يُعد الأزهر جامعًا وجامعةً مقصدًا وقبلةً لمريدي العلم وراغبي اكتساب منهج الوسطية والاعتدال من سائر دول العالم كله؛ حيث يمتلك مقوماتٍ يصعب بمكانٍ أن تتوافر في مؤسسةٍ تعليميةٍ وخدميةٍ في ذات الوقت، ومن ذلك ما يتبناه من برامجٍ تُسهم في تنمية الوعي الصحيح الذي يقي الفرد من ضلالة الفكر المنحرف أو المتطرف، فغرس قيم السماحة والسلام والتعايش السلمي من أولوياته التي يصقلها ويعمل على نشرها من خلال مؤهلين وأصحاب خبراتٍ وفكرٍ رشيدٍ.
ونرصد تموجاتٍ فكريةً غير سويةٍ سادت العالم وفضائه المفتوح، وما تمخض عن ذلك من قضايا أضحت مسار جدلٍ ما بين مؤيدٍ ومعارضٍ ومحايدٍ؛ فأصبحت الأحكام متباينةً نظرًا لتذبذب المبادئ وتغيرها وفق معيارية المصلحة والمنفعة التي يرتئيها أصحابها، مما أدي لتباعدٍ في الرؤى ووجهات النظر، وصارت الخلافات _ لا التباينات _ هي الأصل، بما أدى إلى حد الصراع الفكري والذي بدوره تحول لنزاع وصل في أغلبه لحالات هدرٍ وسفك الدماء بغير وجه حقٍ؛ فتوطدت الكراهية في صورتها المقيتة بين بعض المجتمعات والشعوب.
وفي المقابل نرى أن الأزهر حافظ على سمته المتفردة والتي تكمن في تمسك مؤسساته بالأصول والثوابت، كيف لا ورجاله ومنتسبوه يعشقون آل بيت النبوة ويذكرونهم بطيب الأثر؛ فنجد أن الأمن النفسي يسود بين جدرانه الزكية ويحل في سطور مناهجه النقية ويفوح من عطر كلمات علمائه التقية؛ فما لبس أصحاب الفكر المتشدد أن يجدوا لأنفسهم مكانةً في هذا الصرح عظيم المكانة والقدر والمقدار على مر التاريخ.
إن الفكر الأزهري الرشيد في ظل من يعمل بقصدٍ على تأجيج لهيب الفتن في أمورٍ حياتيةٍ أو عقائديةٍ، يؤكد للعالم بأسره أنه سيظل منارةَ للعلم والوسطية بصورةٍ مستدامةٍ؛ فعندما يدلو الأزهر بدلوه في أي قضايا تمس سلوكيات البشر في جوانبها الفكرية، أو العقدية، أو الاجتماعية، أو الأخلاقية، أو السياسية، أو الاقتصادية؛ فلن يزايد عليه كائنٌ من كان؛ فحينما يتحدث علماؤه يصمت الجميع؛ ففي حديثهم المتوازن إزالةٌ للبس ودحرٌ للشبهات وتدميرٌ لمخططات المغرضين والمندسين وأصحاب الأجندات المقيتة.
ومنارة الأزهر ملهمةٌ للجميع عندما توجه للاختيار تحث على أيسره بما يسهم في بث الإيجابية والتفاؤل والأمل في قلوب وصدور البشر؛ فلا تحمل الإنسان مالا يطيقه، وتقوي مناعته ضد كل شوائب الفكر والضلال؛ فلا ينزلق بحالٍ عن مهد الوسطية، ولا يقع فريسةً لأصحاب الهوى الدنيوي والديني على السواء؛ فتلك المنارة المتقدة تحافظ على بنيان المجتمع المصري وتقوي من أواصر المحبة وتؤكد على السلوك القويم الذي يقوم على التكافل والتضامن والتراحم؛ فتساهم بحقٍ على دعم وتدعيم نسيج الوطن وتؤكد على ماهية الولاء والانتماء لتراب الغالي.
والمتتبع لتاريخ مؤسسة الأزهر يجد أنها تتناغم مع استراتيجية الدولة القائمة منها والطموحة؛ إذ تدفع بمنهجها الوسطي الإنسان على أن يكون معمرًا وفق ما جاء من فكرة خلافته للأرض؛ فالدعوة للعمل والاجتهاد فيه وإتقانه من مقومات الدين وشعيرته الجلية، والشراكة في البناء ونهضة الوطن من أصل العقيدة وعمادها، والحفاظ على كيان الأسرة لبنة المجتمع وعماده من ثوابت دعوتها المتواصلة والمتأصلة؛ حيث إن أدوار ومسئولية الرعاية والتربية تقع على عاتق الجميع؛ فكلكم راعِ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.
إن أزهرنا الراقي في فكره وفلسفته يعمل بمثابرةٍ على تعضيد منظومة القيم الحميدة بتنوعاتها؛ إذ يستهدف خلق جيلٍ تلو جيلٍ يُسهم بطاقاته البناءة في بناء ونهضة وتقدم وإعمار وطنه، ويزود عن مقدراته ويعظمها بمزيدٍ من العمل المشفوع بالابتكار في ضوء ما يمتلكه من مهاراتٍ وخبراتٍ نوعيةٍ، وهذا مشروطٌ منذ البداية بتربيةٍ سليمةٍ وغرس بُنىً فكريةً قويمةً تُعد سياج أمنٍ وأمانٍ وبوابةً تحقق مقومات الحياة الكريمة في مستواها الفكري والمعيشي على السواء.
وباب مطالعة المنهج الأزهري منفتحٌ على مصراعيه ليتيقن من وسطية محتواه ومساره التي تقي متلقيه ومتعلميه طرائق الغي والضلال؛ حيث إن الروحانية مقرونةٌ بالسلوك الصحيح ولا ينفك عنه، كما أنه لا إفراط أو تفريط فيما يتعلق بالمسئوليات والفروض والواجبات؛ فالغاية كامنةٌ في تجنب الإنسان السقوط في بحور الضلال والتطرف والوصول لمستويات المغالاة التي تحرق كل ما هو راقٍ أو جميلِ بطبيعته.
لا أسردها متحيزًا؛ لكنها شهادة حقٍ وصدقٍ في عالم بات ضميره غائبًا، إن منهج منارة الأزهر تجعل الإنسان معتزًا بذاته، لا يقبل الخنوع والاستسلام والذل والخضوع، ومن ثم يحافظ على هويته وقوميته وكينونته التي خلقه الله عليها؛ فمن أهدافه العليا تعضيد ماهية العزة والكرامة والحرية المسئولة ونبذ القبيح وحب الفضيلة والسماحة، والأخذ بسبل الحكمة والموعظة الحسنة التي يتقبلها العقل ويخفق لها القلب.
ستظل بمشيئة الله تعالى مؤسسة الأزهر منارةً متقدةً مضيئةً لا تنقطع جهودها حيال تجديد الفكر وتصويب المغلوط منه باستراتيجياتها السمحة ومنهجها الراسخ الذي يستهدف دومًا إخماد أو إطفاء نار الغلو والفتن التي تبغي التفرقة؛ فالحق والثابت أن الرسائل السماوية لا تفرق بين البشر، وتدعو للوحدة والرباط ليحيا العالم في سِلْم وسلام؛ لتتمكن الأجيال تلو الأجيال من مواصلة التقدم والإعمار، بما يحقق الغاية من الاستخلاف في الأرض.
حفظ الله الأزهر منارةً مستدامةً، ووطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.