خلال زيارته إلى لبنان سنة 2000، ذهب المفكر الراحل الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد، أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا الأمريكية، إلى الحدود في الجنوب، وقذف بحجر تجاه فلسطين.
اعتبر اللوبي الصهيوني أن ما صدر منه معاداة للسامية، وأشعل المظاهرات ضد إدوارد في أوساط طلابه.
لكن رئيس جامعة كولومبيا آنذاك، أدار نقاشا مع الطلاب المتشبعين بالرواية الإسرائيلية، ومما قال لهم وقتها: "إن إدوارد سعيد هو الذي جعل لجامعة كولومبيا قيمة عالمية، وعندما تتخرجون، ستفخرون بأنكم درستم في جامعة إدوارد سعيد".
وبعد 24 عاما من هذه الأحداث، تندلع حركة الطلاب في الجامعات الأمريكية، وفي مقدمتها جامعة إدوارد سعيد "كولومبيا"، ولكن رئيس الجامعة هذه المرة منحاز لإسرائيل، وللأسف اسمها "نعمت شفيق"، لم تتحاور مع الطلاب لتقنعهم كما فعل رئيس الجامعة أبان أزمة إدوارد، وإنما طلبت قوة البوليس للطلاب، لتدخل معركة ينتصر فيها الطلاب عليها وعلى منطق القوة الذي لجأت إليه.
لكن لماذا لم تلجأ نعمت شفيق إلى الحوار والنقاش كما فعل رئيس الجامعة الأسبق؟
في تقديري أن تصرف رئيسي الجامعة ينبع من تقدير صحيح لموقف الطلاب، فالاثنان عرفا أن حركة الطلاب، سواء ضد إدوارد في عام 2000، أو ضد انتهاكات إسرائيل عام 2024، نابعة من فكرة عميقة، اختار رئيس الجامعة الأسبق أن يتفاعل مع الفكرة، لأنه يعلم أنه يستطيع لفت نظر الطلاب إلى الرواية الفلسطينية البديلة، بينما استخدمت نعمت شفيق القوة، لأنها عرفت أن كذب الرواية الصهيونية قد انكشف، ولا مجال للنقاش، أو بالأحرى للكذب.
إدوارد سعيد الذي حمل الجنسية الأمريكية، لم يذب في الثقافة الأميركية، وإنما تحداها، وقد واجه سعيد المجال الأكاديمي في أمريكا بأفكاره، التي أكد فيها، أن الغرب لا يحتل الأماكن فقط، وإنما يحتل العقول والثقافة والفن والفكر أيضا، وأن التخلص من الاحتلال لا يكتمل إلا بالتخلص من احتلال العقول، وأن المعرفة قوة تصنع احتلالا أدواته الأفكار، وأنه لمواجهة هذا الاحتلال، يجب أن يكون هناك معرفة بديلة تضحد المعرفة التي يغذينا بها المحتل.
ويتقاطع فكر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، مع رأي إدوارد سعيد، عندما يقارن طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى"، ص 30، بين الرومان والعرب، فيقول: إن تطور الشعب الروماني من البداوة إلى التحضر، كان تطورا ماديا، نشأ من تطور الحضارة المادية قليلا قليلا، ثم تطورت العقول والضمائر، بينما كان تطور الشعب العربي معنويا، نشأ من تغير النفوس العربية بتأثير الإسلام، فكان تطورا من الداخل إلى الخارج".
إن التقدير الكبير للفكر في رؤية طه حسين عن تطور العرب الذي يبدأ من الداخل، تحول على يد إدوارد سعيد إلى نظرية كاملة، حول خطورة احتلال العقول وفي القلب منها عقول العرب، ليفتح الباب واسعا للأسئلة عن كيفية تحرر تلك العقول.
وبالعودة إلى أحفاد إدوارد سعيد في جامعة "كولومبيا"، نجد أن هؤلاء يمدون حبل هذا الفكر التحرري، برفض الرواية الإسرائيلية التي تربوا عليها، وليصنعوا حراكا مع بقية الجامعات الأمريكية والأوروبية، هذا الحراك هو جزء من الحركة الشعبية العالمية ضد انتهاكات إسرائيل في غزة، هذه الحركة لا تخبو في مكان، إلا لتشتعل في مكان آخر، فهي مستمرة مادام العدوان على غزة مستمرا، وقد تتطور الحركة، أقول "قد"، لتشمل موضوعات أخرى غير غزة، وروايات أخرى كاذبة تربى الطلاب عليها، لتبدأ كشف حساب مرير للأنظمة الغربية برمتها.
لكن كل هذا ما كان ليحدث لولا "طوفان الأقصى"، الذي تحول إلى "طوفان عالمي" إذا صح التعبير.
وليس بعسير أن تدرك أن صانعي "طوفان الأقصى" قد انطلقوا من نفس منهج إدوارد سعيد -حتى إن لم يكونوا قد قرأوا كتبه- وذلك برفض صورة الفلسطيني في عيون الإسرائيليين، فهي صورة شعب منهار مهزوم فقير، فكسر الطوفان هذه الصورة، وصنع المعجزة، "وتطور وما زال يتطور من الداخل إلى الخارج، رغم عدم تكون الأسباب المادية بمصطلحات طه حسين". إنه التطور الذي يعتمد على الفكر والابتكار بشكل أساسي، بسبب افتقاره للأسباب المادية.
وبالنسبة لكاتب هذه السطور، كلما كانت ترد الأخبار يوم 7 أكتوبر 2023 بتفاصيل طوفان الأقصى، كان يزيد شعوري بأننا أمام عمل سحري يصعب فك ألغازه، وقد طرحت العملية عددا من الأسئلة المتعلقة بالأسباب المادية، مثل: من أين جاءت المقاومة بالسلاح في ظل حصار قطاع غزة من قبل إسرائيل منذ 18 سنة؟ وما هي الأداة التي استخدمتها لخداع أحدث النظم التكنولوجية في العالم؟ وغيرها من الأسئلة الفرعية.
لقد حققت المقاومة نصرا تاريخيا في ساعات معدودة، على العالم الغربي كله، فشل في محوه أو التقليل منه حتى الآن.
إنها حقا معجزة عسكرية بكل المقاييس، شهد لها الإعلام الإسرائيلي والغربي، الذي عبر عن صدمته الشديدة في القوة الإسرائيلية الغربية، وإحباطه تجاه كل مخططاتها، وباختصار كانت فضيحة كشفت هشاشة مبدأ القوة الذي تعتمد عليه إسرائيل ومن ورائها أمريكا والغرب، وميلاد منهج جديد يعتمد بالأساس على الفكر الذي يحسن استخدام فتات القوة المادية، لدرجة أن يستطيع هزيمة القوة المادية ومنابعها في عقر دارها.
لقد غيرت عملية طوفان الأقصى، وما زالت تغير، مسارات سياسات منطقة الشرق الأوسط، والعالم برمته، ما يجعلنا نرى، أن صناعة هذا الطوفان، استلزم وفقا لمقاييس فنون الحرب، ليس فقط مهارة عالية، تصل إلى حد الإعجاز، وإنما أيضا فكرا سياسيا وعسكريا، لا غنى عن فهمه، لكل من يهتم بمواجهة الغطرسة الغربية الصهيونية، وعربدتها في عالم اليوم.
لكن ما هو الفكر السياسي والعسكري الذي انطلقت منه المقاومة؟ هذا ما نخصص له مقالا آخر وربما أكثر من مقال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة