نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "تجربة بنك الفقراء" لـ مجدى سعيد، ونتعرف معه عن تجربة محمد يونس ومشروعه الذى حصل على جائزة نوبل فى سنة 2006.
يقول الكتاب فى مقدمته: حول الفقر وقصة إنشاء بنك الفقراء:
يعد الفقر من أهم وأخطر المشكلات التي واجهت البشرية في مسارها التاريخي الطويل، وما زالت تواجهها في وقتنا الحاضر على امتداد الكرة الأرضية، إنه الكابوس الذي يؤرق البشرية ويقض مضجعها، والخرق الذي يتسع لما يزيد عن 1300 مليون من البشر على الأقل يعيشون تحت ما يسمى بخط الفقر، والذي حاول الراتقون هنا وهناك أن يلملموا أطرافه.
وليس الفقر مشكلة اقتصادية أو اجتماعية فقط؛ بل إنه مشكلة سياسية وثقافية وأخلاقية وأمنية وإسكانية وصحية، وفوق كل ذلك وقبله فهو مشكلة إنسانية تهز وجدان كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"، خاصة إذا ما تجاورت صور البؤس والحرمان والشقاء التي يعيشها الفقراء مع صور السرف والترف والسفه التي يعيشها بعض الأغنياء... فقر مدقع مع غنى فاحش في سياق من الظلم والفساد.
وإذا كان الفقر مشكلة عالمية كما قلنا، فإنه مشكلة أوسع وأفدح فيما يعرف ببلدان العالم النامي التي تضم فيما بينها أغلب بلاد المسلمين إن لم يكن كلها، وبنجلاديش إحدى هذه البلدان التي تعد من أفقر دول العالم رغم أنها من بين أكثرها وفرة في الموارد البشرية حوالى مائة وعشرين مليوناً)، كما أنها تتمتع بتربة شديدة الخصوبة تتوافر فيها مصادر دائمة للمياه.
ومن بنجلاديش هذه من قمة المأساة خرجت تجربة بنك جرامين Grameen Bank وتعني بنك القرية (أو بنك الفقراء كما عرف في مصر كتجربة إبداعية رائدة في محال مكافحة الفقر، ويرجع الفضل في تأسيس البنك إلى الدكتور "محمد يونس"، أستاذ الاقتصاد في جامعة شيتاجونج، الذي يحكي قصة الفكرة متى وكيف نشأت فيقول:
في عام 1972م - وهو العام التالي لحصول بنجلاديش على استقلالها - بدأت تدريس الاقتصاد في إحدى الجامعات، وبعد عامين أصيبت البلاد بمجاعة قاسية، وكنت أقوم في الجامعة بتدريس نظرية التنمية المعقدة، بينما كان الناس في الخارج يموتون بالمئات، وفجأة بدا لي الاقتصاد التقليدي فارغا، وأن فصول الدراسة عالم منفصل عن واقع الفقر والكفاح خارج الجامعة، فتركت الجامعة وانتقلت إلى قرى بنجلاديش.
بدأت أكلم الناس الذين كانت حياتهم صراعاً لا ينتهي من أجل البقاء، وتعلمت أشياء لم تقابلني أبداً في الكتب والمراجع، قابلت امرأة كانت تعمل بجد في صنع مقاعد من البامبو، وفي نهاية كل يوم كانت تحصل على قرشين فقط يكفيان بالكاد للحصول على وجبتين، لم أستطع أن أفهم كيف يمكن لشخص أن يعمل بكل هذا الجهد لكل هذا الوقت وفي النهاية لا يحصل إلا على المبلغ الضئيل، واكتشفت أنه كان عليها لكي تشتري المواد الخام أن تقترض من تاجر، كان يأخذ أغلب النقود ولا يترك لها سوى القليل، وأدركت أنه لو أتيحت لها النقود التي تحتاج إليها بسعر الفائدة العادي لاستطاعت أن تحقق مكسباً أكبر، وأن تهرب من الفقر.
وقد تكلمت مع اثنين وأربعين شخصاً آخرين في القرية ممن كانوا واقعين في فح الفقر؛ لأنهم يعتمدون على قروض من التجار والمرابين، وكان كل ما يحتاجون إليه التماناً قدره 30 دولاراً فقط، فأقرضتهم هذا المبلغ من مالي الخاص، وفكرت في أنه إذا قامت المؤسسات المصرفية العادية بنفس الشيء فإن هؤلاء الناس يمكن أن يتخلصوا من الفقر، إلا أن المؤسسات المصرفية التقليدية لا تقدم قروضاً للفقراء، وخاصة للنساء الريفيات.
وقد سدد الفقراء الذين تعاقدوا على هذه القروض أقساطهم، وعدت مرة أخرى للبنوك لأريهم ذلك كدليل على أن الفقراء يسددون ديونهم، وأنه لا ضرورة للإصرار على الضمان، ولكن رجال البنوك قالوا: إن هذا قد ينجح في هذه القرية، ولكنه لن ينجح في قرى كثيرة أخرى، وحربت نفس الخطة في قرى عديدة، وسدد كل الفقراء الذين اقترضوا أموالاً ديونهم، وذهبت مرة أخرى للبنوك فقالوا: إن هذا قد ينجح في بعض القرى، ولكنه لن ينجح في مقاطعة بأكملها، فقمت بتوسيع
الخطة لتشمل كل المقاطعة، ولكن البنوك رفضت الاقتناع. ثم قلت لنفسي : لماذا أجري وراء رجال البنوك ؟ لماذا لا أحل المشكلة بإنشاء بنكي الخاص؟ وهكذا طلبت من البنك المركزي ومن الحكومة التصريح لي بإقامة بنك خاص للفقراء، وقد استغرق ذلك وقتاً طويلاً، ولكن في النهاية وافقت الحكومة على التصريح لي بذلك في 1983م، وولد بنك جرامين كينك مستقل "بنك للفقراء".
هذه هي قصة ميلاد بنك جرامين Grameen Bank الذي أقدم تجربته الإبداعية لكل مهتم بخدمة المجتمع، ولكل رجال الاقتصاد الإسلامي وغير الإسلامي، عسى أن تستثير فيهم التحرية روح العمل والإبداع لصالح الفئات الكثيرة المهمشة في المجتمع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة