بدأ العد التنازلى لحكومة الحرب. الخلافات التى كانت مكتومة خرجت للعلن، وقدرة المُتصارعين على المواءمة وجَبر التناقضات عند أدنى مستوياتها. والحادثُ أنَّ يدًا ثقيلة ضغطت على الزناد بالفعل، وما يتبقّى بقدر المسافة بين فوّهة البندقية ومستقر الرصاصة.. بينى جانتس يُمهل نتنياهو أقل من ثلاثة أسابيع للرجوع عن أمورٍ يعدّها من ثوابته، ورئيس الحكومة يرفضُ المُهلةَ قبل أن يجفّ حِبرُها، والمشهد السياسى فى تل أبيب مفتوحٌ على كلِّ الاحتمالات؛ إلَّا النزول عن شجرة الجنون.
كان وزير الدفاع السابق أول الداعين لتشكيل حكومة طوارئ بعد طوفان الأقصى، واليوم أوّل الذين حزموا أغراضَهم للرحيل. والفكرةُ حينما طُرِحَت تلقَّاها زعيم الليكود باستحسانٍ لأنها تُؤمِّن له مصالح مُلحّة؛ فمن ناحيةٍ سيُرصِّص الصفوف على صيغة الإجماع، مُتجاوزًا الغضبة الشعبية من الإخفاق، ويَأمَن مُناكفات المُعارضة فى مرحلةٍ حرجة، ويبيع لواشنطن فكرة الحرب على أجندةٍ مُوحَّدة، والأهم أنه يضعُ البيضَ كلَّه فى سلّةٍ واحدة، ليُراهن على مهارته فى المراوغة وألاعيب الحُواة؛ فيُروِّض حلفاءه من أقصى اليمين بشُركاء الوسط، ويُطوِّع العلمانيِّين بالتوراتيِّين، وينتفع بإسناد الطرفين دون تقديم تنازلاتٍ كاملة لأىٍّ منهما. هكذا نظر للعبة وأدارها؛ واليوم ينقلب السحرُ على الساحر.
خطوة بينى جانتس تبدو مُتأخّرةً أربعة أشهر على الأقل. كلُّ المُؤشِّرات كانت تقطعُ بالصدام فى يناير، وقد اختبر الجميعُ تجربةَ الهُدنة واستعادة الأسرى قبل شهرين، وطال أُفقُ الحرب دون خطّةٍ أو برنامجٍ لليوم التالى. لكنَّ الأُمورَ مضت بالقصور الذاتى، وبانتظار كلِّ فريقٍ لأن يضجّ الآخرُ بالشكوى أوّلاً. وحينما زار زعيم معسكر الدولة واشنطن فى مارس؛ بدا أنَّ مساحةَ الشِّقاق تتّسع مع نتنياهو، لصالح الاقتراب من رؤية البيت الأبيض، واعترض مُقرّبون من رئيس الحكومة، وأثاروا شُبهاتٍ صاخبةً عن التسويق لبدائل سياسية تتربَّح من المشهد المأزوم، بدل أن تنخرط فيه بحق الائتلاف وواجب الضرورة. ولم تكن الأزمةُ فى تمايُزات الأيديولوجيا، ولا نزاع الأفكار الشخصية بين الساسة والجنرالات؛ إنما كانت خليطًا من الظلال الذاتيّة والموضوعية، وفيها من التذاكى قدر ما فيها من استغباء الغريم، فضلاً على تصفية حسابات قديمة كان مجالها الشارع؛ وانتقلت بالظرف القاهر لمجلس الحرب.
ربما سعى تيَّار الوسط بانخراطه فى حكومة الطوارئ إلى تخليق حالة توازُن داخل السلطة؛ حتى لا ينفلت عقال نتنياهو بنزعته القومية المتطرفة، أو يُسلِمَ قيادَه كاملا لشريكيه المخبولين من الصهيونية الدينية. والأرجحُ أنهم بجانب هذا رأوا فى الشراكة فُرصةً لتغيير الأوزان السياسية من داخل تركيبة الحُكم، وتسويق أكبر ائتلافات المُعارضة من موقع الشريك المسؤول وطنيًّا، على أن تتكفل مداولات الكابينت وتسريباته بإيضاح من يعملُ للدولة ومن يتفرّغُ لمصالحه الخاصة. والحصيلةُ بعد اثنين وثلاثين أسبوعًا أن نتنياهو لم يُحرز ربحًا مُستدَامًا من الائتلاف؛ بينما أحرز خصومَه أهدافَهم كلها، وأحدث استطلاعات الرأى تُقلِّص حصة الليكود فى أي اقتراع مُبكّر لعشرين مقعدًا، وتمنح «الوحدة الوطنية» قرابة 35 تسمح له ببناء ائتلافٍ مع بقيّة الوسط، هذا إذا لم ينقسم الحزب الحاكم على نفسه؛ فيفرزُ أطيافًا جديدة تتزحزح لليسار قليلاً، أى لجهةِ جانتس ورفاقه.
كانت مفاجأةً دون مُقدِّمات؛ عندما أعلن ثالث الأضلاع الحاكمة لمجلس الحرب عن مُهلةٍ تنقضى فى 8 يونيو المقبل، جوهرها صياغة خطة حربية تحدُّها ستّة شروط: إعادة الأسرى، تدمير حماس، نزع سلاح غزة وضمان الوجود العسكرى بالقطاع، إدارة أوروبية أمريكية فلسطينية بطابعٍ مدنىّ، إعادة النازحين من الشمال بحلول سبتمبر واستعادة النقب الغربى، ثمّ تطبيع العلاقات مع السعودية كمُقدِّمة للانفتاح على العرب، وأخيرًا تعزيز قوّة الجيش بتجنيد طلاب المعاهد الدينية. وبعيدًا من طبيعة الشروط وقسوتها على نتنياهو؛ فأصعبُ ما فيها أنها تُكمِل الخلافَ المُعلَن مع وزير دفاعه وشريكه الليكودى، يوآف جالانت، وقد أعلن صراحةً قبل أيام أنه يُعارض الحكم العسكرى للقطاع، ويسعى لإدارة فلسطينية ضمن تفاهماتٍ إقليمية ودولية، وفى كلِّ الأحوال لن يُمرِّر أيّة خطة تقضى بالبقاء الواسع للجيش فى غزة.
المعضلةُ أن الأوراق تتداخل بعيدًا من المنطق وأنساق التفكير الطبيعية.. جالانت يجلس على رأس المُؤسَّسة العسكرية، وواقع إسرائيل أن الجنرالات بطبعهم أميلُ للحسابات العقلية الباردة وكبح نزق السياسيين ونزواتهم؛ لكنه كان مُنحازًا أوَّلَ الأمر لحربٍ كاسحة، وضربةٍ استباقية لحزب الله شمالاً، واليوم يتقمَّص صورةَ الحمامة تاركًا مخلبَ الصقر لنتنياهو. وبجانب حسابات الميدان؛ فلا يُمكن القفز على صدامهما قبل سنة؛ مإذ انحاز الوزير للشارع فى قضية الإصلاح القضائى، وسعى رئيس الحكومة لإقالته، قبل أن يرضخ لاحقًا للضغوط الشعبية. وبين رُزمة البدائل المُحتمَلة حاليًا يُطرَح اسم جالانت، ولخَلفيّته الليكودية فقد يتسبَّب فى انقسام الحزب على نفسه، أو يزعج زعيمه من داخل البيت.
سار «جانتس» للصدام مدفوعًا بالفوران المجتمعى. كانت التظاهراتُ تسبُّ نتنياهو لنَحر الرهائن تحت حذاء مصالحه الشخصية؛ ثم تستكمل اللعنات برموز المعارضة فى الكابينت، لأنهم أظهروا الرخاوة ولم يتحلّوا بالشجاعة اللازمة لكَسر دائرة الجنون والنار. والحال أنَّ ورقة الشروط أقرب للقفز من المركب المحترقة؛ لأنَّ صاحبها يعلمُ بالضرورة أنها مُستحيلة التطبيق، أو أقلّه لن تكون موضعَ ترحيبٍ قريب، كما أنَّ بعضَ بنودها تصطدم مع ثوابت عقائديّة لدى المُتظاهرين أنفسهم، وبعضها تُمثِّل انقلابًا على الدولة وتوازناتها المرعيّة منذ التأسيس. باختصار؛ الطرحُ غَرضُه نَقضُ الائتلاف لا تصويب مساره، ربما لأنَّ المعارضة رأت أنها قدَّمت غطاءً مجانيًّا لم يجلب لها سوى نقمة الجمهور، أو لاستشعارها أنَّ الظرف مواتٍ للدفع نحو انتخاباتٍ مُبكّرة وقَطف ثمار التنازُلات لشهور، أو لاستثمار فائض التناقُضات المكبوتة بين جناحى اليمين بالحكومة، وتحضير الحلبة لنِزالٍ تأجَّل طويلاً، على أن يتكفَّل الائتلافُ المُشوَّه بتكسير نفسه، دون مَنحِه ورقةَ المظلوميّة، أو فرصةَ المُزايدة بحال الدولة وامتحاناتها الوجودية.
صار نتنياهو فى موقفٍ بالغ الصعوبة. صحيح أنّه أعلن رفض المُهلة وشُروطها على عَجَل؛ لكنها طريقته المُعتادة فى تضليل التوقعات، وفى الرهان على طُول النَّفَس وإرجاء القرارات للحظة الأخيرة. والمُؤكَّد أنه لن يتجاهل إملاءات جانتس، وسيتداولها فى ذهنه أو مع دائرته الضيِّقة، وربما يسعى لتفكيك موقفه أو إغرائه ببدائل أخفّ وطأةً. وفى الأخير سيتّخذ قراره فى الموعد، أو يترك نجمَ المُعارضة اللامع لاتِّخاذه؛ طمعًا فى أن يحترق بنار الغضب اليمينىّ، أو تُعاديه جبهة الحرب وتُحمِّله إخفاقاتها اللاحقة. والطرفان يعرفان جيّدًا أنَّ عامة الإسرائيليين لا يقبلون بدولةٍ فلسطينية؛ ولو أهدتهم سفارةً فى الرياض أو إطلالةً من شرفات العواصم العربية كلّها، كما أن إسرائيل بُنِيَت على تفاهُماتٍ حَرجة، من بنودها أن يتمتع «الحريديم» بوضعيّةٍ خاصة أهمها إسقاط التجنيد. هذا الشرط لا يضع نتنياهو فى مواجهة حليفيه بن جفير وسموتريتش فحسب، بل يضع العلمانيِّين جميعًا فى صدامٍ مع الحاخامات، وقُرابة مليون مُتديِّنٍ يُمثّلون عُشر السكان، وقد بلغت خطابات قادتهم الروحيِّين من التطرُّف حَدَّ القول إن الدولة فى حماية دارسى التوراة، وأنهم يُقدِّمون لها الأهمَّ والأثمنَ ممَّا يُقدِّمه الجيش.
اليوم يطالب جانتس بالوجود العسكرى، ويرفضه جالانت، وكلاهما جنرالٌ قادَ الدفاع، وعلى خصومةٍ مُعلنة مع نتنياهو. أمَّا الأخير؛ فبعدما كان مُتشدِّدًا فى مسألة السيادة الأمنية الكاملة لأمدٍ طويل، يعودُ عنها اليوم وقد استبانَ له أثرُها الحارق أمنيًّا واقتصاديًّا.. بحسب ورقةٍ أعدها الجيش؛ فالكلفة السنوية تُقارب 6 مليارات دولار، فضلاً على حاجاتٍ إضافية عُمرانًا ولوجستيّات، وموارد بشرية بنحو 5 ألوية، وفرق هجومية ودفاعية ستضغطُ على الهياكل النظاميّة فى قيادتى الشمال والوسط، ما يعنى تراجُعَ الكفاءة تجاه حزب الله أو مع أيّة تطوُّرات طارئة بالضفّة، والحلّ إعادة توزيع القوّات والاستعانة بمزيدٍ من الاحتياط للتشغيل اليومىِّ طويل المدى، وهذا يتركُ آثارًا على السوق والإنتاج، فى ظلِّ مُؤشِّراتٍ غير مُتفائلة، وأُفق سلبى تَرجمَه تعديلُ بعض المُؤسِّسات الدولية لتصنيفها الائتمانى. ولعلَّ جانتس بمسألة تجنيد الأُصوليِّين يُحاول سَدَّ الثغرة؛ لكنه فى الواقع كَمَن يُرمِّم شُقوقَ الخَشَب بالجَمر.
للآن؛ لم تتوقَّف أعمال التأهيل العسكرى. يجرى تطوير محور نتساريم الفالق للقطاع، وتوسعته وزيادة قدراته حجمًا ونوعًا، مع إنشاء ثلاثة قواعد قيادة وحزامٍ عازلٍ بنحو 500 متر على كل جانب، ما يسمحُ بأن يكون قاطعًا عرضيًّا حَصينًا، ويُلاقى نقطةَ تفريغ الرصيف العائم على الشاطئ، بجانب تيسير عبور الآليّات بين الناحيتين فى عدّة دقائق. ولعلَّ العودة للشمال فى جباليا ومحيطها من مُقدِّمات الوجود الطويل. وهكذا يبدو نتنياهو كالراقص على حَبلٍ؛ مُتصنِّعًا المَيل لكل ناحيةٍ مرّة. لقد اقتنع بصعوبة البقاء لكنّه يستكملُ لوازمَه، ويَجِدُّ فى إنفاذ خطّة السيطرة على القطاع، بينما يدرسُ البدائل من بوَّابة الميناء الأمريكى أو باقتراحات التركيبة الإقليمية الدولية. وبين الأمرين؛ إمَّا أن يبتلعَ غزَّة بمسؤوليّاتها الأمنية والماديّة، أو يبحث عن شُركاء ومُموّلين راضخًا لشروطِهم الصعبة؛ فالغربيِّون قبل العرب لن يقبلوا وُلوجَ المُستنقع دون أُفقٍ سياسىّ، ولا دون حصانةٍ والتزاماتٍ تُؤمِّن عناصرَهم أوّلاً، ثمّ لا تُهدِّد باندلاع الصراع ليأكل الجهد والمال مُجدَّدًا.
لو فشلت المراوغة؛ فأقصى ما سيحدُث أن ينحلَّ مجلسُ الحرب. تضم التركيبةُ ثلاثةً أساسيِّين: نتنياهو وجانتس وجالانت. هكذا يبدو رئيس الحكومة وحيدًا؛ لكنَّ بقيّة التشكيل فيها أيزنكوت من الوسط، ورون ديرمر من طرفه، وصديقه آرييه درعى زعيم حزب شاس الدينى بصفة غير رسمية. هنا تعودُ له الأغلبية ولو نظريًّا. عليه ضغطٌ من وزير الدفاع الليكودى كما من مُعسكر الدولة، وعليه رقيبٌ توراتىٌّ يُمثِّل مصالح الحريديم. ولا سبيلَ لإبرام صفقةٍ ضمنيّة داخل الكابينت، وعليه الاختيار بين أمرين: مُلاقاة المعارضة بضماناتِ استبقاء الحكومة والإجماع، أو الاحتماء بالحاضنة التوراتيّة واستعادة الصراع العلنى مع المعارضة بأطيافها، وليس من جانب يائير لابيد وحده كما مضت الشهور الفائتة، وفى الحالين ستطالُه أضرارٌ مُزعجة؛ إنما على عادته فى المناورة وشراء الوقت، سيُوازن بين الاحتمالات ويختار أخفّ الضررين؛ لا سيما أن حكومته قضت 18 شهرًا فقط من ولايتها.
افتكاك «جانتس» لنفسه من الائتلاف يُسقِط حكومةَ الحرب؛ لكنه لا يُغيِّر شيئًا آخر.. تظلُّ للتحالف الحاكم أغلبيّةٌ مُريحة بأربعةٍ وستّين مقعدًا، والأحزاب التوراتيّة تبدو للآن مُتمسِّكةً بالحكومة لاعتباراتٍ عدّة، لعلَّ أهمَّها ضعف حُضورها العام وضآلة كُتلتها التصويتية، كما أنَّ استطلاعات الرأى تُقلِّص حصصَها الحالية، ما يجعل فُرصَ وُجودها فى الحُكم شِبهَ معدومةٍ دون الاستناد على نتنياهو. هكذا قد يكون الخطر من داخل الليكود أكبر ممّا يُمثّله الحُلفاء المُتطرِّفون. وتظل للسياسة حساباتها، وأكثرها تُحرِّكه النزوات والرومانسية وتقدير الذات بمبالغةٍ فجّة. عند نقطة مُعيّنة قد تختلطُ الأوراق وتُثار الشكوك بين الجميع؛ فلا يصير الوِفاقُ مُمكنًا مع المُوالاة أو المعارضة، ويسقطُ أطول رؤساء الحكومات بقاءً وأسوأهم أداءً فى فخّ الخيارات السيئة والمواقيت غير المُنضبطة.
عمليًّا؛ إمَّا ينزل على بعض شروط جانتس ويُفاوضه فى بعضها، هذا لو الغطاء الذى وعد به لابيد والمُعارضة ما زال قائمًا، أو يتمسَّك بشرُكائه القدامى ويعود لحظيرتهم الآمنة؛ إنما سيكون عاريًا من أوراق الضغط والتوازُن المتاحة عبر مجلس الحرب. فى الخيار الأول يُمكن أن يُنقذ حكومته ويتخلَّص من التوراتيِّين الذين أربكوا علاقته بإدارة بايدن، لكنه سيكون تحت رحمة جانتس وآيزنكوت دون بدائل أو شبكة أمان مُطمئِنة. وفى الثانى سيفقد حالةَ الإجماع التى منحت الحرب طابعًا وطنيًّا عُموميًّا، لكنّ سُلطتَه لن تهتز وحُلفاءه سيزدادون ثِقةً فيه وتمسُّكًا به، مع قدرٍ أعلى من الإملاءات المُوجعة؛ والأرجح أنه سيختار الأسوأ، أى ما كان عليه قبل الطوفان ويُصرّ أن يظلَّ فيه من بعده.
للجولة نكهةُ الألاعيب الأمريكية، خصوصًا أن لاعبَها قريبٌ لها ومحسوب عليها؛ لكنَّ ثمّة احتمالاً آخر مُغايرًا تمامًا؛ وإن كان بعيدًا.. لا يُمكن بالكُلّية استبعاد فرضيّة توزيع الأدوار بين مُكوِّنات الكابينت، وخَلق ضغوط سياسية وشعبية من الداخل لتسريع وتيرة الحرب؛ لا سيما أنَّ أوّل أربعة شروط لا تبتعد كثيرًا من مسارات نتنياهو الجارحة. وحتى تحرير الرهائن؛ هناك فريقٌ يرى أنه يُستَحسَن أن يكون بالتفاوض تحت النار، ثمّ تصفية حماس وتعقيم غزّة والسيطرة عليها وتثبيت جبهة الشمال، كلها أُمورٌ عسكرية لا سياسية. صحيح أنّ سوابق الخلافات ليست وَهمًا أو اختلاقًا، ومساحة وِفاقهما أقلّ من المطلوب للاشتراك فى مسرحية؛ لكنَّ لُعبةَ الضغط وعَضّ الأصابع لغايةٍ مُشتركة يمكن أن تحدث بين الخصوم، فيتّفقان فى هدفٍ واضح، ويُراهن كلٌّ مُنهما على مآلاته المُتباينة. وإن كان الاحتمالُ ضعيفًا وأبعدَ من طبيعة شخصيتيهما؛ إلَّا أنه يظلُّ واردًا ومقبولاً، والجَزم بصحّته أو خطئه، وغيره من التفسيرات، يبقى مُعلَّقًا على ما تُنتجه الأيام المقبلة بالكابينت وخارجه، ومع الشارع والأمريكيِّين أيضًا.
ربما لم يبدأ العدُّ التنازلىُّ للكابينت فحسب؛ بل لنتنياهو أيضًا. جانتس يطرح نفسه بديلاً، والاحتفاء الإعلامى المُواكب لتهديده المشروط؛ حتى فى كثيرٍ من المنصَّات العربية، يُحذِّر من فَخٍّ يكاد يقع فيه الضحايا وداعموهم. إنّه فصلٌ مُركَّب من الخديعة؛ إذ يُعيد ترتيبَ الأجندة نفسها بوَازعٍ مُضلِّل على طريقة السحرة فى عُروض الخداع البصرى، ومن جانب آخر يُقدِّم نفسَه وجهًا مُعتدلاً، انتدبته اللحظة لاحتواء فوائض الجنون وترويضها. ومَكمنُ الخطورة أنه أقربُ ما يكون لمسؤول العلاقات العامة فى مهمَّة غَسل السُّمعة، وقد يتمكَّن من تمرير اللعبة وإعادة تجديد السردية، فيُكسِب إسرائيل فسحةً لدى الرأى العالمى، ويُغلق الدفاتر على سوابق الجرائم، فاتحًا الباب لواشنطن والغرب أن يُنعشوا انحيازَهم، ويدفعوا القضية مُجدَّدًا لزَواريب الشعارات والترضيات المعنوية. لو كانت لفلسطين مصلحةٌ داخل الكابينت؛ فإنها استمرار النزاع بين صقوره، وليس حسمه ضدّ طرفٍ، أو تعويم الآخر على هيئة المُعتدلين والحمائم.
ينتمى جانتس للوسط؛ لكنه يقف أقصى يمين نتنياهو. لقد طالب فى ورقته بالحرب والدمار وإفناء حماس، وتمسَّك باجتياح جنوبىِّ القطاع، وردَّد المزاعم البائسة عن تأهيل المقاومة لنفسها عبر معبر رفح. إنه نزاعٌ على المكانة، لا على السياسة والأيديولوجيا؛ وهنا يستقر الفخّ.. كأنه محاولةٌ لتصفير العدَّاد دون انحرافٍ عن الطريق أو تقليصٍ للسرعة. وكأنَّ فارق المعارضة والحُكم فى لُغة الخطاب لا فحواه، وفى الخلاف على التصريح بالثابت القومى والنصّ التوراتى، أو تلوينهما بنكهةٍ علمانيّة أقلّ فجاجةً وعُدوانا. صارت الطبقة السياسية الإسرائيلية تأكل من طبقٍ واحد؛ بل الدولة كلها توحَّشت فى يمينيّتها المسعورة، حتى أن السبيل لمُعارضة نتنياهو وانحطاطه أن تأتيه من يمينه، وتُزايد عليه فى قوميّته وإيمانه بنبوءات أشعياء؛ وإن تطلَّب الظَّرفُ صياغتها بمُعالجةٍ مُحدَّثة وأداءٍ عصرى، وبإنجليزيّة مُخادعة كما يحب الأمريكيون. لهذا فأقربُ صورةٍ يُمكن أن يُرَى عليها جانتس أنه «حصان طروادة»، لعلَّه يتّخذ شكل فرخ حمامٍ وديع؛ إنما فى باطنه صقورٌ وأفاعٍ، وذاكرةٌ صهيونية مُخضّبة بالدم؛ كما بدأ الصهاينة فكرَتهم، وكما يُريدون لها أن تبقى حتى مثواها الأخير.