تبدو حالة من الارتباك داخل أروقة المعسكر الغربي، خلال الأشهر الماضية، في ضوء التغيير الكبير الذي شهدته المواقف، التي تتبناها الدول، من العدوان على غزة، وهي الحالة التي ربما تفاقمت إلى حد كبير مع الاعتراف الثلاثي بدولة فلسطين، من قبل إسبانيا وإيرلندا والنرويج، وهي الخطوة التي عكست تضاربا في المواقف، سواء في الداخل الأوروبي، أو مع الولايات المتحدة، حول توقيتها، رغم التوافق نظريا على المبدأ، والذي يمثل لب الشرعية الدولية، والقائمة على حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الأمر الذي تناولته أوروبيا في المقال السابق بقدر من الاستفاضة، إلا أن الموقف الأمريكي نفسه يبدو بحاجة إلى العديد من التساؤلات، يدور بعضها حول طبيعة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب في اللحظة الراهنة، بينما يبقى السؤال الأهم حول مدى قدرة أمريكا على التأثير في محيط حلفائها الرئيسيين حول العالم.
ولعل الحديث عن الموقف الأمريكي هنا، لا يرتبط في المقام الأول، بمسألة الاعتراف في حد ذاته أو توقيته، وإنما في واقع الأمر يبدو مرتبطا بالطبيعة الجغرافية للخطوة، والتي جاءت من قوى مهمة ومؤثرة في أوروبا الغربية، والتي طالما نظرت إليها واشنطن باعتبارها عمقا استراتيجيا وفناءً خلفيا لها، وبالتالي تصبح الخطوة الثلاثية إما مؤشرا على فقدان واشنطن لسيطرتها على دول المعسكر الغربي، فيما يتعلق بالقضايا الدولية الكبرى، أو أنها تمثل تكتيكاً من شأنه الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في ضوء حالة من التنافر الملموس بين الحكومة اليمينية القائمة في إسرائيل، وإدارة الرئيس جو بايدن، وهو ما بدا في العديد من المواقف، ربما يعود بعضها إلى حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي كان بايدن هو الرجل الثاني بها، باعتباره نائبا للرئيس آنذاك، على خلفية الاتفاق النووي مع إيران.
وربما يبدو الحديث عن تنسيق مسبق، ومباشر، بين واشنطن والدول الثلاثة، التي أعلنت الاعتراف بفلسطين، بهدف الضغط على نتنياهو، للرضوخ إلى إرادة العالم، سواء فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، أو حتى ضرورة اتخاذا مسارات جدية للتفاوض حول إنهاء الصراع، عبر حل الدولتين، مستبعدا، إلا ان الأمر الملفت في هذا الإطار يتجسد في أمرين، أولهما أن ثمة دولا أوروبية، سبق لها الإعلان عن مناقشة الخطوة داخل حكوماتها، في الأشهر القليلة الماضية، من بينها إسبانيا وبلجيكا، بينما لم تسعى واشنطن نحو ممارسة أي قدر من الضغوط عليهم لمنعهم من اتخاذ الخطوة، في حين أنها، وبالرغم من استخدامها للفيتو مرتين، لتقويض قرارات أممية بوقف إطلاق النار، إلا أنها امتنعت عن التصويت في المرة الثالثة، في خطوة من شأنها تمرير القرار، مما يعكس حالة من اليأس لدى صانع القرار الأمريكي تجاه إمكانية إبداء نتنياهو أو حكومته أي مرونة فيما يتعلق بالوضع المأساوي في غزة، وبالتالي تبقى الحاجة الملحة لسحب قدر من الحماية التي تمتعت بها الدولة العبرية مع بداية الأزمة، من قبل الولايات المتحدة، للضغط عليها ولو جزئيا للرضوخ إلى نداء العقل.
الأمر نفسه، يبدو في مسألة الاعتراف بفلسطين، ففي الوقت الذي قوضت فيه واشنطن قرارا أمميا بمنحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ربما لم تتحرك نحو منع حلفائها الغربيين من اتخاذ خطوة الاعتراف بها، وهو ما يمثل مقاربة مهمة، تتماهى في واقع الأمر بين قضيتين على طرفي النقيض، أولهما أن دعم إسرائيل هو أحد ثوابت الدبلوماسية الأمريكية، وهو الأمر الذي يعززه الوضع السياسي في الداخل مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، بينما الثانية تتجسد في حالة عدم الانسجام بين الإدارة الأمريكية وحكومة نتنياهو، في ظل رفض الأخيرة الانصياع للإرادة الدولية، وهو ما يعكس عدم قدرة أمريكا على إخضاع تل أبيب.
الموقف الأمريكي من مسألة الاعتراف بفلسطين، ربما يتماهى جزئيا مع السياسة التي تبناها أوباما تجاه إيران، في 2015، فالولايات المتحدة، وإن كانت اللاعب الرئيسي في الاتفاق النووي، إلا أنها لم تتحرك بمفردها، حيث كانت هناك أطرافا دولية أخرى، أهمها فرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهم من دول المعسكر الغربي، والمعروف بانحيازه لإسرائيل، بالإضافة إلى كلا من الصين وروسيا، بينما يبقى الاختلاف أن واشنطن لم تشارك بنفسها في الخطوة، هذه المرة، لتترك الزمام للدول الأوروبية المذكورة، في سبيل ممارسة ضغوط أكبر على الاحتلال.
بينما يبدو الجانب الآخر من المشهد، والمتجسد في مدى تأثير الولايات المتحدة، ونفوذها في اللحظة الراهنة، حيث أن خروج الدول الثلاثة عن الفلك الأمريكي، بهذا الشكل المعلن، حتى وإن كانت الخطوة لا تثير استياءً حقيقياً من قبل واشنطن، فهو يعكس حقيقة مفادها أن واشنطن فقدت الكثير من سيطرتها على زمام الأمور في المعسكر الغربي، بينما يمثل في الوقت نفسه عجزها عن توجيه بوصلة إسرائيل، وعدم قدرتها على فرض رؤيتها عليها، وهو ما بدا تدريجيا في الكثير من المراحل، بدءً من المسألة الإيرانية، والتي سعت واشنطن إلى إضفاء صبغة دولية عليها، حتى لا تكون بمفردها في مواجهة حليفتها العبرية، بينما تحول الموقف الأخير من فلسطين، وتحديدا من الاعتراف بالدولة، نحو مزيد من التراجع، عبر مباركة ضمنية، أو على الأقل، الصمت، تجاه امتلاك دول أوروبية لزمام المبادرة في هذا الإطار.
وهنا يمكننا القول بأن المشهد الفلسطيني برمته، سواء فيما يتعلق بالأوضاع الميدانية في غزة، أو القضية ومسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، بات شاهدا مهما على تراجع نفوذ واشنطن، بين حلفائها، سواء في أوروبا أو إسرائيل، في ظل حالة من الخروج المعلن عليها، وهو ما يتعارض مع السياسات الغربية التي هيمنت على المشهد الدولي لسنوات، تعود في واقع الأمر إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي اعتمد فيها الغرب وإسرائيل سياسات الولاء لأمريكا، حيث لم يتحرك إطلاقا بعيدا عن الفلك الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الدولية الكبرى.