في كل مجال علمي وثقافي توجد مجموعة من الكتب التي يمكن اعتبارها كتبا أساسية، لا يمكن للمهتم أو المتخصص في المجال ألا يكون قد اطلع عليها بل وعاها وعيا كاملا ونقديا، لكن مع هذه العناوين وربما فوقها توجد كتب لا غنى عنها لأي متخصص أو مثقف، وذلك لدورها في الوعي عموما.
من هذا النوع الثاني يحتل كتاب توماس كون "بنية الثورات العلمية" مكانا مهما وذلك عن طريق نظريته الخاصة التي تناقش كيفية تطور العلم الإنساني عموما، عبر عرض شيق لأهم آليات هذا التطور، تلك الآليات التي تصدق تقريبا على كل فروع العلوم والمعارف الإنسانية.
وقد تمت ترجمة الكتاب إلى العربية في أكثر من ترجمة ربما يبدو أدقها وأكثرها سلاسة في آن واحد ترجمة العلامة المصري شوقي جلال التي نشرت في الكويت للمرة الأولى ضمن سلسلة عالم المعرفة عام 1992، وكان لي شرف إعادة نشرها بموافقة المترجم ضمن أعمال مشروع مكتبة الأسرة عام 2016.
وربما يكون من أهم ما طرحه توماس كون في هذا الكتاب هو فكرة النموذج الإرشادي التي تقوم – ببساطة - على أساس أن لكل مجتمع علمي أو معرفي في وقت ما مجموعة من الأعراف والتقاليد التي تحدد طريقة عمل وتفكير هذا المجتمع، وأن هذه المنظومة يتم تثبيتها بعد تجريبها لفترة طويلة حتى تستقر، وأن فترة استقرارها تتغير تبعا لعدد من العوامل منها طبيعة العلم ومجتمعه والظروف التاريخية والثقافية المحيط به.
غير أن الفكرة الأكثر إثارة في هذا الشأن تتعلق بالطريقة التي يتم بها تغيير النموذج الإرشادي، حيث إحساس بعض المهتمين بأن التقاليد القديمة قد صارت إطارا ضيقا لن يتطور العلم بوجوده، فيعملون على تغييرها، سواء بوعي وقصد أو بلا وعي كأنها حتمية تاريخية نتجت من تراخي نتائج التجارب القديمة أو تغير بعض الظروف أو حتى رغبة بعض المشتغلين بهذا العلم في إحداث تطور جديد، وهو ما يمثله توماس كون بفيزياء نيوتن التي تم تغيير طريقة التعامل معها عن طريق فيزياء أينشتين.
وحين تبدأ القواعد الجديدة في الظهور ينقسم المهتمون إلى فريقين أحدهما يناصر القوانين القديمة والآخر يدعم الجديدة، وتكون هناك فترة تقاطع بين الاثنين، يقوم فيها كل فريق باتخاذ خطوات لبقاء منظومته الخاصة، وهي فترة تكون ثرية بالمناقشات والمناظرات وربما أشكال مختلفة من الصراع والتناحر يحاول فيها كل نموذج أن يستفيد من عناصر قوة النموذج الآخر حتى يثبت أحدهما، وغالبا يكون الفريق الجديد لتبدأ مرحلة جديدة من استقرار نموذج إرشادي جديد يستمر في البقاء حتى يتم تغييره بالطريقة ذاتها.
والأكثر إثارة أن هذه الفكرة التي طرحها توماس كون لتطور العلوم تصدق إذا تم قياسها على الفنون والآداب، وهو ما يمكن تطبيقه ببساطة على الطريقة التي تطورت بها القصيدة العربية مثلا من شكلها الخليلي إلى التفعيلي إلى قصيدة النثر، بالنظر إلى فترات الصراع القريبة بين كل نموذجين من هذه الثلاثة.
غير أن السؤال الأكثر إثارة والذي يجب طرحه الآن هو هل تنطبق تلك القواعد الحاكمة للتطور على التقاليد والأعراف المجتمعية، خاصة أنها تصدق على أشياء مثل تطور الملبس وعادات الأكل والفنون الشعبية وعادات الزواج؟ وهل يمكن اعتبار النماذج الإرشادية المجتمعية مما يحدد الهوية التي يجب التمسك بها؟ أم أن التقاليد والأعراف المجتمعية من النماذج التي يمكن كسرها من حين إلى آخر خاصة مع وجود من يدافع عنها بشدة في كل حين؟ وهل ينطبق كل ذلك على طرق التفكير فيما له علاقة بالتجديد عموما وتجديد الخطابات الدينية والفكرية وما سواها من مجالات لعمل الوعي؟
كلها أسئلة يمكنها أن تحدد الكثير في علاقتنا بالمستقبل خاصة مع العلم بأن نظرية كون التي طرحها في كتابه كانت واحدة من أهم نظريات المعرفة في القرن العشرين، وكانت تتعامل مع الماضي لكي تستطيع التنبؤ ببعض أشكال المستقبل.