ضمن القصص التي أحببتها في حياتي قصة سيدنا يعقوب، لما فيها من دروس، وعبر، وصبر بعده جبر، لذا كانت منصة للدروس الحياتية المجانية، وكنت أظن أنه ليس هناك أشد حزنًا من يعقوب، لكن كان الجبر على قدر الحزن والصبر عليه، ومن قصة نبي الله يعقوب في الصبر، نستطيع أن نكتب عن شخصية عصية على الرثاء، دون أن ننكر على نفسنا حقنا في الحزن على غياب أحد هؤلاء الذين يمثلون الخير في الحياة، ويقدمونه بسخاء، وهذه زاوية أخرى للحزن على حالنا الذي يغيب عنه خيرة الناس، أما الغائب الحاضر فترك لنا ثروة كبيرة، نذكرها ونذكره، وتجعلنا نرثي حالنا ولا نرثيه، فهو أكثرنا غنى، وأقلنا حاجة الآن.
من الصبر والجبر في قصة نبي الله يعقوب نقول إن الحزن في ذاته ليس خط النهاية في محنة الفقد، وإن دروسًا عدة يمكننا الحديث عنها في بعض الأحيان، عندما يكون الفقد لإنسان ملهم مثل فقيدي الذي أكتب عنه اليوم فخرًا وليس رثاءً، وأستعرض ثروته الكبيرة التي تركها بعده، دون إخلال بالحزن المفترض، عليه وعلى حالنا بعده، ذلك أنه ضمن قصص الرحيل التي تدل على أن كميات الخير في الحياة تنقص، وأن ضوءًا هناك انطفأ، كان ينير ظلام كثيرين، فيهتدون به في ظلمات الليل والمواقف واللحظات الصعبة.
أكتب عن الأخ والصديق والعزيز وعشرة العمر، المستشار رمضان غالب، أو رمضان أبو إبراهيم كما يعرفونه في قريتنا، لا فرق في التسمية، فالأفعال هنا تنافس الاسم على الخير، ويُعرف هو باسمه، واسمه يُعرف به وبأفعاله، لا فرق، فالاثنان محل فخر، فهو المستشار المحترم الكريم البسيط رمضان غالب، وهو الصديق المحترم الكريم البسيط الصاحب الراجل الجدع رمضان أبو إبراهيم، وكما لم تغيره الألقاب، فإن فرقًا في الاسم لم يعد يحمل أهمية ولا يغير من واقع عظمة هذا الرجل شيئًا، غير أني ما كنت أود أن أكتب اليوم عن رحيل خليلي، لكنها فلسفة الفقد، وأحكام القدر.
يقيني أن الإنسان يُبنى ويتكون بمرور المواقف والبشر والحكايات وتفاصيلها في حياته، وهي التي تشكل ملامح شخصيته، وكلما مر في حياتنا أمثال رمضان غالب، زادونا قوة وصلابة، وبالطبع كلما فقدنا من مثل رمضان، فإننا نفقد جزءًا من قوتنا وقدرتنا وصلابتنا، حتى لا نكاد نمتلك قوة بالأساس، من شدة هذا الفقد الذي هو قطعة من طفولتنا، وصبانا، ونضجنا، وحزننا وفرحنا، ونجاحات وإخفاقات الحياة، ليس هناك شيء لم نعشه سويًا، منذ أن كنا نتقاسم ألعاب اللهو في طفولتنا، مرورًا بتبادل الأدوات المدرسية، انتهاء بكل ما نملكه في شبابنا، وفي كل شيء تقاسمناه، أقسم أنه كان كريمًا في كل مراحلنا، وكلما مر العمر ومرت المواقف، زاد الكرم والشهامة، إنه الحليم الذي كان تزيده الصعوبات قوة وصبرًا وحلمًا، والكريم الذي كان يستطيع ترك كل ما يملك بنفس راضية، والصبور الذي كان يُعرف بابتسامات الرضا عند كل محنة، والحقيقة أننا عبر عمرنا، بالفعل تقاسمنا كل شيء يا رمضان، ولم أكن مستعدًا ألا تقاسمني حزنًا بهذا الحجم الآن، وكلما خلوت بنفسي وعشت الواقع الذي يخبرني أن الحزن الذي لن تقاسمني إياه هذه المرة هو حزن عليك، انشطر قلبي وازدوج حزني، ودخلت حالة من التيه، فلتعذر ارتباكي، ففقدك ليس ككل فقد.
تتجلى قيمة الإنسان في عظيم ما قدم للناس، بل تتحدد بالأصل وفق معايير المساعدات التي قدمها لغيره، وعلى مقياس النفع العام، وإلى أي مدى كان عونًا للبشر، ذلك أن هذا ما يمكث ويستمر، بعد رحيل الإنسان، وفي هذه أستطيع الكتابة دون نهاية عن حجم ما قدم هذا الرجل لغيره، ورغبته واستعداده الدائمين في مساعدة الناس، والنتيجة أنه ترك إرثًا كبيرًا لأولاده عبارة عن آلاف من البشر ساعدهم وقدم لهم يد العون، وكلهم الآن يمثلون ثروة كبيرة وعظيمة، نفعت، حيث انقطع كل النفع، وستعيش أبدًا حيث ينتهي المال والجاه، ويقيني أن لا أعظم من ذلك من ثروة وإرث يتركه الرجل لأبنائه
إن أصحاب الأيادي البيضاء على البشر لا يموتون، ذلك أن ما قدمت أيديهم إلى البشرية يظل باقيًا لا يفنى ولا يختفي أثره، وإن اختفى الإنسان نفسه، فإن ما صنعت يداه يظل ينفع الناس ويمكث في الأرض، وقد كان المستشار رمضان غالب من أصحاب الأيادي البيضاء على كثيرين، وأشهد الله أنه كان يحب الخير للبسطاء كما يحبه لنفسه، ويسعى لتقديمه لهم كما يسعى لجلبه لنفسه، ربما بشكل أقوى وأسرع وأكثر إرادة ورغبة.
فقيدي هذه المرة، روح مسالمة بيضاء، من طينة طيبة لينة تشكّل، لا يطيق القسوة ولا يستريح مع محترفيها، وعندما يجبره بعضُ من تصاريف الحياة على مجاورة الذئاب، فهو لا يغير فطرته، ولم يعتد ولم أره يومًا صاحب أظافر حادة في وجوه الناس، حتى عندما تعتلي روحه الدماء من أظافر أحدهم، فإنه يمضي مسالمًا ململمًا جراحه في رضا وصبر، قبل أن يهيئ نفسه للتسامح، ويجهز لها مبررات لذلك، حتى يصل مساء يوم الجرح لقرار العفو والصفح
إني شاهد على أن ما كان يلمع في عين الناس، لم يكن يمثل عنده قيمة، وإن ابتسامة صافية في ليلة قليلة الأموال شديدة التعفف لهي أهم وأعظم عنده مما كان يثير شهية أحدهم، وشاهد على أنه صاحب صبر جميل، وأنه كان يصبر ويتحمل ويسامح من يستطيع نسفهم، ولكنه لم يكن يفعل، تسامحًا وسماحة وليس لأي سبب آخر، إنني شاهد على خصال أربع، ما غابوا يومًا، ولم تغب واحدة حتى في موقف ما، أشهد على حلم عند الغضب، وصبر عند الألم، وصفح عند الإساءة، واعتذار عند الخطأ، فلا مكابرة ولا جدال، ولا استهلاك للبشر، ولم يكن يقيم وزنًا لصراعات الأحقية في كل الأمور، إنه كان مستعدًا دومًا للصفح والمرور بهدوء، أو الاعتذار والبداية من جديد بهدوء.
الحياة في مخيلته كانت تبدو بسيطة، كانزلاق الندى على الوردة في صباح هادئ، قبل أن يعبث أحدهم بهما، وكان من أولئك الذين يمتلكون قلبًا صافيًا، للدرجة التي تجعله رابحًا دومًا، ولا يخسر سواء باع أو اشترى.. لم أضبطه يومًا مستهلكًا طاقته في سباقات الناس، وصراعاتهم الدائمة، إنه كان يبغض الصراعات في عمومها، فعلًا ومعنى وطريقة وغاية، أستطيع أن أقول إنه عاش حياته في مسار أشبه بتلك المسارات الطفولية البريئة، التي يُلوح الملائكة فى آخرها بالورد والعصافير، والرضا الذى لا ضيق بعده، لذا أتصور أنه الآن ودع الضيق للأبد، وفي متسع من الرضا، نسأل الله أن يديمه عليه، ويسبغ علينا متسعًا مثله من الصبر، ويرزقه بكل كرب فرجه على الناس فرجًا، وبكل متسع من الحلم والصبر متسعًا في قبره مد بصره، فنم هنيئًا يا رمضان غالب، فثروتك التي تركتها كبيرة وعظيمة، ينتفع بها الناس، وتنتفع بها أنت الآن، لحسن فطرتك، وحسن عملك، وجميل صبرك.. نم هنيئًا، فأنت الأسعد بيننا، وعظيم صُنعك في البسطاء صدقات جارية، أتصور أنها تُسعِدك الآن كما أسعدت بها عباد الله… لك الرحمة ولنا الصبر حتى نلقاك.. لك الرحمة ولنا الصبر حتى نلقاك.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة