لم تعُد كُلفةُ المراوغة زهيدةً مثلما كانت طوال الشهور الماضية. حالُ الحرب فى غزّة ومُفاوضات إنهائها أخذا بُعدًا مُختلفًا تمامًا بعد قرار مجلس الأمن الدولى، وقد علَّقت الولاياتُ المُتحدة مسؤوليةَ تمرير الاتفاق على كاهل حماس، بينما ألزمت إسرائيل بتدابير وترتيبات يبدو ظاهريًّا أنها تتصادم مع أهداف حكومتها المُعلَنة. وعليه؛ فقد صار الطرفان مُلزَمَين بإبراز قدرٍ من الليونة والتعاطى المنطقى، واجتناب المُجاهرة بالتشدُّد أو الذهاب لإفساد الصفقة عَلَنًا. وهكذا فقد تنصرفُ جهود نتنياهو والسنوار إلى الإغراق فى التفاصيل، وتقطيع الوقت على أمل تطويع كلِّ جانبٍ لإرادة الآخر، والبحث عن صورة انتصارٍ تُمهِّد للنزول على الشروط الجديدة.. العُقدةُ بالأساس تنبعُ من اليمين الصهيونى؛ إنما لا يُمكن إغفال أنَّ الفصائل وقعت فى دائرةٍ هادرةٍ من المُربِكات، وتبدَّى أنها تسعى للتوفيق بين مُتناقضاتٍ عدَّة: أولوياتها الذاتية، والمصلحة الوطنية، ورُؤية الوسطاء والضامنين، ثمَّ الذهنية الحاكمة لمحور المُمانعة وما بات فى حُكم الثوابت غير القابلة للمساومة من القائمين عليه، وأوَّلها ألَّا تغيبَ قيادتُه عن طاولة التسوية النهائية، ولا أن تفقدَ الورقةَ الفلسطينية دون إحراز مكاسب استراتيجيّةٍ على الجبهات الرديفة.
لم تنحَرف تل أبيب عن خطابها الذائع خلال الشهور الأخيرة؛ إذ ظلَّت مُنحازةً طوال الوقت لفلسفة التفاوض تحت النار، وكانت تخوضُ النقاشات المُمتدّة منذ انتهاء الهُدنة الأولى فى نوفمبر الماضى، ثمَّ من جولتى باريس إلى القاهرة والدوحة، على نِيّة إفشالها أوّلاً، ثمّ استخلاص ما يخدمُ استراتيجيَّتَها العُليا لإدارة ميدان القتال ومسارات الخروج منه. وفى المحطَّة الأخيرة ناكفت الرئيسَ بايدن فى خطَّته، ثم لانت لها جزئيًّا، ولم تتوقَّف عن استهلاك دعايات التمسُّك بالحرب وعناوينها الثلاثة: إفناء حماس عسكريًّا وإداريًّا، واستعادة الأسرى دون تنازلاتٍ جوهرية، وضمان ألَّا تعود غزة مُنطلَقًا مُستقبليًّا لتهديد إسرائيل. لكنَّ المُوازنةَ الحثيثة التى ابتكرها زعيمُ الليكود، استندت فى حلقتها الأحدث على تقليص مُعدَّلات التصلُّب الظاهر، والتراقُص على إيقاع مُخادعٍ لحُلفائه ومُعارضيه فى الداخل، وامتصاص طاقة البيت الأبيض قبل انزلاقه لموسم الانتخابات، مع الرهان على استفزاز الفصائل ليقعَ الصدامُ من جانبها، وتتكبَّد وحدها عبءَ الظهور بصورة الهارب من التسوية، وأن تقُصَّ شريطَ إفساد الصفقة؛ عندما تتبيَّن أنها تقودُ لتحميلها فواتير الشهور الماضية، دون استبقاء أىِّ فائدةٍ لها من مُغامرة «طوفان الأقصى» وتضحياتها الثقيلة.
مُلاحظات النسخة الأخيرة تبدو منطقيّةً فى كثيرٍ من عناصرها؛ إذ رسمت واشنطن معالمَها بما يُوافق أهواء نتنياهو، أو مصالح الدولة العبرية. وقد قطعت بابَ الجدل والشكِّ عندما صرَّحت بأنها ورقةٌ إسرائيليّة فى جوهرها، ما يعنى أنها أقربُ لرؤية أحد طرفى النزاع من الآخر. والخللُ البنيوىّ العميق أنها لا تُرتِّب تفاصيلَ الجسور الناقلة بين المراحل، ولا طبيعةَ الانسحاب الجزئىِّ المُبكِّر من المناطق المأهولة، وقد صار القطاع بكامله خَرِبًا ومَأهولاً فى الوقت نفسه. كما أنها لا تُوفِّر ضماناتٍ لاستدامة التهدئة وأن تصير وَقفًا نهائيًّا لإطلاق النار، ولم تقترح أيّة تفاصيل بشأن الترتيبات الواجبة فى مرحلة الإعمار، وطبيعة الإدارة التنفيذية والأمنية وقتها. وبينما تستندُ فى ركائزها غير المُصرَّح بها على شَطب «حماس» من المستقبل؛ فإنها لم تفتح مسارًا مُرجَّحًا لاستدعاء مُنظَّمة التحرير بعد هيكلتها، ولا السلطة الوطنية فى هيكلٍ قديم أو مُحدَّث، ناهيك عن تناقض أن تُحاور القسَّاميِّين مُعترفًا بحضورهم، ثم تنتظر منهم أن يُسلِّموا بمُخرجات تُفضى لإلغاء هذا الحضور، أو تتوهَّم إمكانية إنفاذ برنامجٍ تَسوَوىٍّ على غير هوى الحركة وشواغلها الجوهرية.
ردَّت الحركةُ أخيرًا على المُقترَح الأمريكىّ/ الصهيونىّ. ورغم أن التفاصيل الدقيقة لورقة الردِّ لم تُطرَح عَلَنًا حتى الآن؛ فإنَّ أجواء إنتاجها ومشهدَ تسليمها للوسيط القطرىِّ يحملان إشاراتٍ واجبةَ القراءة. أوَّلاً لناحية تنظيم مَوكبٍ للحدث على غير المُعتاد، وأن ينتدبَ الحماسيِّون شريكًا ظاهرًا، ولم يكن ذلك بين باقة خياراتهم فى المحطَّات السابقة، وتأكيد المُقرَّيين من الفصائل أنَّ الأمرَ حصيلةُ اتّفاقٍ بين القادة السياسيين العسكريين، مع ذكر اسم «السنوار» بالتحديد كشريكٍ عضوىٍّ مُباشر، مُلحَقًا بإشارةٍ إلى أنه فوَّض الواجهةَ الرسمية فى الخارج بإدارة المسألة كلها تحت سقف الثوابت محل الإجماع. والظاهر أنَّ الغزِّيين فى إخراجهم المسرحىِّ هذا يُغطُّون على أشياء أُخرى، ولعلَّهم يميلون بدرجةٍ أكبر ممَّا فات لإنجاز الهُدنة؛ إنما يسعون بالدرجة الأُولى لتمريرها من قنواتهم البينيَّة الضيقة، ويُكابدون فى ذلك ضغوطًا ظاهرة ومَخفيّة.
قبل أيّامٍ قليلة خرج «خامنئى» فى ذكرى المُرشد الإيرانىِّ الأوَّل؛ ليقول على خلاف سابق المواقف المُمانِعة إنَّ «طوفان الأقصى» كانت احتياجًا ضروريًّا، وتكفّلت العملية بإفساد خطط التطبيع وتوسعة حضور الدولة العبرية فى المجال الإقليمى، وصرَّح حِينًا بخيارات التيَّار الشيعى وميليشياته، وألمح أحيانًا إلى ما يُشبه رفضَ الورقة الإمريكية نصًّا؛ بل والتمرُّد على رُوحها، بما ينحاز لإبقاء الميدان مُلتهبًا، وعدم تفضيل التوصل لهُدنةٍ مُؤقَّتة أو وَقفٍ دائم. والحال أنَّ ما تقدّم من العمامة الأكبر، وما يملأُ الفضاءَ المُختنق بين الفنادق والخنادق، قد يُشير فى مجموعه لقدرٍ من تنازُع الرؤى والإرادات داخل المحور إجمالاً، وبين كلِّ فريقٍ من مُكوِّناته الفاعلة.. والمسألةُ لا تُدار على تخوم حِسبة الحرب وتكاليفها الحاضرة، بقدر ما تتخطَّى الخارطةَ المازومةَ وُصولاً إلى حساباتٍ إقليمية ومذهبيّة «فوق فلسطينية». ولا ينفصل ذلك عن استدعاء الجهاديِّين فى المساحة الظاهرة من الصورة؛ ليكونوا رَقيبًا وضابطًا، بأكثر من أن يلعبوا دور الشريك المُتضامِن.
كانت حركةُ الجهاد فى ماضيها البعيد جزءًا من حماس، وانشقَّت عنها لاحقًا لحساب طيفٍ أكثر قتامةً من الخطاب الأيديولوجى الإسلاموىّ ذى النكهة الإخوانيّة. لقد شَقّوا أوَّلَ مسارٍ فلسطينى باتّجاه طهران، وجَرّوا الحماسيِّين من خلفِهم، وإلى اليوم يبدو أنهم أقربُ لقيادة المحور، وأكثر إخلاصًا لرُؤاهم العميقة وتكتيكاتهم المُعلَنة. وما حدث سابقًا أنَّ القسَّاميين لم ينخرطوا فى عِدّة مواجهاتٍ سابقة مع الاحتلال، واعتبروها معاركَ الجهاد وجناحها العسكرى «سرايا القدس»، وفى المُقابل فإنَّ الأخيرةَ لم تنظُر للطوفان باعتباره معركةً حماسيّة خالصة، وإن لم تُنازعها فى التسلُّط على واجهة المشهد وإدارة المسار وتداعياته. والجديد هنا أن يظهر زياد النخالة فى تسليم الردِّ للقطريين، إذ المعنى، بعيدًا عن المحتوى، أنَّ رأسَ المحور ربما تتشكَّكُ فى صلابة الموقف الحماسىِّ، فتسعى للرقابة عليه بحليفها الأقرب، أو توظيفه فى تصليبها بدرجةٍ أكبر من حالها الراهنة، فضلاً على أن تكون فى قلب التفاعلات اليومية وتفاصيلها الدقيقة، وأن تُواكِبَ المُتغيِّرات أوّلاً بأوَّل.
أغلبُ الظنِّ أنَّ الورقةَ المُقدَّمة للوسطاء خفيضة الصوت وقليلة الاعتراضات، وتُركِّز بالدرجة الأكبر على استجلاء غوامض الخطَّة المُقترحة، وإثارة الأسئلة عن عناصرها الأساسية، والتركيز على مسائل الإحكام وضَبط الصياغة وتوثيق الضمانات. ولأنَّ الشيطان يكمُنُ فى التفاصيل؛ فإنَّ بعضَ الاستفسارات سترتدُّ إليهم بأجوبةٍ وشُروحات واضحة وإن خاصمها الإقناع، وبعضها قد تظلُّ مُعلَّقةً ولو لم تُرفّض بالتصريح، وسيعترضُ الصهاينة على العناوين التى تُثبِّت مسألةَ الوَقف الدائم لإطلاق النار، وتكوين الإدارة المُستقبليّة للقطاع من داخل البيت الفلسطينى الحامل للواء الشرعيّة بموجب أوسلو وما بعدها.. وبالرغم من مُناكفات نتنياهو المُتوقَّعة؛ فالمُعضلة داخل كلِّ طرفٍ أكبرُ ممَّا هى مع الآخر. ذئبُ الاحتلال فى خاصرته خنجرٌ اسمه الأحزاب التوراتيّة، فضلاً على جنونه الذاتى الحارق، وهو إن كان لا يُريدُ إسكاتَ البنادق منذ البداية؛ فقد ازداد تمسُّكه بتذخيرها وتسريع طلقاتها، بعدما أحرز انتصارًا جُزئيًّا فى مُخيِّم النصيرات مطلع الأسبوع، وعليه أن يُواصلَ مسيرتَه تحت القصف؛ لعدم تمكين مُنافسيه فى يمين الوسط من رقبته. أمَّا حِملان القطاع فقد استُنزِفَت طاقاتُهم على الاحتمال وادِّعاء البأس، وتضخَّمت عليهم الأعباءُ الحربيَّةُ والإنسانية؛ لكنهم لا يستطيعون إقناعَ شُركائهم القريبين والبعيدين بأولوياتهم العاجلة أيضًا، وبينهم وقيادة المحور عَهدٌ كأنَّه وثيقةُ إذاعانٍ من طَرفٍ واحد، يُخذَلُونَ ولا يَخْذِلون، ويدَّعون الهيمنةَ على مجال الصراع؛ بينما يراهُم الرُّعاةُ بَيدَقًا مُتقدِّمًا، ويفرضون عليهم شُروطًا ربما لا تترفَّقُ بشَعبهم، كما لا تُوافقُ مصالحَهم الوجودية العاجلة.
يبزغُ التعقيدُ من كونها مسألةً وجوديّةً للخصمين على السواء. لم يعُد مَحلَّ شكٍّ أنَّ مُستقبل نتنياهو السياسى مُعلَّقٌ على ماسورة دبابّة، والحماسيِّون بالمثل بين خيار العَيش فى المحرقة أو الالتجاء إلى تسويةٍ؛ لن تكون بردًا وسلامًا كما كانت نار النبى إبراهيم. أمَّا دائرة الوساطة فلا تُحرّكها البواعثُ نفسُها؛ فإنْ كانت القاهرةُ مُنحازةً لتبريد الجبهة لاعتباراتٍ إنسانية لا تنفصلُ عن دوائر أمنها القومىّ، فالإدارةُ القطرية لَصيقةٌ بأحد الطرفين بأثر التاريخ المُشترَك، ومثلُها واشنطن التى لا تُخفِى انحيازَها الغاشم منذ مفتتح الجولة إلى اليوم.
والحال أنَّ «بايدن» يسعى لصفقةٍ يَصرفُها فى صناديق الاقتراع الرئاسيّة، والدوحةُ لا تُريد أن تُؤخَذ بجريرة حماس، ومصرُ وحدها تُخالِطُ التقاطعات بين الجميع برؤيةٍ أخلاقيّةٍ وطنية خالصة.. الخروجُ بتهدئةٍ مُتوازنةٍ من تلك الغابة ليس مهمَّةً سهلةً على الإطلاق؛ لا سيّما أنَّ دونها عقباتٍ يُرصِّصها طَرَفا الاشتباك، وتدخُّلاتٍ أُخرى خارجيّةً تزيدُ الأمرَ تعقيدًا؛ بأكثر مما تُشجِّع على إنهاء الانسداد القائم.
والتحدِّى هنا يقعُ على عاتق الفاعلين فى غزَّة أكثر من غيرهم. إذ المقطوعُ به أنَّ امتدادَ الحرب يُحقِّق غايات العدوّ، ولا يعصمُ القطاعَ من المزالق الوَعِرَة ومخاطرها الداهمة. وربما يكون الذهابُ لصفقةٍ غير مثالية؛ أفضلَ من البقاء فى سياقٍ شديد الفوضى والإرباك؛ على أن تُستَدعَى الفاعليّةُ المُؤسَّسية لدى الطرف الفلسطينى، وأن تتساندَ إلى الحاضنة العربية ومُقارباتها فى التفاوض وخارجه. لقد تأكَّد أنَّ الحلفاءَ المُمانعين لم يكونوا على قَدرِ الآمال والتوقُّعات، ولم يلتزموا بما ألزموا أنفسَهم به، فغابت دعاياتُ «وحدة الساحات»، وتعطَّلت برامجُ التصعيد وفَتح الجبهات على بعضها، كما لم يعُد فى مُستطاعِهم أن يُغذّوا الجبهةَ الأُمَّ باحتياجاتها الضرورية لإدامة الحرب، ولا أن يمنعوا عنها الضربات شديدةَ الوطأة من غريمٍ مُنفلت. وهكذا لا تبدو المُزايدةُ والتعطيلُ من جانبهم إلَّا استثمارًا فى الدم، وصَرفًا لحصيلة النضالات الفلسطينية لخدمة مشروعٍ عرقىٍّ مَذهبىٍّ لا يخفى لحيتَه الصفويّة؛ أو كما قالت سُلطةُ رام الله إنَّ أهل القضية ليسوا فى احتياجٍ لمُغامراتٍ تُهدرُ دمَهم ولا تستعيد حقوقَهم. والأولويةُ الآن بأكثر من أىِّ وقتٍ مضى، أنْ تُبدِى الفصائلُ استقلالاً حقيقيًّا لصالح مشروعٍ وطنىٍّ جامع، وألَّا تنتظرَ عُبورَ الامتحان بالعلامة الكاملة؛ بينما يُبدِّل الصهاينةُ فى الأسئلة، ويتلاعب الشِّيعةُ بالأجوبة، ويكاد وقتُ الاختبار أنْ ينفدَ.
كأنَّ الجانبين يقعان فى مرمى النيران الصديقة. إسرائيلُ تتقلَّبُ على جمر نتنياهو والتوراتيِّين، والغزِّيون محبوسون فى فُرنٍ مَجوسىٍّ مُقدَّس، ونيرانُه لا تنطفئ لكونِها عقيدةً؛ وليست للدفء أو الإنارة. وإذا كانت تل أبيب تختبرُ قدرتَها على إطاحة مخابيلها؛ ولو بَدَت أقلَّ من المطلوب حجمًا ونَوعًا، فالحال أنَّ الورشةَ الوجوبية للفلسطينيِّين لم تبدأ بعد. وما يحدثُ على طاولة التفاوض، يستميتُ آخرون فى نَقضِه على أطرافها.. وبينما يقولُ العقل إنَّ على الاحتلال أن يمنحَ ضحاياه ما يخشون خسارته؛ وهُم اليوم مُلتصقون إلى الجدار وليس لديهم ما يخافون عليه؛ فالعقلُ نفسُه يقضى بأن تكون الضحيّة أكثر مكرًا ممَّا هى عليه، وألَّا تترفَّق بالجُناة لتلك الدرجة، بمعنى أن تُرخِى لهم الخيارات التى يُحبّونها بدلاً من تعميق تناقضاتهم، أو وَضعهم أمام امتحاناتهم الداخلية فى أعقد صُورها. وهنا قد تكون الصفقةُ بأيّة صورةٍ أفضلَ من الحرب مهما تضاءل جحيمُها وخَفَتت وتيرتُها؛ إذ الائتلاف اليمينىُّ يزدهرُ على إيقاع الرصاص، والصمت وحده يُمكن أن يُعرّيه فى بيئته ويُؤجِّجَ خلافات الأجنحة فى داخله.
سيدّعى الصهاينةُ أنَّ الفصائل رفضَتْ الصفقةَ؛ وقد لاقاهم إعلامُ الحليف الأمريكى على وجه السرعة، وسرّبت بعضُ منصّاته إشاراتٍ بهذا المعنى. وليس المطلوب أن تقطعَ «حماس» وفصائلُها الرديفةُ طريقَ التضليل فى أوّله فحسب؛ إنما أن تُقدِمَ على اقتراحِ مساراتٍ بديلةٍ وقابلةٍ للاعتماد والمَسير. إن بدأت التهدئةُ دونَ ترميمٍ للبيت وإنهاءٍ للانقسام؛ فالمُستقبل لن يكون كما يُحبّ الفلسيطينيون ويخدمُ قضيَّتَهم. وإن فُتِحَت المنافذُ لنتنياهو على إفساد الصفقة؛ فالحربُ قائمةٌ لآخر العام الجارى على الأقل، وقد يُلاقيه عندها صديقُه المُفضَّل ترامب، أو يعود إليه بايدن بكامل عنفوانه، مُتحرِّرًا من اعتبارات الشعبيّةِ وضُغوط الرأى العام.
كأنَّ زعيم الليكود المخبول يقبضُ على قائمةٍ طويلة من البدائل؛ بينما يقف «السنوار» بثقةٍ وثباتٍ لا يتناسبان مع محدودية خياراته، ولا إزعاج ما تُخبّئه الأيام لو سُرِقَت منه اللحظةُ الراهنة. أخطرُ ما يتهدَّد البيئةَ الفلسطينيّة يأتى من النيران الصديقة؛ إنما العدوُّ نيرانُه ظاهرةٌ طوالَ الوقت، وفجّةٌ فى عدواتها. الهُدنةُ قد تُحرِّر الغزِّيين من لوثة الحرب على وجه السُّرعة؛ إنما الأهمّ أنها ربما تشُقّ طريقًا لتحريرهم من الاستقطاب والاستتباع، ومن استنزاف القضيّة لصالح أصدقاء يُبدون المَودَّة ويُضمرون العداء. إنها لحظةُ اختيارٍ وُجوديّة؛ لعلَّ القطاع فى نكبته ينتظرُ، من القائمين على أطلاله أو المُختبئين تحتها، ألَّا يُفوِّتوها انتظارًا لحلولٍ ما أسقطتها السماء لسبعةِ عُقودٍ؛ حتى نتصوَّر اليومَ أنها قد تبزغُ فجأةً من بين الأنقاض.