يصعب أن يشكك أحد على وجه البسيطة في دور الجانب الوجداني على السلوك البشري؛ فمن خلاله يميل ويهوى ويعشق ويحب، ومن خلاله أيضًا يناله الدافع ويصبح على جاهزية لأن يعمل ويطالع ويكتسب الخبرات بتلوناتها، وعبره يدافع عما يعتقد ويدين ويوالي، وبواسطته يزود عن مقدراته وعرضه وشرفه، وله يثأر، وفي سبيله يقدم ولا يعرض ولو كلفه ذلك إزهاق الروح وفناء الجسد.
وتترجم العاطفة انفعالات الإنسان؛ فيبدو السرور ملمًا به إذا ما توافرت عوامله ومقوماته وأسبابه، ويرى الألم والتعاسة واضحة على ملامحه إذا ما تجمعت نوازعها ومسبباتها، وفي كلا الحالتين تظهر بوادر المعنوية التي توجه السلوك في صورته الصحيحة أو في مساره غير المرغوب فيه؛ فنرى حمية العمل والتضحية بأشكالها المختلفة، والانحياز المبرر تجاه قضايا بعينها، وسعادة وانبساط تترجمها أفعال وممارسات إيجابية، وقد نلاحظ تراجعًا وانتكاسة وسلبية وتخاذلًا وشعورًا بإحباط وتقوقع حول الذات، بل يصل الأمر لتمني الهلكة؛ إذا ما تغلب الجانب السلبي على الفرد.
وعندما يؤكد لنا من يقول إن المكون العاطفي مرهون بمعرفة تهيئ الإنسان لاكتساب مقوماته وتساهم في تنميته بصورة متكاملة؛ فإننا لا نستطيع أن ننكر هذا التوجه؛ فالشخص يتفاعل مع مفردات الطبيعة والبيئة المحيطة به ويصدر عنه استجابات يقوم غالبيتها على ما لديه من معارف ومعلومات عن تفصيلاتها؛ فما أحوج الفرد لأن يكتسب خبراته من تجارب ومواقف يخوضها بنفسه؛ لتحدث أثرها الفعال والمستدام في وجدانه وكيانه.
ولا ننكر على من يتحدث عن مكون العاطفة بأنه قائم على الفطرة؛ حيث إن الرؤية تستند على ماهية الاستعداد والدافع الفطري لدى الإنسان؛ فهناك تسليم وفق هذا التوجه أن فطرة الحب والكره مخلوقة في النفس، وتوجيهها يتأثر بطبيعة العوامل التي تتمخض عن بيئة واجتماعيات الفرد، ورغم التباين في وجهات النظر التي نتجت عن تبني فلسفات بعينها؛ إلا أن هناك إجماع عن وجود الحب والكره وبينهما الحياد.
وما نود أن نشير إليه ضرورة الاهتمام بأخذ مسببات تنمية العاطفة التي تشكل لمجتمعنا جُل قيمه الرافعة من شأنه، وتُعد بمثابة المثل العليا، ومنها حب العدل والخير والسلام والجمال والإعمار في مقابل كره الظلم وبغض الرذيلة والعدوان غير المبرر، ولندرك أن الحب أحد مكونات وأبعاد العاطفة يقع تحت معان ومسميات يأتي في مقدمتها إيثار الفرد غيره؛ فيقدم الخير دون مقابل للآخرين، وهناك المودة التي تعني ماهية الحب، وبهذا يصير إيقاع المنفعة ترجمة حقيقية لماهية الحب الشامل بما يحمله من مكنون نقي وطاهر.
ويقيننا راسخ بأن الحب موطنه القلب؛ فيؤثر بسحره على الأفهام، ويسيطر بخياله على العقول، ويوجه بقوته على مداخل ومخارج ومترجمات الإحساس؛ فقد نراه في العيون، ويفصح عنه تصرفات الأطراف وممارساتها النافعة، وتبرهن عنه لغة الكلام الطيب العذب، ونرصده في مشاعر القرب والدفء، ونستخلصه من ميل وإنجذاب لأشخاص ومقدرات مادية طبيعية كانت أم من بديع صنع الإنسان، ونتلمسه في شراكة ومشاركة وتعاون بين الأخوة والمحبين والأحباب والأصدقاء والزملاء في مناخ العمل وخارج حدوده.
إن العمل على استدامة نضج العاطفة أمرٌ نحن في أشد الاحتياج إليه؛ فحب الأسرة بكامل مكونها يسهم في تعزيز ترابطها وبقائها في حالة من التماسك والتضافر والاستمرارية في العطاء وإيثار كل فرد فيها تجاه الباقيين؛ فتصبح اللبنة قوية والبنيان متين يصعب هدمه أو النيل منه، وحب الوطن من موجبات البقاء وسبيلًا من سبل طلب العزة والكرامة؛ فبدونه نفقد هويتنا وذواتنا ولا يصير للأمن والأمان على الأنفس والمقدرات مسلكٌ؛ فمن يفرط في موطنه يهون عليه كل شيء مهما بلغ، ويفعل كل خسيس مهما حقق من استفادة زائلة.
وفيض تنوعات العاطفة وتلون صور الحب يحقق لبني البشر كمال الرضا، ومن ثم تتكيف النفس وتتوافق مع مفردات الطبيعة وتنسجم مع مكنونها؛ فيستطيع الإنسان أن يؤثر فيها إيجابًا؛ فيخلق لنفسه ما يجعله مستمتعًا بمقدراتها؛ فيحب عمله ويستثمر طاقته بصورة نافعة؛ لأنه أخذ على عاتقه أن يدخل الفرح والسرور لنفسه والأخرين؛ فلا تنقطع آماله وطموحاته وتطلعاته؛ فيبدو الجسد والروح في حالة من الاندماج والتوالف والتآلف بما يحث الفرد دومًا على أن يكثر من الغرس بغية جني الثمار عاجلًا أم آجلًا.
وخلاصة القول أننا إذا رغبنا في الحفاظ على أجيال صحية متماسكة مترابطة تمتلك الشجاعة والمقدرة على العطاء، لديها رؤية طموحة لمستقبل مشرق؛ فثمت ضرورة تجاه اهتمام بالغ في مساعدتهم بصورة مقصودة وبناءة للعمل على نضج عواطفهم؛ فمن يمتلك الانفعالات التي يغمرها الحب، يضمن الاتزان في تصرفاته وأفعاله، ويقدم الخير لمن حوله، ودون مبالغة يُعد هذا الأمر مقومًا رئيسًا في حفاظنا على بقاء الجنس البشري الذي خلق ليحب ويهوى ويعشق ويندفع تجاه الإعمار والتنمية، ويقاوم كل صور الفساد والإفساد؛ فتلك سنة الله في خلقه وأرضه.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.