ربما ارتبطت الدبلوماسية المصرية، خاصة في النطاق الإقليمي على مفهوم القيادة، والتي تقوم على إدارة المواقف الإقليمية، وفرض رؤية بعينها على مختلف القضايا المرتبطة بالمنطقة، معتمدة في ذلك على ما تملكه من أدوات، ربما أبرزها الجغرافيا والتاريخ، بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع محيطها الدولي، ناهيك عن كونها "عمود" السلام في المنطقة، بفضل معاهدة السلام التي أبرمتها مع إسرائيل في السبعينات من القرن الماضي، والتي وضعت حدا لحالة الصراع الدائم، من خلال خلق مساحة للتفاوض، ربما أثمرت عن بعض النتائج، منها الوصول إلى صيغة حل الدولتين، والتي حظت بالشرعية الدولية، وهو ما يمثل مكسبا لا يمكن تجاهله، على اعتبار أنه يقدم اعترافا ضمنيا بأحقية الفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة.
ولكن بالرغم مما تحقق على الصعيد الفلسطيني، نجد أن ثمة حقائق لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، أبرزها أن الاعتراف بالحق الفلسطيني لم ينجم عنه سوى مجرد خطابات، وشعارات، تبنتها القوى الدولية الحاكمة للعالم، دون تغيير جذري، من شأنه ترجمته إلى كيان حقيقي، بينما انتقلت دائرة الصراع داخل الإقليم، إلى مناطق أخرى، ربما بدأت مع الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، ثم الغزو العراقي للكويت مع بداية التسعينات، وما نجم عنها من حرب للتحرير، ثم الغزو الأمريكي للعراق، في أول سنوات الألفية الثالثة، ليشتعل الصراع الإقليمي في العديد من الجبهات، ويصل إلى ذروته مع اندلاع الحروب الأهلية، في العديد من دول المنطقة، والتي تجلت في أبهى صورها خلال الربيع العربي، والذي كاد أن يطيح بالمنطقة.
ولعل فشل مخطط الربيع العربي، في تحقيق هدفه، وإن كانت تداعياته مازالت قائمة، ساهم بصورة كبيرة في عودة الصراع مجددا بأشد صوره في المنطقة المركزية بالإقليم، وهي الأراضي الفلسطينية، وهو ما تجلى في العدوان الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة، والذي يبدو مختلفا تماما عن كافة الاعتداءات السابقة، في ضوء أنه بات متجاوزا لكل الخطوط الحمراء، ليس فقط فيما يتعلق بحجم الانتهاكات غير المسبوقة، وإنما أيضا فيما تخلله من محاولات لتصفية القضية الفلسطينية، عبر دعوات تهدف إلى تجريد الدولة المنشودة من شعبها تارة وأرضها تارة أخرى، بالإضافة إلى التهديد المتواتر باقتحام مدينة رفح الفلسطينية، وما يمثله ذلك من تهديد صريح لمعاهدة السلام، التي كما أسلفنا قد وضعت حدا للصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما يعني العودة إلى المربع الأول في الحالة الإقليمية الصراعية، والتي تعود إلى ما قبل منتصف القرن الماضي.
وهنا كانت الحاجة الملحة للدبلوماسية المصرية، أن تغير نهجها، عبر التحول مما يمكننا تسميته بـ"القيادة الخشنة" للإقليم، من خلال الرؤية القائمة على فكرة "الدولة القائد"، نحو نهج يعتمد على الشراكة، يمكن من خلالها تعزيز الجبهة الإقليمية، عبر العديد من الخطوات المتواترة، ربما أبرزها المساهمة بصورة كبيرة في تحقيق حزمة من المصالحات، بين القوى المتنافسة في الإقليم، ثم تعزيز البعد العروبي، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، باعتبارها مركز القضايا في المنطقة، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، التي برزت منذ بداية العدوان على غزة، والتي اعتمدت فيها القاهرة منهج الثنائيات العربية، لتعزيز المواقف الموحدة في مواجهة الاحتلال، وانتهاكاته المشينة ودعواته المشبوهة.
ربما ارتبطت باكورة "الثنائيات"، المرتبطة بالعدوان على غزة، في دبلوماسية القمم، والتي تبنتها مصر والمملكة العربية السعودية، من خلال قمة "القاهرة للسلام"، والتي تمكنت من تحقيق توافق دولي حول ثوابت القضية الفلسطينية، ثم قمة الرياض والتي نجحت في تحقيق إجماع إقليمي حول الثوابت نفسها، مما أضفى قدرا كبيرا من الشرعية الدولية للمواقف العربية من الأزمة، لتساهم إلى حد كبير في مجابهة الحملة التي دشنتها إسرائيل، لتبرير جرائمها، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، ليتغير الخطاب الذي يتبناه المعسكر الموالي للدولة العبرية، نحو الحديث عن مسؤولية إسرائيل عما آلت إليه الأمور في طوفان الأقصى، وضرورة اتخاذ خطوات جادة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما يمثل إنجازا يفوق ما تحقق خلال الهدوء المرحلي الذي لم يراوح هذا الطرح كونه حبر على ورق، منذ الحديث عن حل الدولتين.
ثنائية مصر والأردن، هي أحد الثنائيات الهامة، والتي ربما تتجاوز مجرد الحديث عن مرحلة العدوان على غزة، باعتبارهما نقطة الانطلاق للعديد من الشراكات الإقليمية الأخرى خلال السنوات الأخيرة، ولكن يبقى دورهما تجاه فلسطين، محوريا، في ضوء تقاسمهما لر…
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة