في الوقت الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بموقفها الداعم لإسرائيل، إلا أن ثمة متغيرات كبيرة باتت تشهدها العلاقة بين الجانبين، في الأشهر الماضية، ربما متأخرة، ولكنها ارتبطت في الأساس، بحالة من المروق الإسرائيلي، في ضوء تعنت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ورفضه المطلق لأي مطالب من شأنها وقف إطلاق النار، أو على الأقل الوصول إلى هدنة تفتح الطريق أمام احتمالات العودة مجددا إلى مائدة المفاوضات، التي ينبغي أن تكون مدخلا لتحقيق الاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، عبر الوصول إلى حل الدولتين، والذي يقوم في الأساس على تأسيس الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الأمر الذي يتوافق مع الشرعية الدولية.
ولعل المشهد الإسرائيلي المارق، انعكس بجلاء في حالة من التنافر بين إدارتي بايدن ونتنياهو، التي توارت إلى حد كبير وراء الدعم الذي تقدمه واشنطن إلى تل أبيب، في العديد من المسارات، ربما أبرزها سياسيا، وهو ما تجلى في امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، فيما يتعلق بقرار مجلس الأمن الدولي، حول وقف إطلاق النار، في غزة، خلال النصف الثاني من شهر رمضان، بينما اتخذت التصريحات الأمريكية منحى مختلف تجاه مواقف الدولة العبرية، اتضح في الرفض المطلق للعملية العسكرية في رفح، وهو ما يمثل تغييرا ملموسا ومهما من قبل الحليف الأكبر لتل أبيب، والداعم الأكبر لها، وإن لم يرتقي إلى أدنى درجات الإنصاف.
ويعد التنافر بين بايدن ونتنياهو جزءً لا يتجزأ من إرث إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عندما اتجه الأخير نحو إبرام الاتفاق النووي مع إيران، رغم رفض الدولة العبرية، إلا أن الظروف ربما خدمت اليمين الإسرائيلي فيما بعد مع وصول الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي حمل موقفا سلبيا من طهران، أدى في نهاية المطاف إلى انسحاب واشنطن من الاتفاق.
وبالنظر إلى المشهد الحالي، والمرتبط بالعدوان على قطاع غزة، والمشهد السابق المرتبط بإيران، يبدو التعنت الإسرائيلي بمثابة أبرز المقاربات، إلا أن الوضع الإقليمي يبدو مختلفا، حيث لم تكن إسرائيل الرافض الوحيد للاتفاق النووي، في ضوء فشل واشنطن، خلال عهد أوباما، في احتواء مخاوف القوى الإقليمية الأخرى، مما تمثله طهران، في تلك اللحظة من تهديدات لها، وهو الأمر الذي شهد تغييرا ملموسا في الآونة الأخيرة، مع إبرام حزمة من المصالحات الإقليمية، بينما يبقى الوضع الراهن مختلفا، في ضوء حالة من التوافق، التي باتت تسود منطقة الشرق الأوسط، وإن اختلف الخطاب بحسب المصالح الحاكمة لكل دولة، حول ضرورة وقف إطلاق النار، والعودة إلى التفاوض، في سبيل الانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها تأسيس الدولة المستقلة، والذي يمثل السبيل الوحيد لتحقيق الشرعية الدولية، وبالتالي تحقيق الاستقرار الإقليمي، وهو ما بدا في الموقف الإقليمي القوى خلال قمتي القاهرة للسلام، ذات الطبيعة الدولية، والعربية الإسلامية التي عقدت في الرياض، والتي حملت طبيعة إقليمية، وأخيرا على المستوى العربي، خلال قمة البحرين.
تلك الحالة الإقليمية القائمة على التوافق الإقليمي، والتي غابت عن المشهد الأول (الاتفاق بين واشنطن وطهران)، وضعت الدولة العبرية، ومن ورائها حلفائها، في حالة من العزلة، بينما تبقى المواقف الأمريكية الداعمة لها، سببا رئيسيا في تراجع دور واشنطن، والتي طالما نظر إليها العالم باعتبارها الراعي الرئيسي للقضية الأكبر في العالم، وهو ما فرض عليها قدرا من العدول عن دعمها المطلق وغير المحدود إلى إسرائيل، نحو قدر من الاتزان، وإن كان محدودا، أو يراه البعض شكليا، وهو ما يمكن فهمه في إطار ثوابت الدبلوماسية الأمريكية، ومن ورائها الغربية، والتي تقوم في الأساس على دعم إسرائيل بحكم العديد من الاعتبارات، سواء التاريخية أو السياسية، خاصة في وجود كتل تصويتية كبيرة داعمه لها سواء في الداخل الأمريكي، أو في أوروبا الغربية، عبر تصريحات تنتقد نتنياهو وحكومته تارة، ومواقف رافضة للعملية العسكرية في رفح تارة أخرى، بالإضافة إلى الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن بعد استخدام الفيتو مرتين سابقتين، حول قرارات لوقف إطلاق النار.
والمسار الآخر، لموقف واشنطن ومن ورائها الغرب الأوروبي، تجاه مروق تل أبيب، يتجلى في البعد السياسي المرتبط بالداخل، وهو ما يبدو في زيادة حدة التظاهرات الداعمة لفلسطين، والتي وصلت مؤخرا إلى مبنى الكابيتول، في العاصمة الأمريكية، ودفعت نحو موجة من الاعتقالات، وهو ما يعكس تغييرا في البعد الشعبوي الداخلي، والذي حمل قدرا من التغيير، ربما مازال محدودا، ولكنه يبدو ملفتا، مما يكشف أن حالة العزلة التي تعانيها تلك الدول لم تقتصر على النطاق الدولي، وإنما امتدت إلى الشارع السياسي في الداخل في انعكاس للعديد من الحقائق، أبرزها أن السياسة الخارجية للإدارات الحاكمة في الغرب باتت محورية في تقييمها من قبل الشعوب، وبالتالي فيمكنها التأثير على أصوات الناخبين، خاصة مع تداعياتها الكبيرة على حياة المواطنين، ومعيشتهم، جراء الأوضاع الاقتصادية الناجمة عنها.
الأمور ربما تتجاوز العملية الانتخابية، خاصة وأن البيئة باتت مهيأة نحو الفوضى، وهو ما بدا في السنوات الأخيرة، على غرار مشهد اقتحام الكونجرس في يناير 2021، على خلفية الاحتجاج على الإعلان عن فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو في الغرب بشكل عام، مع ظهور حركة السترات الصفراء في أواخر العقد الماضي، وهو ما يعكس أن ثمة ميولا شعبوية باتت تتجه نحو فرض رؤى بعينها بالقوة، على الإدارات الحاكمة.
وهنا يمكننا القول بأن الدعم المطلق للدولة العبرية، من قبل الغرب، بات في حاجة ملحة لإعادة التقييم مجددا، سواء من قبل الولايات المتحدة أو الغرب، في ظل المروق الإسرائيلي، وما ارتبط به من حالة من التوحش، تضرب المبادئ التي طالما حملها حلفائها، عرض الحائط، بينما ارتبطت من جانب آخر، بحياة المواطنين، وهو ما يضع تلك الحكومات في حالة من الحرج أمام شعوبهم.