تبدو سلسلة الاعترافات الأخيرة بدولة فلسطين، بمثابة انتصار تاريخي للقضية، خاصة وأنها جاءت من دول غربية، وهي أسبانيا والنرويج وأيرلندا، وهي محسوبة من المعسكر الموالي للدولة العبرية، وهو ما يمثل صفعة قوية لحكومة بنيامين نتنياهو، والذي تلاحقه الأزمات، من الداخل، جراء الغضب الشعبي بسبب فشله في تحقيق أهداف المعركة التي يخوضها منذ شهور، والتي دارت حول القضاء على الفصائل الفلسطينية من جانب، وتحرير الرهائن من جانب آخر، بينما يواجه في الوقت نفسه ملاحقة قضائية بعد طلب المحكمة الجنائية الدولية استصدار قرار باعتقاله، ناهيك عن ملاحقة إسرائيل نفسها من قبل محكمة العدل الدولية، ليصبح قرار الدول الثلاثة سالفة الذكر، بمثابة حلقة جديدة من حلقات الأزمة التي يواجهها اليمين الإسرائيلي، باعتبارها مؤشرا مهما على خسارة الحلفاء الأقرب للاحتلال، والذين دأبوا على دعمه لعقود طويلة من الزمن.
وبالنظر إلى المعطيات السابقة، نجد أن ثمة أزمة ثلاثية الأبعاد تواجهها الحكومة الاسرائيلية، تنطلق من الداخل الغاضب، وتمتد إلى العالم الثائر، بينما يتوسطهما ملاحقة قضائية مزدوجة، تلاحق الدولة العبرية على المسار الفردي، من خلال ملاحقة نتنياهو وأعضاء حكومته، من قبل المحكمة الجنائية الدولية، جراء تورطهم في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، بينما يدور المسار الثاني في ملاحقة كيان الدولة العبرية، باعتبارها المسؤول عما آلت إليه الأمور من تهديد للسلم والامن الدوليين، جراء استمرار الاحتلال لعقود، بالإضافة إلى تجاهلها لنداء العالم بوقف إطلاق النار، وتعنتها فيما يتعلق بتمرير المساعدات الإنسانية لسكان القطاع، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن مقتل آلاف البشر، بينما يبقى الاحياء من سكان القطاع تحت تهديد الجوع أو التهجير.
ولعل المستجدات الاخيرة التي شهدتها القضية الفلسطينية، سواء على المستوى الدولي، خاصة بعد اعتراف ثلاثة دول أوروبية بالدولة، أو على المستوى القضائي الدولي، تمثل طفرة كبيرة، ليس فقط فيما يتعلق بمستقل فلسطين، وهو ما يهمنا بالمقام الأول، وإنما أيضا يمثل انتقالا مهما في طبيعة النظام الدولي، والذي بات يتسم بحالة تبدو ثورية، في ظل حاجة ملحة للتغيير والإصلاح، بعدما شهد النظام الاحادي الجانب والقائم على قيادة قوى دولية وحيدة حالة من التفكك، بدت واضحة في العديد من المشاهد التي هيمنت على العالم في السنوات الأخيرة، في ظل أزمات اقتصادية عميقة، وأخرى صحية، مع تفشي وباء كورونا، بالإضافة إلى عودة الصراع الدولي إلى الواجهة مجددا بين روسيا والغرب، ثم جاءت غزة لتقدم الحلقة الأعمق تأثيرا في مسلسل الانهيار الذي تشهده الحقبة الدولية السائدة منذ نهاية الحرب الباردة في التسعينات من القرن الماضي.
التغيير في طبيعة النظام الدولي، في واقع الأمر شهد العديد من المراحل، ربما أبرزها اهتزاز أركان المعسكر الغربي، مع تضارب المصالح بين الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، في العديد من المشاهد في السنوات الماضية، بينما كان عجز واشنطن عن تقديم الحماية لحلفائها الغربيين مع امتداد الصراع الدولي لمناطقهم الجغرافية حلقة أخرى، في حين قدمت أزمة غزة مشهدا جديدا يتجسد في تغيير كبير وملموس في آليات تعزيز الشرعية الدولية، تقوم في الاساس على مسارين رئيسيين، أولهما اللجوء لبدائل لمجلس الأمن،والذي يبقى تحت سيطرة أمريكا، في ظل استخدامها لحق الفيتو لخدمة مصالح حليفتها العبرية، مع الاحتفاظ بالمظلة الأممية، عبر اللجوء إلى محكمة العدل الدولية والتي تبقى أحد أهم مؤسسات الأمم المتحدة، بينما اعتمد المسار الثاني على تفعيل مبدأ الشراكة، وهو ما بدأ خروج قرار الاعتراف بدولة فلسطين بصورة جماعية، ظهر خلالها مسؤولي الدول الثلاثة (إسبانيا والنرويج وأيرلندا) للإعلان معا، دون مباركة القوى الكبرى الحاكمة للعالم، وهو ما يمثل دليلا دامغا على تراجع الثقة الدولية في قدرة واشنطن على القيام بدورها في حفظ السلم والأمن الدوليين.
الخطوة الثلاثية، وإن طغت أهميتها لحظيا في خدمة القضية الأهم وربما الأكبر لعقود طويلة من التاريخ الدولي، إلا أنها ترسم في واقع الأمر خريطة النظام العالمي، على المدى المتوسط، في ضوء تعاظم الدور الذي تلعبه القوى الاقليمية في حسم القضايا الدولية الكبرى، وهو الأمر الذي انطلق من مصر، والتي تعد الخطوة التاريخية، أحد أهم الثمار الناجمة عن جهودها التي بذلتها منذ اللحظة الاولى لبدء العدوان على قطاع غزة في أكتوبر الماضي، عندما نجحت في وضع القضية الفلسطينية برمتها كأولوية على الأجندة الدولية، لتقوض المخطط الإسرائيلي الذي سعى إلى تركيز أنظار العالم على غزة والتهديد القادم منها، وذلك في إطار مساعيها لتقويض الشرعي الدولية القائمة على حل الدولتين.
وأما اللجوء إلى القضاء الدولي، فهو الاخر، يمثل تفعيلا لمبدأ المحاسبة، والذي كان الرئيس عبد الفتاح السيسي أول من نادى به خلال القمة العربية الإسلامية التي عقدت بالرياض، في نوفمبر الماضي، بينما يبقى دخول قوى إقليمية أخرى، على غرار جنوب أفريقيا، على خط النزاع مع الاحتلال هو ثمرة التنسيق بين الأقاليم، وهو ما يبدو في قرار مرافعة مصر التاريخية أولا ثم انضمامها للدعوى بعد ذلك، في حين كان الاعتراف الثلاثي بفلسطين هو ثمرة مهمة للتنسيق مع مصر، حيث كانت أرضها منبرا للإعلان عن نية مدريد اتخاذ الخطوة خلال زيارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز لها قبل عدة أشهر.
وهنا يمكننا القول بأن إصلاح المنظومة الدولية بات يتخذ نهجا منظما، يقوم في الاساس على اللجوء إلى آليات بديلة لتلك التقليدية التي اعتمدت مجلس الامن باعتباره مظلة وحيدة لشرعنة القرار الدولي، بينما أصبحت الشراكة هي الأخرى آلية معتبرة في هذا الاطار، مما يساهم في اضفاء المزيد من الزخم لحقوق الفلسطينيين، وهو ما يمكن أن يتحول إلى مسار أكثر نجاعة في المستقبل.