكان متعلم أم زميل، وبذلك يستوفى احتياجاته وينال حقوقه، ويبذل جهودًا محمودة فى تحقيق غايات العملية التعليمية برضًا وقبول تام، وهذا الوصف نستطيع أن نطلق عليه مسمى توكيد الذات المهنية لدى المعلم.
وعندما نطالع ماهية توكيد الذات بشكل منفرد نجد أنها تشير إلى مقدرة الإنسان على التعبير عن مشاعره وآرائه ومعتقداته واحتياجاته بشكل مباشر وصادق دون التطاول على حقوق الآخرين، وهنا نؤكد على معلومية الحقوق والواجبات التى تتأصل لديه؛ فيحرص على أن يؤدى ما عليه مقابل تأكده من الاستجابة الصحيحة التى يمارسها الآخرون.
وهنا تبدو العلاقة واضحة بين أصل المفهوم وما ينسدل منه؛ حيث إن المعلم فى أشد الحاجة لبعدين لا ينفكان عن بعضهما البعض، وهما البعد المهنى والأكاديمي؛ كى يحقق نجاحًا فى رسالته السامية، ومن ثم ينعكس ذلك بوضوح وبشكل إيجابى على توكيد الذات المهنية لديه؛ فيخرج أفضل ما لديه من أداءات تدريسية، بل ونجد أن معدلات الابتكار تزداد يومًا بعد يوم؛ ففى كل موقف تعليمى وبعد مناقشات يتمخض عنها تعبيرات وانفعالات متبادلة بين طرفا العملية التعليمية وآراء قد تبدو متجددة تعلو ما كان متوقعًا؛ فإن سقف الطموحات فى البيئة التعليمية سوف يرتفع بصورة متدرجة لدى الجميع.
وفى هذا الإطار نشاهد صورة مختلفة لإدارة المشهد التعليمى يجعل من يقوم بعملية الرصد والملاحظة فى حالة من الانبهار؛ فقد يرى إدارة للعملية التعليمية بكل مفرداتها؛ فلا يستطيع أن يوسمها إلا بالرقى فى مكونها؛ فهناك كفاءة من المعلم يقابل حرية مدعومة بعناصر الأمان ممنوحة للمتعلم، تُسهم فى استثمار طاقاته حيال مهام متتابعة يؤديها بمتعة وتواصل سواءً أكانت فردية أم تشاركية، وهو ما يحقق ماهية التوافق والتكيف النفسى المشترك، ويؤصل معنى العلاقة الاجتماعية التى تقوم على الاعتماد الإيجابى وفيها يتم تحمل مسئولية تجاه تحقيق الهدف المعلن.
وتتعدد ملامح ومؤشرات توكيد الذات لدى الفرد؛ فنجده يمارس سلوكيات محمودة، ويؤدى بتفاعل وإيجابية ما يكلف به من مهام، ويراعى ضميره فيما يقوم به من أعمال، ويمتلك قدرة على مقاومة كافة الضغوط بكل أنماطها؛ لذا تنطلق تصرفاته فى ضوء معايير ومبادئ صحيحة يؤمن بها تجعله يتخذ من القرارات ما يتناسب مع طبيعة كل موقف، وهذا يؤكد مقدرته الفاعلة فى التفاوض واقتناص الحقوق، ولا ينفك هذا كله عن تواصله الفعال مع الآخرين بما يسمح بتكوين علاقات اجتماعية تتسم بالاستدامة وتوصف بأنها ناجحة، يضاف لما تقدم شعوره الطيب تجاه الآخرين ونحو ذاته؛ فيستطيع أن يعبر عن مشاعر المحبة والود والإعجاب لديه من خلال التعاملات مع الآخرين وفى الوقت المناسب.
وفى سياق متصل تسهم توكيد الذات المهنية فى تنمية شعور المعلم بقدره ومقداره ومكانته وثقته بنفسه فى إدارة موقف التعلم؛ فيمكنه أن يتغلب على ما يواجه من مشكلات أو صعوبات أو تحديات ترتبط ببيئة التعلم، ومن ثم يبتكر العديد من الأساليب والطرائق والاستراتيجيات التى تساعده فى تحقيق ما يصبوا إليه، ومما لا شك فيه أن هذا المعلم الذى يعتمد على ذاته وقدراته لديه مقدرة على تحمل مزيد من الأعباء؛ فيعمل على تحويل التحديات إلى فرص، وبالتالى يتأكد لدينا بأن معدل القلق والتوتر والإحباط منخفض لديه بسبب ارتفاع توكيد الذات المهنية.
وبالضرورة عندما يمتلك المعلم توكيدًا للذات المهنية؛ فإنه يكون حريصًا على أن تنمو ماهية توكيد الذات المهنية لدى الطالب؛ فينمى بصورة مقصودة مقدرته فى التعبير عن آرائه سواء كانت متفقة أو مختلفة مع الآخرين، ويحفزه لأن يفصح على جنبات مشاعره ليعضد الإيجابية منها ويدحر السلبية منها سواءً أكانت كامنة فى غضب أو فكرة غير صحيحة، وبهذا لا يترك المجال أمام هذا الطالب ليصبح مترددًا أو متخاذلًا فى أن يتخذ قرارًا أو أن يخشى المشاركة والإقدام؛ إذ يحثه على المبادأة ويعلى لديه رغبة الانغماس فى العلاقات الاجتماعية بصورة إيجابية متحليًا بإطار القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية.
وفى خضم بيئة تعليمية حاضنة للمتعلم محفزة ودافعة لمزيد من الرغبة فى الحصول على خبرات متجددة، وتلك تشكل الرغبة الذاتية لديه ليمارس النشاط البحث ويتطلع للكشف والتعرف عن كل ما يتصف بالجدة، وتنمو لديه مقومات الفضول العقلى الناتج عن تفكير عميق حيال ما يتعرض له من متغيرات وقضايا بمحتوى التعلم، وهذا نطلق عليه فى التربية حب الاستطلاع العلمى لدى المتعلمين.
ونقر بأن من لديه توكيدًا للذات المهنية من المعلمين أصحاب الرسالة السامية؛ فإنهم يعملون بقوة على دعم وتعزيز كافة مظاهر الدافعية المعرفية لدى متعلميهم؛ إذ يدركون مدى رغبتهم وشغفهم نحو مزيد من المعرفة المتجددة وحرصهم على عمق فهمها؛ فنجدهم يبادرون بطرح التساؤلات تلو التساؤلات ليحصلوا على مزيد من المعلومات بما يلبى احتياجاتهم العلمية، ولا ننكر بأن هذا ضربًا رئيسًا لحب الاستطلاع العلمي.
ونود الإشارة إلى أن العلاقة بين توكيد الذات المهنية وحب الاستطلاع العلمى قائمة على تنمية مهارات التفكير العليا لدى طرفا المعادلة التعليمية؛ حيث تجعل المعلم يتبنى الاستراتيجيات التدريسية التى من شأنها تجعل المتعلم منخرطًا فى العملية التعليمية وأنشطتها بدأب؛ ليمارس عادات العقل والتى منها حب الاستطلاع.
وفى ضوء ما أوضحناه نؤكد على أن تنمية حب الاستطلاع لدى أبنائنا المتعلمين مرهون بمعلمين لديهم توكيدًا للذات المهنية، يضعون من السيناريوهات فى تنميطاتها التخطيطية والتنفيذية والتقويمية ما يساعد على الاستجابة الايجابية لتقوى الرغبة والإرادة تجاه معرفة المزيد، ويتعالى الشعور بالفضول العلمى وتكثر الأسئلة وتظهر المثابرة فى استكشاف كل ما هو جديد، ويبدو الاهتمام بفحص المحيط فى سبيل الحصول على خبرات جديدة وتعلو الحساسية للمشكلات ويبرز الانهماك فى مهام الأنشطة والاستمتاع بها، وتتضح قوة الملاحظة والحماسة المستمرة والتى تترجمها المبادأة والمعالجة اليدوية، وحب المغامرة، والجنوح نحو الميل للخيال وللتأكد من الأشياء لاستكشاف الأشياء الغريبة والغامضة والمعقدة أو المتناقضة ومن ثم نلاحظ الجرأة فى القيام بالأعمال المعقدة والرغبة فى تحدى المخاطر.
حفظ الله وطننا الغالى وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.