يبدو أن القوى الدولية الكبرى، كانت في حاجة إلى الانتظار لأكثر من عامين، حتى يتسنى لها مناقشة الأزمة الأوكرانية، والحاجة إلى تحقيق السلام، في ضوء العديد من الأزمات التي ضربت العالم، خاصة وأن الصراع بين موسكو وكييف ومن ورائها الغرب، اندلع بينما لم يتنفس العالم الصعداء، في أعقاب أزمة الوباء، والتي ضرب سلاسل الإمداد، مما ساهم في ضرب العديد من القطاعات الحيوية، وعلى رأسها قطاعي الغذاء والطاقة، ناهيك عن تدهور حاد في أوضاع الاقتصاد العالمي، لتأتي بعد ذلك أزمة قطاع غزة، والعدوان الإسرائيلي الغاشم على المدنيين، وما أسفر عنه من ضحايا، ليزيد من جراح العالم، خاصة مع تأثر ممرات التجارة، ناهيك عما يسفر عنه من أوضاع إقليمية صعبة، لم تعد قاصرة في تداعياتها على المنطقة، في ضوء قابلية الأمور للامتداد، وإن كان بصور مختلفة.
ولعل الحديث عن قمة السلام في أوكرانيا، والتي انعقدت في سويسرا، يمثل دافعا مهما للحديث عما يمكن تسميته بـ"دبلوماسية القمم"، في ظل العديد من المعطيات، وأبرزها عدم كفاءة النظام الدولي بآلياته الحالية، في تحقيق الاستقرار، والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، خاصة مع انحياز صريح من قبل القوى المسيطرة على أروقة المؤسسات الدولية الكبرى، لصالح أطراف على حساب أطراف أخرى، وهو ما يبدو في أزمة غزة، والتي شهدت بعد ساعات من اندلاعها دعوة مصرية لعقد قمة دولية، وهي قمة القاهرة للسلام، من أجل تحقيق توافقات دولية، حول مسارين من المفترض أنه متفق عليهما، ترتبط في إحداها بالقضية الفلسطينية في صورتها الكلية، وأبعادها التاريخية، وما يرتبط بها من ضرورة احترام الشرعية الدولية، بينما يعتمد المسار الآخر، على البعد الإنساني، والقائم على ضرورة عدم استهداف المدنيين، ومنشآتهم، بالإضافة إلى تمرير المساعدات الإنسانية بالإضافة إلى رفض التهجير والذي يمثل أحد صور الإبادة الجماعية، طبقا لقواعد القانون الدولي.
وبالمقارنة السريعة بين قمتين، ربما يتناولان القضيتان الأهم والأبرز على الساحة الدولية في اللحظة الراهنة، نجد أن ثمة مقاربات، ترتبط في جزء منها على ارتباطهما بمستقبل النظام العالمي الجديد، باعتبارهما اعترافا ضمنيا بفشل النظام الدولي في صورته الراهنة، في تحقيق طفرات كبيرة في حل الصراعات الكبرى، وبالتالي الحاجة دور أكبر للقوى الإقليمية الفاعلة من أجل تحقيق توافقات من شأنها تحريك دفة الأمور نحو الاستقرار، إلا أن ثمة اختلافات كبيرة، تدور في معظمها حول الخلاف السائد بين الواقع الراهن في ضوء الهيمنة الأحادية، والمأمول في المستقبل في ظل التطلع إلى عالم متعدد الأقطاب، وهو ما تجلى في توقيت انعقاد كلا منهما، حيث لم تنتظر قمة القاهرة سوى بضعة أيام من اندلاع الصراع، حتى تمت الدعوة إليها، في حين انتظرت قمة سويسرا ما يقرب من عامين ونصف العام، في انعكاس لاستنفاذ الغرب كل الوسائل التي من شأنها تحقيق الحسم ميدانيا، دون جدوى.
وحتى على مستوى القمة نفسها، فبعيدا عن غياب روسيا عن قمة أوكرانيا، والتي رفضت الحضور، نجد أن ثمة غيابا صينيا، مع تمثيل ضعيف لحلفاء موسكو الآخرين، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الأمور تسير باتجاه واحد، ربما يتعارض مع فكرة التوافق المأمول بين القوى الكبرى، حول ثوابت، من المفترض أنها ترتبط بضرورة تحقيق أكبر قدر من الاستقرار في تلك المنطقة من العالم، خاصة وأن احتدام الصراع، يمثل تهديدا لدول القارة العجوز، والتي باتت على مقربة جغرافية من دائرة الخطر، وهو الأمر الذي ربما لم تشهده دول القارة منذ عقود طويلة من الزمن، وتحديدا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتتحول القمة من كونها فرصة لتحقيق السلام إلى محفل لتقديم الدعم لطرف على حساب الآخر، وهو ما يعكس إصرارا غربيا على النهج المتحيز في علاجه للأزمات الدولية.
غياب الصين، عن قمة أوكرانيا، يعكس إقصاءً صريحاً، لقوى دولية مهمة، باتت، سواء شئنا أم أبينا، بين القوى المؤثرة، والتي يمكنها المساهمة في حل الأزمات الدولية الكبرى، وهو ما يعكس محاولات الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب الأوروبي لإبعاد المنافسين عن المشهد الدولي، أو تقويض دورهم، فيما يتعلق بإيجاد حلول للصراعات الراهنة، وهو ما يمثل في جوهره محاولة صريحة للنظام السائد، للبقاء، من خلال تعزيز فكرة أن الحل ينبغي أن يأتي من جهة الغرب، وهو الأمر الذي ربما لم ينطبق على القمة المرتبطة بغزة، وما تلاها من اجتماعات دولية، والتي شهدت حرصا واضحا على وجود كافة القوى المعتبرة إقليميا ودوليا، بصرف النظر عن مواقفهم، من أجل الوصول إلى توافقات، من شأنها الضغط على أطراف الصراع، من أجل الوصول إلى أساس يمكن البناء عليه في المستقبل حتى الوصول إلى الحل النهائي.
وهنا يمكننا القول بأن اللجوء إلى قمة، تحمل من لفظ "السلام" عنوانا لها، بادرة جيدة، فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، ولكن التحدي الأكبر الذي يبدو الغرب غير قادر على مجابهته حتى اللحظة الراهنة، يتجسد في التحول عن الانحياز المطلق لطرف دون الآخر، وهو ما لا يعني بالطبع تجاهل مصالح الدول، ولكن على الأقل تعزيز فكرة الوصول إلى أرضية مشتركة يمكن البناء عليها، من أجل الوصول التدريجي إلى حلول، من شأنها الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، في أوروبا، بالإضافة إلى ضرورة الاعتراف الضمني بوجود قوى مؤثرة يمكنها القيام بدور الوساطة، التي من شأنها تحقيق خطوات ملموسة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، في حقبة تبدو مرتبكة ومتوترة، ليس فقط بسبب الأزمات، وإنما أيضا بسبب شيخوخة النظام القائم وعدم قدرته على مجاراة المستجدات العالمية، وما يطرأ عليها من أزمات لحظية.