العمق الفكري من أروع ما يتسم به الإنسان في حياته، لأنه دليل على رجاحة العقل، والقدرة على الاستنباط، والتحليل والتخيل، والأجمل من ذلك القدرة على الوقوف على أعماق مَنْ نتعامل معهم، فالعمق الفكري هو النقيض للسطحية، ولكن على الرغم من هذه النعمة العظيمة التي تضع صاحبها في مصاف المُفكرين، إلا أنها أحيانًا كثيرة ما تضعه في ورطة كبرى، وهي معرفة ما لا يجب أن يعرفه، فليس كل شيء يجب أن نعرفه، فهناك أمور من الأفضل أن تظل غامضة، دفينة، لا يمكن الوصول إليها.
لا تنبهر بفكرة أنك كشفت إنسانًا من داخله، إذا كانت علاقتك به لا تستلزم الوقوف على خبايا نفسه. فهناك علاقات لابد من الاكتفاء فيها بالشكل الظاهر، لأن نجاحها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بظاهريتها، ولو تعمقنا فيها ستتراجع إلى الوراء، وربما تأخذ منحى آخر، يأتي بمردود عكسي على العلاقة.
فليس من الذكاء أن تتعمق في كل الأشياء، وأن تكشف كل الخبايا، وتدرس وتُحلل الأعماق، بل من الأفضل أن تكتفي بالخير الظاهر، ولا تُحاول أن تعرف الشر الباطن، فأحيانًا الشر يظهر ويطفو على السطح بسبب محاولة التنقيب عنه وعلى العكس يظل خامدًا طالما لم يُفتش أو يُبحث عنه.
فليس من الأحرى أن تفتش عن أشياء غير ظاهرة، فظهورها لن يُجدي كثيرًا، فمهما كان التعمق مطلوبًا، إلا انه لابد أن يتنحى جانبًا في بعض الأحيان حتى لا يتسبب في ظهور أمور ستعود عليه بالسلب.
كلنا سمعنا عن مُصطلح "التغافل"، فهذا المصطلح يعني تجاهل العديد من الأمور التي لا تستحق الوقوف عندها، فمجرد الاهتمام أو التشبث بها لن يأتي إلا بالمشاكل التي نحن في غنى عنها، وربما يكون هذا السبب الرئيسي والمباشر في مُعاناة الكثير في حياتهم، بسبب إصرارهم على استكشاف ما بداخل مَنْ حولهم، ومُحاولاتهم المستمرة في التنقيب عن الأمور الخفية، وعدم الاكتفاء بالظاهر، في ظل علاقات لا تحتمل أكثر من السطحية، حتى نُحافظ على صفة الاستمرارية.
وعلينا أن نتيقن أن التغافل والسطحية كثيرًا ما يكونا دليلاً على العُمق الفكري، والتعمق والتفتيش والتنقيب يكونوا أكبر دليل على التفكير والتصرف بسطحية، فالقضية ليست في العمق من عدمه، وإنما فيما يستحق التعمق فيه، وما لا يستحق الوقوف عنده.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة