اصطُنِعت محنةُ فلسطين بالقانون؛ لذا لن تُدَاوَى إلَّا به، طال الوقتُ أم قصُر. لكنَّ المشكلة أنَ الخصمين ينظران له من زاويةٍ انتقائية؛ فالجانى تقبَّل قضاء التأسيس ثمَّ أغلق البابَ خلفه، والضحيّة يعيشُ تناقضًا عميقًا وطويلَ المدى بين رفضه أحكام الماضى، وطلبه الآنىّ لتصحيح الأوضاع بالآليّة نفسها. وفلسفة التشريع أن يكون عُموميًّا مُجرّدًا، وألَّا ينطلق من حساباتٍ استباقية تستحدثُ أحكامًا مُتباينة للقضية الواحدة. وما يحدث عمليًّا أنَّ البيئةَ الدولية المنوط بها إحقاق العدالة، لا أنفَذَت إرادتَها القديمةَ بمُقتضاها، ولا سدَّت الطريق على تخليق انحرافاتٍ جديدة. وحتى اللحظة تبدو إسرائيلُ بلدًا ناقصَ الشرعية؛ لأنها أخذت جزءَ الدولة اليهودية من التقسيم وتركت بقيَّة القرار الأُمَمىّ؛ ويبدو الفلسطينيون عاجزين عن استيعاب المفارقة: الهزيمة الأولى تتأسَّس عليها كلُّ الهزائم اللاحقة، وإنكارها فى السابق وإلى اليوم، يحولُ دون تحويلها إلى قاعدةٍ ثابتة للمشروعية والخصومة المُتكافئة، أمَّا الأخطرُ فعَدَم الاقتناع بأنَّ العالم مُصاب بالرمد والاستجماتيزم وكلِّ اعتلالات البصر، ولا ينظر بعيوننا؛ وبالتبعية فإنه لا يرى ما نراه أحيانًا، بل وينكره علينا غالبًا، وسنكون دائمًا مُضطرّين للتعامل مع تلك الحقيقة الظالمة.
المأساةُ أننا سُحِبنا إلى صراعٍ من دون سقف، ونجهلُ، أو بالأحرى نتجاهل، أنَّ الأنصبةَ العادلة تتوزَّع وقتَ تصفية التركة، لا قبل تشييع الميِّت أو وسط احتدام الخلافات بين الورثة. والمعنى؛ أن المُساءلة والحساب يأتيان دائما فى ختام مواسم الأخطاء، ولم يسبق أن فُتِحَت الدفاترُ وأُقِيمت العدالةُ فى زمن الحرب. هكذا يبدو استخلاصُ الحقوق والثارات القديمة محكومًا بفضّ الاشتباك وتصفية أسبابه التأسيسية، وكلُّ مُقاربة تحت النار أقرب للخديعة وتلطيف الحرارة وامتصاص فوائض الغضب؛ وليست بحثًا مُخلصًا ودؤوبًا عن حسمٍ ضائع فى ميدان القتال، وأضيع منه فى ميادين السياسة. والحال أنَّ القضية الفلسطينية ستظلُّ مُعلَّقة فى فراغٍ عظيم؛ كلّما قطعَ السلاحُ خطوةً للأمام يأكلُها القانون، وكلَّما بشَّرت القوانين بأُفقٍ مُشرقٍ تُغيِّمه السياسة. وفى كلِّ الحالات؛ تهدينا الباقةُ الواحدة وردةً تُطيِّب الخاطر، وشَوكًا يُدمِى الأَكُفَّ ويُوقظ فينا الأسى والألم. إننا لا نخسرُ على طول الخطِّ كيفما يُريد لنا العدو، كما لن نربح، حسبما نُريد لأنفسنا، على طول الخطِّ أيضًا.
توصَّلت تحقيقاتُ الادِّعاء بالمحكمة الجنائية الدولية إلى ارتكاب خروقاتٍ فى حرب غزة، الناشبة منذ ثمانية أشهر تقريبًا، وأعلن المُدَّعى العام كريم خان رغبتَه فى مُلاحقة خمسة مُتّهمين مُحتملين: اثنين من إسرائيل وثلاثة من فلسطين. انقلبت الدنيا، وتوزَّعت ردودُ الفعل بين الرفض والامتداح، أمَّا القبول فغاب تمامًا؛ لأن طرفى المُنازعة يعترضان باللغة نفسها تقريبًا. والتحفُّز العالى لا يستبِقُ المسارَ الإجرائىَّ الطويل فحسب؛ إنما يأخذُ المسألةَ بجدِّية أكبر ممَّا هى عليه بالفعل.
الأمرُ لا يعدو نطاقَ الرغبة الإيجابية، وقد تُرجِمَت فى مُذكِّراتٍ تأسيسيّة مُوجَّهة للدائرة التمهيدية بالمحكمة، ودُونَها سُلَّمٌ صاعدٌ من العوائق المُتضخِّمة درجةً بعد درجة: إمَّا تُرَفَض الدفوعُ ويُغلَق الملفُّ مُبكّرًا، أو يتوّه فى الزواريب شهورًا، وربما سنوات؛ حتى ليَصِيرَ المطلوبون أثرًا فى تركيبة السلطة أو فى الحياة نفسها، ولو صدر القرارُ فلا سبيلَ لإنفاذه، والمحاكمةُ نفسُها ربما تستغرقُ عقودًا، وعبور كلِّ هذا إلى الإدانة لن يُثمر تغيُّرًا فاعلاً فى تركيبة الصراع وطبيعته، كما لن يستخلص كُلفةَ الذنب من المذنبين.. للمحكمة طبيعةٌ رمزية أكثر ممَّا نتصوُّره فيها من قوّة فعلية، ولا تملك جهازًا تنفيذيًّا أو آلية لتنفيذ العقوبات، كما لا تُرتِّب التزاماتٍ على الدول أو المُؤسَّسات التى ارتُكِبَت الخطايا من داخلها. باختصار؛ خسارةُ الاحتلال معنويّةٌ تمامًا، ومكاسبُنا أيضًا. وليس معنى ذلك أنَّ الخطوة غير مُهمَّة؛ إنما المقصود أن نراها على حقيقتها، حتى لا تأخذنا الأحلامُ الورديّة ولا نتقلَّب على جَمر الأمانى.
استكشافُ الجذور التاريخية للمسألة يرُدُّنا وجوبًا إلى زمن الحرب العالمية الثانية. ارتُكِبَت الفظائع وقتها من كلِّ الأطراف؛ لكنَّ مُخرجات الميدان ومنطق سيادة المُنتصر علَّقَا الجرسَ فى رقبة دول المحور، وجزء القومية الفاشية منها بالتحديد. من هنا عُقِدَت محاكمات نورنبيرج لقادة النازية، ومهَّدت بعدها لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمُعاقبة عليها. تأسَّست محكمةُ العدل الدولية لتكون جهازًا أُمَميًّا لتعقُّب الحكومات، ومن رَحم الثغرات المُتَّسعة بين الدول ومُواطنيها جاءت «الجنائية الدولية»، لتكون الذراعَ المعنيّة بالأفراد وجرائمهم. وبعيدًا من المُدوَّنة الحالية وما فيها من سوابق القضايا؛ فقد اعتبر اليهودُ، والصهاينة بالضرورة، أنهم الآباء الشرعيِّون لنظام التقاضى الدولى، وأصحابُ حقٍّ أبدىّ فى مظلَّته، ومُحصَّنون وجوبًا من مُلاحقته لهم؛ تعويضًا عمَّا عانوه أو يرون أنهم عانوه سابقًا. بدا ذلك واضحًا فى رُدود فِعل الإسرائيليين على التلويح بورقة لاهاى فى وجوههم، وخلال تقديم جنوب أفريقيا لدعواها بشأن غزّة قبل شهور، كما تجلَّى بأعلى صوره صَخبًا بعد الحديث عن مُذكَّرات كريم خان الأخيرة.
بُنِيَت الجنائيّةُ الدولية على سَلفين كبيرين: محاكمة جرائم الصرب فى يوغوسلافيا، والنسخة الثانية للمُتورِّطين فى نزاع رواندا العرقىّ. كلاهما بدأ منذ التسعينيّات، وكان حافزًا على صياغة نظام روما الأساسى الذى اكتسبت المحكمةُ كيانَها المادىَّ بموجبه. وبالفلسفة والنشأة أُرِيدَ لها أن تكون ملاذًا أخيرًا، تسبقه أنظمةُ التقاضى الوطنية فى الترتيب والولاية. الفكرةُ أنَّ النزاعات لا تذهب إلى لاهاى إلَّا بغياب الآليّة أو الرغبة فى المُعاقبة الوطنيّة عن جرائم الحرب، وهى محكومةٌ بالاختصاص الإقليمى وليست لها ولايةٌ عالمية؛ بمعنى أنه يُشتَرَط أنْ يكون أحد طرفى النزاع أو مكانه تحت مظلَّة دولةٍ مُوقِّعة على البروتوكول، أو ترتضى تفعيله ما لم تكن عضوًا، أو بالإحالة المُباشرة من مجلس الأمن. وعمومًا لا يحقُّ لها بحثُ القضايا بأثرٍ رجعىّ، وحَدُّها الزمنىُّ يبدأ من تاريخ تفعيلها فى يوليو 2002، وتلتزم بالامتناع عن نظر الموضوعات التى خضعت للتحقيق من دولة ذات ولاية؛ ما لم يَثبُت غيابُ النزاهة أو أنَّ غرضها التعمية والتضليل وحماية المُتهمين.
يصعُب التوقُّف أمام نجاحاتٍ جنائيّة دولية خارج قضيِّتى الصرب والروانديين، ويُمكن القول إنَّ المحكمة لأكثر من عقدين على تأسيسها لم تُحقِّق اختراقاتٍ ملموسةً فى مسائل إنسانية عديدة، رغم تزاحُم النزاعات والجرائم.. سبق أن لاحقت الرئيس السودانى عمر البشير بدءًا من 2008، على خلفيّة الانتهاكات المُرتكَبة بحقِّ المدنيِّين فى إقليم دارفور، ثمَّ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بدءا من مارس 2023 اتّصالاً بالحرب الأوكرانية التى اندلعت قبلها بعام. ويبدو البُعد السياسىُّ حاضرًا بقوّةٍ فى المسألتين؛ لا سيِّما إذا قُورِنتا بالانتهاكات الموصوفة بحقِّ الجيش الأمريكى فى العراق وأفغانستان مثلاً، وفى مُعتقَل جوانتانامو بالجزيرة الكوبية. والمُفارقة أنَّ المُدّعية العامّةَ السابقة فاتو بنسودا طلبت فى 2017 الإذنَ بالتحقيق فى جرائم مُحتمَلة من طالبان والقوات الدولية والحكومية الأفغانية خلال النزاع منذ 2003، وقُبِرَت المسألةُ فى المهد أو بطُول المُماطلة.
الملاحظاتُ السالفةُ وغيرها لا تخصِمُ من قيمة الخطوة وتأثيراتها المستقبلية. إنَّ فلسطين من نزاعات النَّفَس الطويل، وتُكسَبُ فيها الجولاتُ بالنقاط والتراكُم، وتتعدَّل الأوضاعُ على طريقة أحجار الدومينو؛ فما يسقطُ على مَقربةٍ منك ويكون ضئيلاً وغير مُرضٍ، ربما يتسبَّب بعد زمنٍ فى إسقاط قطعٍ ضخمة بعيدة، كنتَ تظُنّها عَصيَّةً على السقوط. وعلاقةُ الأرض المُحتلَّة بالجنائية الدولية نفسِها تُترجِم تلك الحقيقة بجلاء؛ فقد طلبت السلطةُ فى رام الله خلال العام 2009 أن تضطلعَ المحكمةُ بالتحقيق فى الجرائم الإسرائيلية الواقعة ضمن ولايتها الزمنية، أى منذ 2002. وبدورها أخذت وقتًا فى المُداولة قبل أن تفتحَ الملفَّ بعد ثلاث سنوات، وتطلب إفاداتٍ من الأجهزة الأُمَميّة والدول الأطراف. استُوفِيَت معاييرُ التحقيق بعد فحص الوقائع والشُّبهات، إنما بَقِيت مسألةُ الاختصاص مُعلَّقةً دون حسم. ثمَّ كان المُتغيّر الأكبر بالعام 2012 عندما رُقِّيَت فلسطين بالأُمَم المُتّحدة لوضعية «دولة مُراقب غير عضو»؛ فاعتبرتها المحكمةُ مُؤهَّلة للانضمام إلى بروتوكول روما، ووقَّعته بالفعل فى 2015؛ لتدخُل فى نطاق الولاية المكانية للقُضاة الجنائيِّين. وبعدما كانت تل أبيب تُغلق الباب من البداية بذريعة أنَّ الطرفين، هى والفلسطينيين، خارجَ العضوية والولاية، صارت تتذرَّع بأنَّ فلسطين لا سيادة لها.. والمشهد الحادث اليوم تكرارٌ لما كان قبل تِسع سنوات، فقد أدان وزير الخارجية الأمريكى وقتها مايك بومبيو نظرَ الانتهاكات الإسرائيلية، وزَمجَر نتنياهو وهدَّد، واعتبره يومًا أسود للعدالة ومُعاداةً صريحةً للسامية، واصطفَّت ألمانيا وأستراليا والمجر بجانب الصهاينة لتَعلُّلاتٍ شتّى، أردأها إنكار الاختصاص، وأشدّها وقاحةً اتهامات التسييس أو الدعوة لحَسم النزاع عبر المفاوضات؛ كما لو كان خلافًا مُروريًّا لا سقطات حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تُراوغ إسرائيل طوالَ الوقت بأنَّ نظامَها القضائىَّ يفحصُ اتّهامات جرائم الحرب ويُعاقِب عليها. وفى الواقع فقد اتَّخذت من المحكمة العُليا وبقيَّة الأجهزة العَدليّة منصّةً لتضليل العالم وتبرئة جنودها. وكانت تلك النقطةُ فى صُلب الخلافات العميقة على مشروع نتنياهو وحكومته لإصلاح القضاء، وسبب اعتراضات العسكريِّين وإضراب آلاف من طيَّارى الاحتياط والعاملين ببقيّة وحدات الجيش. أرادت الخطَّةُ المدفوعةُ من اليمين القومى والتوراتى تقليصَ سُلطة القضاء على البيئة السياسية، والحدّ من رقابته المُشدَّدة على أعمال الحكومة، أو أن يلعب دورَ الحاكم الأعلى، من خلال قراءته لقوانين الأساس، فى غياب الدستور المكتوب للدولة. طُرِحَ الأمرُ عبر تشريعٍ بإلغاء «حجّة المعقوليّة» التى تسمحُ بتعطيل القرارات التنفيذية غير المنطقية، وكان مُخطَّطًا أن يتوسّع لإعادة هيكلة العمل القضائى بكامله. أمَّا مناط الاعتراض فأنَّ الرؤيةَ الجديدة تمسُّ استقلالَ المحاكم ونزاهتها، ومن ثمّ لا تعودُ أحكامُها مقبولةً أو مُقنعةً للأجهزة الأُمَميّة؛ فينفتح البابُ على مخاطر توقيف الضبّاط ومحاكمتهم دوليًّا عن جرائم الحرب. وتلك النقطة تحديدًا أهمّ ما فى التحرُّك الأخير.
استهدف كريم خان رئيسَ الحكومة ووزير دفاعه من جانب إسرائيل، والسنوار والضيف وهنيّة من ناحيةِ حماس. وقال فى بيانه إنه يجدُ مُبرِّرات معقولةً لاتّهامهم جميعًا بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تطال الاثنين الأوَّلين باتهامات القتل العمد، واستهداف المدنيين، والتجويع والاضطهاد وتعمُّد الإضرار الجسيم بالصحة، وأفعال أُخرى ارتُكِبَت ضمن هجومٍ منهجىٍّ واسع النطاق وما زال مُستمرًّا، وتنسبُ للثلاثة الباقين المسؤوليةَ الجنائية عن أعمالٍ مُرتكَبة بدءا من 7 أكتوبر فى الأراضى الإسرائيلية والفلسطينية. وبجانب الإدانة الأمريكية المُتوقَّعة، التأم كابينت الحرب ليجمع توقيعاتٍ ضد القرار، وعاد إجماع الأغلبية والمعارضة، وفى المقابل انتقد الحماسيِّون ما اعتبروه «مساواة بين الضحية والجلاد».. والحال أنه لا يُمكن فعلاً تثبيت الطرفين تحت لافتةٍ واحدة؛ لكنَّ الجمع بينهما يعود لرغبة المُدّعى العام وفريقه فى المناورة والإفلات من الاستهداف، من باب الإيحاء بالتجرُّد والحياد، وأنَّ القانون ينظرُ للخصوم من زاويةٍ واحدة، ويطرحُ اتّهاماته الظَّنيّة على طاولة الفحص والتحقيق من مواقع مُتكافئة. لعلَّه أراد بالسنوار ورفاقه أن يُمرِّر نتنياهو وجالانت، وتقصَّد الاختلال العددى لتأكيد هذا؛ رغم اتّصال الجريمة بآخرين مَعنيِّين بالأصالة، مثل: رئيس أركان الاحتلال هرتسى هاليفى، ورئيسى الموساد والشاباك ديفيد بارنياع وأهارون هاليفا، وقائمة طويلة من قادة المناطق والأولوية والمُقاتلين الميدانيين على الأرض فى غزّة.
لن تُثمِر القضيةُ إدانةً أو قصاصًا؛ إنما ستُلقِى ضغوطًا ثقيلة على إسرائيل ورُعاتها، وستُقوِّض حركةَ الحكومة اليمينية المُتطرِّفة بالداخل والخارج، وتُرهِق المُنحازين بنزيف الاتّساق والقِيَيم، وحال أفضت دعوى محكمة العدل الدولية لتدابير ظرفيّة مُقبلةٍ؛ سيكون متاحًا تطويق كُرة النار وبدء إطفائها. هكذا تبدو الخطوةُ مُقدِّمة لوَقف الحرب، أو على الأقل إبطاء وتيرتها، وتعرية مُبرِّراتها تمامًا حتى بين مُعتنقيها. والقيمةُ الأغلى أنَّ المذكّرة بمثابة إدانةٍ مُباشرة للدولة العبرية لا لأفرادها؛ لأنها تتّهم أرفعَ رموزها خلال وجودهم فى السلطة، وتطعنُ عَلنًا وضِمنيًّا فى محاكمها، ودعاياتها الأخلاقية وما تُرافقها من سرديَّات المدنيّة والتحضُّر وتمثيل مصفوفة المُثُل الغربية فى أعلى نضوجها. لدى تل أبيب جهازٌ قضائىٌّ ينسحبُ قصورُه على البلد بكامله؛ أمَّا «حماس» فمُجرّد حركة مُقاومة تُمثِّل نفسَها، وتختصم حكومتها الشرعيّة، كما تفتقدُ لهياكل الحَوكمة والضبط والتقاضى، ومن ثمّ لن تمسَّ الخروقاتُ المنسوبةُ لها صورةَ فلسطين وقضيّتَها العادلة. وإذا كان لدى المطلوبين الصهاينة ما يخشون منه؛ فخُصومهم بين الأنفاق والمنافى، رقابُهم مطلوبةٌ أصلاً، والتوقيف ربما يكون أقلَّ وألطف ما يُمكن أن يُصيبهم.
ربما تنتهجُ تل أبيب مسارًا انتقاميًّا؛ يُحتَمَل فيه التصعيدُ العسكرى فى القريب، أو السعى لتفكيك السلطة ودَفن آخر ما تبقَّى من تفاهمات أوسلو. إنما لن تترُك انفعالاتُها الوقتيّةُ أثرًا طويل المدى؛ لأنه كُلّما تقوَّضت سلطةُ الاحتلال الأخلاقية وصورته بين العالم؛ يكتسبُ الفلسطينيون أرضًا إضافية ولو سُلِبُوا القليل الذى فى يدهم.. وإذا كان اعتراضُ الحماسيِّين على التحرُّك طبيعيًّا ومفهومًا؛ فالواجب أن يحذروا خطورةَ المساس بحجّية الورقة الجنائية وقيمتها القانونية؛ انحيازًا لتبرئة أنفسهم ولو شملت البراءةُ عدوَّهم.. والمعنى أنه قد يتعيّن أحيانًا قبول مُساواة الضحيّة بالجلاد، هذا لو كانت «حماس» ضحيّة فعلاً وليست شريكًا؛ لا لشىءٍ إلَّا أنها لن تخسر أكثر ممَّا أصابها بالفعل، ولأنه لا سبيلَ لإدانة القاتل إلا بتعميم المعايير؛ حتى يتعذَّر عليه الإفلات من غطائها الواسع، أو الطعن فى سلامة الفعل واستقامته وحياده.. ليس فى وسع المحكمة غير ما فعلت، ولا يسمح لها القانون المُجرَّد بإمساك خِناق الصهاينة فى غزّة، وإفلات السنوار والضيف فى غلافها؛ فاللغة التى يُجيدها العالم لا تُفرِّق بين المدنيِّين ولو للميدان رأيًا آخر. والخلاصة؛ أن فلسطين تربحُ مُجدّدًا فى لاهاى؛ لكنه رِبحٌ معنوىّ فحَسب، وعلى حماس أن تتقبَّل خسارتها ولا تُلقِى طوقَ نجاةٍ لغريمها. يفخرُ اليهود بقصّة شمشون؛ إذ هدم المعبدَ على آلاف الغزِّيين. وإذا كان «طوفان الأقصى» فى جوهره عملاً انتحاريًّا؛ فالحركةُ مَعنيّةٌ الآن بدَفع العدو للجحيم، ولو اضطُرّت لأن تخوضَه معه!