استكمالا لمحاولة تطبيق العلوم العسكرية على الحرب في غزة، بعيدا عن العاطفة والأيديولوجيا، نستعرض في هذا المقال، الاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها الفصائل الفلسطينية في غزة، وذلك قبل استعراض الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
ويرى كاتب هذه السطور، عن طريق الاستنباط، أن الفصائل الفلسطينية استخدمت ما يسمى في العلوم العسكرية باستراتيجية الاقتراب المباشر، على النحو التالي:
المفاجأة "الفخ القاتل"
المفاجأة والمباغتة، هي السمة الأكثر شهرة في الاستراتيجية العسكرية "الاقتراب المباشر"، وهي السمة الأكثر وضوحا منذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى 7 أكتوبر2023، وفي كثير من تفاصيل وتكتيكات حرب الفصائل في مواجهة الاجتياح البري لغزة.
استطاعت الفصائل الفقيرة والمحاصرة في غزة، يوم 7 أكتوبر، مفاجأة الترسانة التكنولوجية الإسرائيلية الجبارة، بالتوغل بمقاتليها، والتحرك بخفة بين جنبات الدولة المدعومة بأحدث أساليب الحرب والمخابرات من الغرب.
وعبرت صحيفة هاآرتس عن صدمتها بالقول: "من داخل الدبابات انتزع مقاومو القسام جنودنا، واقتادوهم في عمل نوعي غير مسبوق. وشنت حماس هجوماً مباغتاً فعالاً، فاجأ أجهزة استخباراتنا وأدى إلى انهيار المنظومة على حدود غزة، ويجب إجراء تحقيق عميق في الفشل الاستخباراتي والسياسي الذي أدى إلى الفخ القاتل".
أما المفاجآت بعد 7 أكتوبر فتكاد تكون يومية، ففي تصريحات نشرتها "العربية" يوم 2 نوفمبر 2023، نقلا عن صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، قال جنود وضباط إسرائيليون: "الفصائل الفلسطينية فوجئت بضخامة عدد آلياتنا العسكرية، ونحن فوجئنا بالقدرة القتالية للفصائل، وهي أعلى من القدرات القتالية التي عهدناها في الفصائل".
وهذا معناه، أن حماس كانت تعد للمعركة منذ فترة طويلة، واستطاعت إدخار قوتها، وعمدت إلى عدم تبديدها في معارك فرعية، للتركيز على المعركة الكبرى التي تعد لها وهي طوفان الأقصى، حيث كانت تتوقع أنها ستكون حربا طويلة.
حتى الأنفاق تحت الأرض، فاجأت إسرائيل باستحالة إغراقها أو السيطرة عليها، بعد التأكد من استحالة دكها.
وكانت أسلحة الفصائل من ضمن المفاجآت المؤثرة جدا في حرب غزة، إذ فوجئت إسرائيل والعالم، بكم ونوعية السلاح المستخدم من قبل الفصائل، بل وقدرة الفصائل المحاصرة في القطاع على تطوير الأسلحة وتصنيعها، ومن هذه الأسلحة الأكثر تأثيرا كانت "مضادات الدروع"، وفي مقدمتها "يس 105"، وهي قذيفة آر بي جي، طورتها حماس من قذيفة تاندوم الروسية، وقد أبهرت "يس 105" الجميع، بحصدها الدبابات الإسرائيلية "الميركافا" ذات السمعة الجبارة.
وهناك أيضا صاروخ كورنيت، الذي استطاع خداع القبة الحديدية. وكذلك القاذف تاندوم.
التضليل
ويعتبر "التضليل" من الأساليب المستخدمة لتنفيذ عنصر المفاجأة، واستخدمته "حماس"، بإيهام إسرائيل قبل 7 أكتوبر، بأن أولوياتها الحالية بعيدة جدا عن الاشتباك المسلح، بأساليب منها عدم مشاركة حماس لفترة في عمليات عسكرية مع بقية المنظمات الفلسطينية مثل حركة "الجهاد".
وتتضح أهمية عنصري التضليل والمفاجأة من نتائجهما العسكرية، وأهمها، شل قدرات العدو، والتسبب في انهياره نفسيا.
شل القدرات العسكرية للعدو
جاء في تصريحات صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي في (حماس) قبل استشهاده في بيروت، نشرتها وكالة سما الفلسطينية الثلاثاء 02 يناير 2024، عن عملية طوفان الأقصى: رغم أن الخطة كانت تتوقع "أن تستمر المعارك مع فرقة غزة الإسرائيلية لساعات طويلة، فإن مقاتلي القسام تفاجأوا بانهيار الفرقة كاملة خلال ساعات قصيرة، وتمكنوا من الوصول بسهولة لمركز قيادتها وللمطار والكيبوتسات والمستوطنات القريبة".
إن ما ورد في تصريحات العاروري من أن مقاتلي المقاومة فوجئوا بانهيار فرقة غزة الإسرائيلية كاملة خلال ساعات قصيرة، ما هو إلا نتاج لعنصر المفاجأة، الذي يسبب ارتباك العدو، فيتم شل قدرات العدو "فلا يغني عنه تفوقه في العدد أو العتاد والتقدم التكنولوجي".
الانهيار النفسي للعدو
هي واحدة من أهم آثار عنصر المفاجأة، لأن مجالها معنويات العدو وذهنه ومشاعره، وهو ما يعرف بالحرب المعنوية أو النفسية، حيث يفقد العدو ثقته بنفسه وقدراته ومعداته وأسلحته وأجهزته الأمنية ومؤسسته العسكرية، ويتأكد أن هزيمته قد حلت، وأن المهاجم قد فاز وانتهى الأمر، وليس هناك سبيل لمحو هذا الفوز.
وقد أكد المحلل السياسي الإسرائيلي بن كاسبيت أن المقاومة فاجأت مخابرات إسرائيل، واستهزأت بنظامها الأمني، ولن تمحى هذه المشاهد قريباً من أذهان اللاعبين في المنطقة.
وأضاف في مقال نشره موقع ويللا العبري "إن ما حصل اليوم أثبت أن حماس فازت ".
وذكر بن كاسبيت "إسرائيل فشلت في 1973 ولن تنجح في 2023 .. وفي هذه الفوضى هناك شيء واحد مؤكد: كل من آمن بأن إسرائيل هي القوة المطلقة، واعتقد دفن القضية الفلسطينية في قبر، فهو يتعامل مع واقع قديم".
أما الكاتب نير كيبنيس فقال: "رغم جهود الموساد والشاباك وأمان وكل وسائل الرصد، فإن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية غير قادرة على حماية المستوطنين".
إن احتواء التصريحات السابقة يوم 7 أكتوبر، على جمل مثل "المؤسسة الأمنية الإسرائيلية غير قادرة على حماية المستوطنين، وإسرائيل فشلت في 1973 ولن تنجح في 2023"، هو نتاج الحرب النفسية التي أتقنتها حماس بفضل عنصر المفاجأة مع بقية العناصر الأخرى في استراتيجيتها.
3 - الاستباق
يبرز عنصر الاستباق عندما يتوقع المحارب هجوما من العدو، أو تأتيه معلومات باستعدادات العدو للهجوم، فيبادر بهجوم استباقي.
وقد ورد في تصريحات العاروري سالفة الذكر، إن طوفان الأقصى جاء استباقاً لهجوم كانت تنوي إسرائيل شنه على قطاع غزة فور انتهاء الأعياد اليهودية.
وهذا ملمح آخر من ملامح استراتيجية طوفان الأقصى، التي اعتمدت مبدأ "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وكلام العاروري غير مستبعد، ولا يمكن إضافته إلى مبررات الهجوم، لأن مبررات الهجوم كثيرة، تمثلت في القتل والتشريد والحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، كما أن كلام العاروري يمكن فهمه عندما نستدعي معلومة معروفة، وهي أن إسرائيل شنت عدة حروب على القطاع منذ حرب الرصاص المصبوب في 2008، فليس من المستبعد أن إسرائيل كانت تستعد لشن حرب أخرى على غزة، وربما يكون كلام العاروري مبنيا على معلومة استخباراتية دقيقة.
4-التنوع في استراتيجيات وتكتيكات المقاومة
هو من أهم ملامح استراتيجية الاقتراب المباشر، فالحروب تأتي بتغيرات كثيرة، وليس من الحنكة الاستمرار على نمط واحد، ومن ضمن الدلائل القوية على التخطيط الجيد لطوفان الأقصى، هو الاستعداد وتكوين القدرة على تغيير الاستراتيجيات والتكتيكات اليومية في القتال، على النحو التالي:
اعتمدت المقاومة على استراتيجية مهمة جدا وهي الاستنزاف، إذ أدركت أن الحرب الطويلة مكلفة جدا لإسرائيل، فاستدرجت المقاومة تل أبيب وورطتها في حرب طويلة عادت بالخسائر الفادحة على الاقتصاد الإسرائيلي، ناهيك عن اقتصاد حلفائها.
وشكلت الأنفاق استراتيجية مهمة أخرى استطاعت بها المقاومة حماية مقاتليها بتطوير أنفاقها عبر سنوات طويلة، من مجرد ممرات بدائية لتهريب البضائع، إلى شبكة معقدة تحمي بداخلها جيشا كاملا، يستطيع عناصره اختيار المكان والزمان الملائمين للخروج وتنفيذ العمليات ضد الجيش الإسرائيلي الذي غطت آلياته أرض القطاع، وغطت طائراته السماء، فاعتصم المقاومون بالأنفاق تحت الأرض.
ومن ناحية التكتيكات اليومية كانت أكثر تنوعا، فهناك تكتيكات الاستدراج والتفخيخ، لكن من المهم الوقوف عند تكتيك "المسافة صفر"، لأسباب عديدة منها شهرته، ومنها ملاءمته لظروف الفصائل، ومنها البعد التاريخي لهذا التكتيك في تاريخ المقاتل العربي على وجه التحديد.
ويتلاءم تكتيك المسافة صفر مع ظروف المقاومة الفلسطينية، التي تفتقر إلى الإمكانيات، لكنها تمتلك عددا كبيرا من المقاتلين المؤمنين بقضيتهم، القادرين على مواجهة الموت بشجاعة، حيث يمتلكون عقيدة قتالية تدفعهم إلى تقديم أرواحهم رخيصة في مواجهة العدو.
لمحة تاريخية
في عام 35 هجرية، استطاع أول أسطول عربي، أن يهزم أسطول القوى العظمى الأولى في العالم في ذلك الوقت "الرومان" عبر تكتيك المسافة صفر.. كيف؟ الإجابة بتحويل المعركة البحرية إلى هجوم بري في عرض البحر.. مرة أخرى كيف؟
كانت "ذات الصواري" أول معركة بحرية للعرب ضد الأسطول الروماني، الذي كان ضخما جدا لدرجة أرهبت العرب.
وتبادل الطرفان الضرب بالسهام وقذف كرات اللهب من بعد، وأيقن العرب أنهم مهزومون بهذه الطريقة، بسبب التفوق الروماني الرهيب في السلاح، وبعد أيام من المعاناة والخسائر، اتفق العرب على خطة.
استخدم العرب خطاطيف وقذفوها على سفن الرومان، وجروها حتى التصقت بسفن العرب، وقامت "الضفادع البشرية" بمصطلحاتنا الحديثة، بربط سفن الرومان بسفن العرب.
وبذلك بدأت الحرب بالسيوف وجها لوجه، وهذا الأسلوب في القتال، نستطيع أن نقول عليه إنه "فرصة المقاتل العربي"، لأنه يعتمد على المهارة في استخدام السيف وخفة الحركة، بالإضافة إلى الشجاعة والإقدام الناتجين عن العقيدة القتالية، وبهذا تمت هزيمة الرومان، وبعد 1400 سنة يستخدم مقاتلو حماس نفس "المسافة صفر" في مواجهة الجيش الإسرائيلي.
وفي المقال التالي، نستعرض بقية الاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها الفصائل الفلسطينية، عبر استعراض بند "الطابور الخامس".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة