نحن الآن فى الذكرى السادسة والسبعين لنكبة فلسطين، وهى الحدث الذى يمثل نكبة عربية تحتل مجالات عديدة ولعبت دورا وانعكست آثارها على كل توجهات السياسة والاقتصاد وتجارب الدول العربية، وعلى مقاساتها يحسب البعض حجم المواقف والتصورات والتحركات التى وسمت العالم العربى وربما الشرق الأوسط كله على مدى أكثر من سبعة عقود.
ويبدو للمراقب أحيانا أن ما بعد النكبة كان وقتا ضائعا، حيث ترك العرب قضاياهم وتفرغوا لهذه القضية، التى أصبحت على مدى عقود مجالا للنضال والصراع والمتاجرة والمزايدة، والتخوين والتكفير، ارتفع بسببها زعماء وتراجع آخرون، فقد بقيت القضية الفلسطينية متقدة على مدى السنوات السادسة والسبعين.
وللمفارقة فإن الرئيس جمال عبدالناصر تعرض لانتقادات وهجوم لأنه خاض حروبا، بينما تعرض الرئيس أنور السادات للهجوم لأنه حارب وصنع السلام، بل إنه اتهم اتهامات وصلت إلى حد التخوين، ولم يراجع هؤلاء الذين اتهموا السادات أنفسهم حتى وهم يقبلون فى مدريد وأوسلو 1991 - 1993 ما رفضوه فى مينا هاوس 1977، وهذا ليس للمعايرة، لكنها دعوة لقراءة التاريخ بإنصاف، وتقييم كل رئيس وكل سياسى طبقا لزمنه وقواعد عصره وليس بقواعد عصور أخرى، وحتى يمكن للأجيال الشابة أن تعرف الحقيقة، خاصة فى ظل حالة شبهات والتباسات وخلط لا تزال تتم حتى ضد مصر الدولة التى بذلت وناضلت وقدمت وما زالت جهدا كبيرا، ومع هذا تتعرض للمزايدة والهجوم واتهامات جاهلة أو مدفوعة تصب لصالح إسرائيل.
واليوم تدور حرب إبادة على غزة من قبل الاحتلال الإسرائيلى بقيادة بنيامين نتنياهو، تتجاوز ما سبق لتتحول إلى إبادة، ضمن أخطر جولة من الحرب، وعلى مدى عشر سنوات شهدت القضية الفلسطينية خمس مواجهات كبرى خلال السنوات العشر الماضية، وفى كل مرة كانت مصر تقف فى المواجهة حتى يتم وقف الحرب، لكن هذه المرة تجاوزت الحرب كل السوابق، تأتى فى أخطر الأوقات خاصة بعد ما جرى خلال الربيع العربى، وما واجهته المنطقة من غزوات وهجمات وتوغل إرهابى كاد يطيح بواقع دول مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا وهى دول محورية كان وجودها يصنع توازنا، اختل وبدا هذا الاختلال لصالح «إسرائيل الآمنة».
منذ الحرب على غزة، أعلنت مصر والرئيس عبدالفتاح السيسى موقفا واضحا ضد التهجير، والتصفية للقضية الفلسطينية، ومع حل الدولتين، وخلال شهور تعاملت الدولة المصرية باحترافية وصبر، مع تصعيد محسوب، ومبادرات وقنوات اتصال مع كل الأطراف الأصلية والفرعية والراعية، فى وجود الولايات المتحدة وقطر وأطراف أخرى، وتوصلت لهدنة أولى، ثم كادت تصل إلى وقف إطلاق نار، تراجع بسبب التطرف الإسرائيلى، والذى يرفض حتى المساعى الأمريكية ويستغل فترة انتخابات لممارسة ابتزاز سياسى للرئيس الأمريكى والديمقراطيين ومزايدات الجمهوريين.
والواقع أن مصر شعبا وحكومة ظلت أكثر الدول التى خاضت حروبا من أجل القضية الفلسطينية، وكانت الهزائم والانتصارات فى الحروب ثمنا قطع سياقات التنمية المستقلة، وفرض نفسه على مسارات السياسة فى هذه الدول، والواقع أيضا أن تقييم الرؤساء والمراحل بقى فى سياق نتائج الحروب، التى دفعت فيها مصر ثمنا غاليا من الدم والمواجهات، والمال أيضا الذى أدى فى النهاية لتعثر مشروعات التصنيع والتنمية والتعليم، بجانب أن الحرب الباردة استقطبت دولا وأنظمة وحكمت علاقاتها ببعضها وبالعالم.
فى كتابه عن الأيديولوجيا الصهيونية، كان الدكتور عبدالوهاب المسيرى يرى أن وجود إسرائيل كان هدفا استعماريا واضحا، وأن زرع إسرائيل فى الشرق الأوسط من قبل بريطانيا وفرنسا والدول الاستعمارية ووريثتها الولايات المتحدة، كان الهدف منه هو تأكيد عملية تقسيم المنطقة، وأن إسرائيل بقيت تلعب دور أرخص حاملة طائرات للولايات المتحدة، بل إنها هى التى حفزت تجارة السلاح وتداوله لكونها زرعت الخوف وشاركت فيه، ولهذا فإن الغرب ربما لا يريد للسلام أن يحل لأن إحلال السلام من شأنه أن يضعف الطلب على السلاح.
وبالنظر إلى هذه الجولة من الصراع، فهى ليست جولة لكنها حلقة خطيرة من حلقات الصراع، تأتى فى ظل تحولات عالمية واستقطابات إقليمية، تستدعى قراءة التاريخ من النكبة وما قبلها، وصولا إلى سياقات أخرى، حيث يجب تقييم عقود من التخوين والصراعات والانقسامات لم تنجح، وأن الواقع الآن يستدعى التعلم من الدروس، وبناء طرق وأساليب جديدة غير التى فشلت، وقراءة الدور الذى تلعبه إسرائيل، واستغلال الزخم الذى اكتسبته القضية الفلسطينية فى هذه الحرب، بشرط إنهاء الانقسامات والتخوين الداخلى والنظر للمستقبل بعيدا عن مصالح خاصة، باعتبارها قضية وليست شركة، وإنهاء صراع الأخوة الذى لم يفد غير العدو.