حري بالذكر أن التربية تتأثر بشتى التغيرات التي تطرأ في مجالاتها المتباينة؛ فهناك علم يضاف إلى مكنونه كل لحظة من اكتشافات ومعارف ونظريات، وهناك ابتكارات تضاف لإطارات عملية ومعملية وحياتية، وهذا ما يجعل حاضر ومستقبل التعليم وفق خططه المرسومة في حالة من التأهب كي يستوعب في طيات خبراته ما يستجد على الساحة آنفة الذكر، ومن ثم ينبغي أن تتوافر مسارات للتنمية المهنية المستدامة للمعلم بصورة وظيفية؛ فيمتلك من خلالها الآليات والطرائق والاستراتيجيات والخبرات المهنية بالإضافة للثراء المعرفي والأدائي في تخصصه النوعي.
وفي ضوء الزخم المعرفي الذي يتدفق من المصادر المعلوماتية المتعددة والموثوقة؛ ونظرًا لكثرة وتنوع الخبرات في مجال التنمية المهنية للمعلم؛ فنجد هناك تحديًا يتمثل في أن جميع عناصر العملية التعليمية في تطور مستمر، وهذا ما يستوجب ملاحقة المعلم لهذا التطور؛ بأن ينمي مهاراته التدريسية، ومهارات توظيف التقنيات الرقمية وتطبيقاتها الفعالة، ومهارات استخدام المعينات التدريسية التي تتوافر في بيئته التعليمية، ويطالع ما يستجد من أنشطة تعليمية تتضمنها محتويات المقررات التعليمية المطورة، ويدرك جيدًا طبيعة وخصائص العينة المستهدفة من متعلميه؛ كي يراعي ما يقدمه لهم من خبرات بطرائق مبتكرة ويستثمر ما لديهم من طاقاتهم من خلال أدوار فعالة مخطط لها سلفًا، ويكتسب الخبرات الإدارية والقيادية التي تمكنه من حرفية إدارة المنظومة التعليمية، ناهيك عن تمكنه من مهارات إدارة الوقت والصف، وامتلاكه للمهارات الاجتماعية والتواصلية المتنوعة لديه.
ولنعي تمامًا بأن توافر برامج تنمية مهنية فاعلة ومعدة إعدادًا احترافيًا، يعد أمرًا غير كافٍ لإحداث تنمية مهنية مستدامة لدى معلم القرن الحادي والعشرين؛ حيث ينقص ضمانة الاستفادة منها أمور يجب ألا نغفلها، ومن أهمها الرغبة الأكيدة لديه في بلوغ مستويات متقدمة من الخبرة التي تساعده في أن يحقق الغايات التعليمية بتنوعاتها، وإدراكه ضرورة العمل على تنمية الذات من خلال مسببات المطالعة المستمرة والسعي لاكتساب المهارات الوظيفية التي يتم الإعلان عنها في عبر ساحة مجتمعات التنمية المهنية، ونؤكد على الأهمية البالغة للمتابعة الميدانية من قبل القائمين على أمر استدامة هذه التنمية.
ويتوجب أن يدرك المعلم ضرورة التقييم والتقويم في أثناء عملية التنمية المهنية؛ فما ينشده المعلم هو الوصول إلى مرحلة الاتقان في المهارات المستجدة؛ بالإضافة لحيازته على مهارات التدريس الاحترافي والتي تبدو في مقدرته على خلق مناخ تعليمي فعال، يجعل المتعلم محبًا لما يقوم به من أدوار من خلال مهام الأنشطة التعليمية التي يصيغها المعلم مسبقًا في مرحلة التخطيط، وبما يمكنه من استثمار طاقات المتعلمين وحفز أذهانهم ليصلوا إلى مستويات الابتكار، ويحثهم على بذل مزيد من الجهود في الحصول على عمق المعرفة وتطبيقاتها الوظيفية في الحياة.
وأود أن أكون دقيقًا وواضحًا في حديثي؛ فعملية التقييم الذاتي وآليات التقويم الأخرى الخاصة بالمعلم يجب أن تكون منضبطة؛ حيث تتوافر الأدوات المقننة التي نحكم من خلالها على مستوى تمكنه من مهارة بعينها، وهنا نشير إلى ما يخص هذه المهارة من معارف وممارسة عملية، وهذا لا يقلل من أهمية تكرار المحاولة، وقبول النقد الإيجابي الذي يظهر نقاط الضعف لنعالجها ونقاط القوة لندعمها، وتلكما الثقافة تؤدي حتمًا إلى التحسين والتطوير، وتقضي على شكلية التنمية المهنية والتي تتمثل في الحضور فقط.
وفي هذا الإطار يصبح لزامًا تبني معايير لكفايات التنمية المهنية؛ لنضمن الارتقاء بالمستوى التدريسي المكتمل الأركان، وهذا يتوقف على قناعة المعلم بأهمية العملية؛ فيجب أن تكون لديه أفكار ومعتقدات وقيم إيجابية نحو فلسفة التنمية المهنية، كما ينبغي أن يتقبل كافة صور التقويم وخضوعه للملاحظة المقننة، وتبنيه فكرة الملاحظة الذاتية، ومن ثم يتقبل خصائص مهنته، والتي تتبلور في المقدرة على مسايرة الجماعات المهنية التي تسعى للتطوير والتحسين بصورة تتسم بالمرونة والإيجابية، وهذا ينقل المعلم من مرحلة التنظير لمرحلة التطبيق التي تتمثل في الأداء؛ فيتبادل الخبرات مع الزملاء ويتقبل النقد ويفسر المواقف بما يتسق مع صحيح نظريات التنمية المهنية، وبذلك نستطيع أن نوسع من مهام المعلم؛ فيشارك بقوة في تطوير المناهج التعليمية، ويحدد الاحتياجات المهنية وفق أولوياتها، بل ويصل الأمر لشراكته في تخطيط برامج وأنشطة التنمية المهنية خاصته.
وليدرك معلمنا الراقٍ أن عملية التدريس معقدة، والتنمية المهنية أكثر تعقيدًا؛ حيث إن أدواره في تزايد، وطبيعة المهام أضحت تقوم على فلسفة الابتكار، ومن ثم فالمناخ التعليمي الداعم لتنمية مهارات التفكير العليا لدى المتعلم يجب أن توضع له سيناريوهات مرنة تحقق الغاية المنشودة منها في مستوياتها المتعارف عليها، والتي تبدأ بالتخطيط ثم التنفيذ يشملهما التقويم، ويرتبط بهم آليات المتابعة التي تؤكد لنا التمكن الخبراتي لدى المتعلم متضمنة لعمق المعارف وسلامة الممارسة وصدق ونقاء الاستجابة؛ فيما يسمى بالوجدان الصافي.
إن استدامة التنمية المهنية للمعلم من وجهة نظر خاصة ينبغي ألا تتجاهل دور بحوث الفعل التي قوم بها المعلم؛ حيث تحثه على المطالعة والقراءة التحليلية، ومن ثم تنمو لديه المقدرة على الصياغة المنهجية التي تنعكس بشكل إيجابي على أدائه في تصميم الأنشطة التعليمية النوعية وما يرتبط بها من مهام، وفي غمار هذه النوعية من البحوث تتحرر العقول تجاه جديد الخبرات في الميدان على المستويين المحلي والدولي، وفيها تنمو العلاقات تجاه تبادل الخبرات مع أصحاب التميز المهني، كما تزداد مناشط وطرائق البحث الرقمي الموثوقة وما يتاح من المصادر الورقية المعتمدة؛ ففي نهاية المطاف نستطيع أن نعمل على خلق الشخصية المهنية صاحبة الفكر والريادة في تخصصها النوعي.
وقناعتي بضرورة استدامة التنمية المهنية للمعلم تتأتى من مساهمتها الفاعلة في تنمية الميول المهنية بصورة وظيفية لدى هذا المعلم صاحب المهام الجسام؛ حيث تعمل على توجيه اهتمامه نحو الممارسات التي تساعده على اتقان المهارات التي تتمحور حول الخبرة المرادة، بما يؤدي بالضرورة لإشباع احتياجاته النفسية والمهنية على السواء، وبما يسهم في تجويد الأداء الذي ينعكس بصورة مباشرة على الموهبة التدريسية.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.