فى هذا المقال، رقم 7 من سلسلة إزاحة الغبار، وإزالة التشوهات المتعمدة، بغرض الإساءة، أو من باب الولع والعشق البعيد عن العلم والعقل والمنطق، عن كاهل الحضارة المصرية العريقة، التى أشاعت النور للعالم، وسطرت نموذجا تعريفيا يحتذى به فى مختلف المجالات والعلوم، ولم يترك المصرى القديم شيئا كان صغيرا قبل الكبير، إلا وكان له بصمة واضحة ومتفردة ما زالت تثير اهتمام ودهشة وإعجاب العالم بأثره، فإننا نتطرق اليوم للإجابة عن السؤال المهم والذى اختلف عليه الولعون بتاريخ وآثار مصر، وهو: هل الملك أمنحوتب الرابع، وكنيته «إخناتون» نبى من أنبياء الله؟ إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن القرآن الكريم ذكر 25 نبيا، لكن هناك عددا آخر لم يذكرهم، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى فى سورة غافر: «ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون».. صدق الله العظيم.
وأرسل الله تعالى رسلا إلى كل أمة من الأمم، وقد ذكر أنهم متتابعون، الرسول يتبعه الرسول، وقال سبحانه وتعالى فى صورة المؤمنون: «ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون».. كما قال المولى عز وجل فى سورة فاطر: «إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير».
إذن هناك رسل لم يذكرهم القرآن، وحسب بعض الأحاديث الصحيحة، الواردة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عددهم كبير، ففى مسند الإمام أحمد عن أبى ذر رضى الله عنه قال، قلت يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: «ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا»، وفى رواية أبى أمامة قال أبو ذر، قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، والرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا».
تأسيسا على ذلك، فإن بعض الباحثين فى علم الأديان، جنحوا إلى الظن ببعض الشخصيات التاريخية، أنهم أنبياء لم يذكرهم القرآن، وتنطبق عليهم المعايير التى تنطبق على الأنبياء والرسل المذكورين، مع الوضع فى الاعتبار أن علم الأديان عبارة عن دراسة علمية وموضوعية تتناول ديانات العالم الماضية والحاضرة، تتوخى معرفة الديانات فى ذاتها، واكتشاف نقاط التشابه والاختلاف فيما بينها.
من بين هؤلاء الذين يحاول الباحثون فى علم الأديان، التأكيد على أنه نبى، هو الملك أمنحوتب الرابع، الملقب بـ«إخناتون» وهو أحد ملوك الأسرة الثامنة عشر، انطلاقا من أن هناك صفات للنبوة، عدد كبير منها ينطبق على الملك «إخناتون»، أبرزها أن ما من نبى إلا ويحمل رسالة دينية جديدة، يبشر بها بين قومه، وما من نبى إلا وتعرض للاضطهاد، ثم الهجرة إلى مكان جديد، ويؤسس مدينة جديدة، تنطلق منها دعوته.
وإخناتون، فى العام السابع من حكمه، بشّر بديانة جديدة تدعو للتوحيد وعبادة الإله «أتون»، منقلبا على «أبو الآلهة» حينذاك «آمون رع»، مما دفع الكهنة إلى الوقوف ضده بقوة، مستخدمين نفوذهم، لمنع التبشير بهذه الديانة، واضطهاد أتباعها، وتضييق الخناق عليهم، ولم يجد «إخناتون» سبيلا أمام الحرب الضروس ضده سوى الهجرة من طيبة «الأقصر» جنوبا إلى «تل العمارنة» بمحافظة المنيا شمالا.
وبمجرد أن وصل تل العمارنة، أسس معبد الشمس، لعبادة إله واحد «أتون رع»، ثم ولأول مرة فى تاريخ المصريين القدماء، منذ الأسرة الأولى، يسمح ملك ببناء بيوت للفقراء لتجاور قصور الملوك والأمراء والنبلاء، فى رسالة مساواة بين العباد.
وزهد إخناتون، الحكم، وظل يتعبد فى معابد الشمس، تاركا إدارة شأن البلاد داخليا وخارجيا يقتسمها رجال بلاط قصره مع والدته الملكة «تى»، فتشتت القرارات وتقسمت مصر داخليا ما بين كهنة «أمون رع»، الذين حكموا طيبة فى الجنوب، والملك الشرعى الذى انشغل بفلسفته الخاصة وإصلاحاته الدينية، ومصر كانت حينها إمبراطورية ممتدة من أعالى النيل والنوبة جنوبا، وبابل وبلاد الشام آسيويا.
التبشير بالديانة الجديدة، وجوهرها وفلسفتها الرامية للتوحيد، وأن هناك إلها واحدا يمنح الحياة للبشر والنباتات والحيوانات، وكل الكائنات الحية، ثم تعرضه للاضطهاد، وقرار الهجرة فى جنح الليل، وعند وصوله بنى معبدا، ثم مدينة قائمة على العدل والمساواة، وأخيرا، الزهد فى الحكم والمُلك، كلها أسباب دفعت للتأكيد أنها علامات بارزة للنبوة، ومن ثم ربما يكون إخناتون نبى، من الأنبياء الذين لم يذكرهم القرآن.. والله أعلى وأعلم!
لكن.. ورغم كل الأسباب التى سردناها، والصفات التى تدفع بأن إخناتون نبى، يتبقى أمر جوهرى، وهو أن الكتب السماوية الثلاثة لم تذكر شيئا عن إخناتون.. وهنا نعيد التأكيد على خطورة إقحام التاريخ، المنتج البشرى، فى الأديان السماوية، المنتج الإلهى، والعكس.
وللحديث بقية إن شاء الله.. إن كان فى العمر بقية!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة