المشهد الدولي ربما شهد العديد من الإرهاصات، التي تعكس ارتباكا واضحا في النظام الدولي القائم على الهيمنة الأحادية، وهو ما يبدو بوضوح في أزمة غزة، وقبلها الوضع في أوكرانيا، أو حتى ما قبل ذلك من أحداث، على غرار الكيفية التي تعاملت بها القوى الكبرى مع وباء كورونا، حيث بات واضحا للعيان أن الأزمات الدولية القائمة، باتت أكبر من قدرة دولة واحدة، مهما بلغ نفوذها، للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، في ضوء تصاعد التهديدات وخروجها في الكثير من الأحيان عن حد السيطرة، وهو ما يعكس تحركات دولية، لم تقتصر على منطقها بعينها، من أجل تعزيز الاستقرار، حتى وإن كان ذلك على حساب الولاء لواشنطن، وهو ما يبدو في مواقف دول أوروبية بارزة، من أزمة غزة، والتي وصلت إلى حد الاعتراف بفلسطين، وهي الخطوة التي تبتعد كليا عن الرؤية التي تتبناها الولايات المتحدة.
إلا أن المشهد الدولي الراهن، ليس الشاهد الوحيد على ارتباك النظام القائم، وإنما تبقى الأوضاع الداخلية في العديد من الدول، والمقصود هنا دول المعسكر الغربي، والتي مثلت طيلة أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، أركان الهيمنة الأحادية، هي الأخرى شاهدا مهما هو ما يبدو في العديد من المستجدات، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة، والتي بدت ملامحها واضحة خلال السنوات الماضية، في ظل احتدام المشاهد الانتخابية، وهو ما يبدو في الولايات المتحدة، والتي اتخذت فيها الانتخابات منحى مختلفا تماما مع بزوع نجم الرئيس السابق دونالد ترامب، في عام 2016، عندما خاض المعترك الانتخابي أمام هيلاري كلينتون، ونجح في الانتصار عليها، ومتغلبا في الوقت نفسه على كل الرهانات التي صبت في خانة خسارته، للعديد من الأسباب، والتي حملت قدرا من الوجاهة في حينه، وأبرزها نقص، أو بالأحرى انعدام خبرته السياسية، في ذلك الوقت.
ربما كان دخول ترامب عالم السياسة، في ذاته نقطة تحول مهمة، بغض النظر عن سياساته، ورؤيته المختلفة لنظرية النفوذ الأمريكي، وإدارته للعلاقة مع خصوم واشنطن التقليديين، على غرار روسيا، ومساعيه لتحقيق قدر من التقارب معهم، مع استحداث عداوات جديدة، خاصة مع الصين، وغيرها من السياسات التي حملت قدرا كبيرا من الاختلاف عن أسلافه، حيث كان وصوله إلى عرش البيت الأبيض بمثابة انقلاب شعبوي، في الداخل الأمريكي، على السياسة النمطية في الولايات المتحدة، والقائمة على الهيمنة الثنائية، لحزبين، دون غيرهما.
فعلى الرغم من خوض ترامب للانتخابات الأمريكية ممثلا عن الحزب الجمهوري، إلا أن ثمة خلافات عدة، أعرب عنها تجاه الرؤى التي يتبناها الحزب، بل وكال الانتقادات لأسلافه من الجمهوريين أنفسهم، وهو الأمر الذي يبدو وأنه لاقى استجابة كبيرة في الشارع، ساهمت في قلب الموازين لصالحه ضد سياسية مخضرمة، على غرار كلينتون، والي تعد أحد الوجوه المتمرسة في عالم السياسة الأمريكية التقليدية، باعتبارها سيدة أولى سابقة، وكذلك شغلت منصب وزيرة الخارجية الأمريكية لأربع سنوات خلال حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وأما عن المشهد الأمريكي الحالي، فيبدو أنه مكملا لما شهدته الأعوام الماضية، مع الملاحقات القضائية التي تطال المرشحين الرئاسيين (بايدن وترامب)، فالأول يتأثر بصورة كبيرة جراء محاكمة إدانة نجله هانتر، قبل شهور قليلة من اندلاع المعترك الرئاسي، بينما يواصل الأخير مواجهاته القضائية، والتي قد تساهم في تشويه صورته أمام الرأي العام، وهو الأمر الذي يعزز من النظرة السلبية لحالة "الثنائية" الحزبية، التي تهيمن على الحالة الأمريكية، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى بدائل، وإن لم تكن متاحة في الانتخابات القادمة، ولكنها ستبقى ضرورة ملحة في غضون سنوات قليلة.
بينما تبقى أوروبا هي الأخرى، ليست ببعيدة على الإطلاق عن المشهد العالمي المرتبك، وهو ما يبدو في العديد من المسارات، ربما أبرزها صعود التيارات اليمينية، داخل العديد من دول القارة، وهو ما يبدو في فرنسا مع فوز اليمين على كتلة الرئيس إيمانويل ماكرون في الانتخابات الأوروبية، وهو ما دفعه للدعوة إلى انتخابات مبكرة، بينما تبقى ألمانيا هي الأخرى في نفس المواجهة، في حين على المسار الآخر، يبقى الانقسام الأوروبي متجاوزا المواقف تجاه القضايا الدولية، وإنما ممتدا إلى توزيع المناصب العليا داخل الاتحاد، وهو ما يعكس الحاجة إلى تغييرات جذرية في نمط السياسة القارية، سواء على المستوى الفردي، في إطار الدول، أو الجمعي، على مستوى أوروبا الموحدة، خاصة مع العجز الكبير عن حماية المواطن في السنوات الأخيرة من العديد من الأزمات التي واجهته، سواء فيما يتعلق بقضايا الهجرة أو اللجوء أو حتى فيما يرتبط بالأوضاع الاقتصادية مع ارتفاع كبير في موجات التضخم والغلاء.
وهنا يبدو أن كفتى النظام الدولي التقليدي (الولايات المتحدة وأوروبا)، باتا في معضلة حقيقية جراء، ليس فقط على خلفية عجزهما عن تقديم حلول للأزمات الدولية، في اللحظة الراهنة، وإنما أيضا جراء خلل بات واضحا في تركيبة السياسة الداخلية، والتي لم تعد تلقى قبولا شعبويا، مما يعزز الحاجة إلى تغيير كبير في الأفكار النمطية التي هيمنت على الغرب، والتي سعى إلى فرضها بالقوة على العالم خلال العقود الماضية، أو على الأقل إصلاحها في المرحلة المقبلة، مما يثير ضرورة الحديث عن الإصلاح، بالشكل الذي يبدو مناسبا مع ظروف المجتمعات في اللحظة الراهنة، من جانب، أو فيما يتعلق بالعمل على إصلاح المنظومة القارية من جانب آخر، ومن ثم المنظومة الدولية بصورتها الجمعية من جانب ثالث.
وهنا يمكننا القول بأن إصلاح المنظومة الدولية يبدو بحاجة ليس فقط في إرادة سياسية بعدم استئثار قوى بعينها على العالم، وإنما في واقع الأمر بحاجة إلى إعادة تقييم التركيبة السياسية في داخل دول المعسكر الغربي، وضمان تمثيلها داخل أروقة الحكم، وإلا سيكون الانفجار قادم لا محالة، وهو ما يبدو في التوجه الشعبوي نحو تيارات اليمين، في انعكاس صريح للرغبة الملحة في إحداث تغيير جذري، ربما يساهم في إصلاح أوضاع فشلت الأنظمة القائمة في تحقيق اختراقات كبيرة بها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة