يحدثُ أن تندلعَ النزاعاتُ فى الجغرافيا ويُطفئها التاريخ، أو العكس. إنّما ما يتأجَّجُ منها فى المسارين معًا يكتسبُ طابعًا حارقًا وصِفَةً وجوديّةً ثقيلةَ الوَطء، ويصيرُ الذهاب به إلى التصفية أو التسوية أصعبَ وأكثر كُلفةً على طرفيه من البقاء فى فُرنه المُشتعل. والقضية الفلسطينية تتجاوزُ الاختصامَ فيما بين النهر والبحر، إلى خصومةٍ لها هيئةٌ تاريخيّة وظِلالٌ ثقافيّة واعتقادية. يقولُ الغاصبُ إنه آتٍ بمَوعدةٍ سماويّة، ويرفعُ كتابَه المُقدَّسَ صَكَّ ملكية؛ أمَّا أصحابُ الأرض فليسوا على كلمةٍ سواء، العاقلُ منهم يتقلَّب بين السلاح والسياسة بحثًا عن ثغرةٍ فى الجدار، ونموذجه الضدُّ يتصدَّى للعدو بمادّته، ويستعيرُ أدواته، ويدخلُ معه صِراعًا خاسرًا على السرديات الأُصوليّة المُفخَّخة.
أتعسُ ما فى المشهد الدائر؛ أنَّ طوفانَ الدم لم يُوقظ أغلب النائمين على فراش الوَهم. ما يزالُ الحديث دائرًا لدى البعض عن البأس والمَنعة، وعن كَسر المُحتلّ واقتراب غاية التحرير الكامل. طوابيرُ المُشجّعين يهتفون من المُدرجّات البعيدة كما لو كانت مُباراةَ كُرة، واللاعبون الذين سِيقوا للساحة تسحقُهم قوانينُ اللعبة الخشنة دون أن يكون لهم حقّ التوقُّف أو الانسحاب.. ثمّة أزمةٌ عميقة لدى الغريم، نراها ونرقصُ على إيقاعها؛ إنما أزماتُ البيت نفسِه أبعد من النظر، أو يُراد لها أن تكون خارج مجال البحث الجادّ والأمين. يخرج قيادىٌّ حمساوىّ مُهلِّلاً للانقسامات فى البيئة الصهيونية، ويعتبر إسماعيل هنية أنَّ تفكيك مجلس الحرب انتصارٌ للحركة وأحد آثار الطوفان، ويقول آخرون إنَّ نزاعات المستويين السياسى والعسكرى فى إسرائيل خرجت للعَلَن، ولم يعُد بالإمكان كتمانها أو النجاة من تداعياتها. كلامٌ جميل؛ إنما القبيحُ فيه أنه لا يلحظُ مُفارقة التشابه، ويقتفى أثرَ الأعداء كوقوعِ الحافر على الحافر. كأنَّ السنوار يُطِلّ فى المرآة فيرى وجه نتنياهو؛ والغريب أنه لا يُستَثارُ لذلك أو يتنبّه إلى العُقدة المُشينة فى المسألة.
إذا كُنّا نُؤرِّخ للقضيّة فى وجيعتها بعامِ النكبة ومذابحه؛ فإنَّ التأريخ للمُقاومة الفاعلة يبدأ من محطَّة «فتح»، ثمّ مُنظّمة التحرير، والمُشترَك الأهمّ ذاك الرجل مُعتدل القوام وحاد القسمات، ياسر عرفات. تربَّى بين مَنافٍ هادئة وصاخبة، أخطأ وأصاب، وطوَّر أفكارَه ورُؤاه بصدقِ المبدأ وجدّية التجربة. لقد صار مع الزمن عالمًا بأُصول اللِين والشِّدّة، ومُتمرِّسًا عليهما، وخبيرًا بما وراءهما من مغانم ومغارم. الوحيدُ الذى سار فى السياسة بالكفاءة التى سار بها تحت ظلِّ السلاح، والخلاصةُ أنه أشعلَ نارَه خارج فلسطين لأجل أن يعودَ إليها، وفاز فى النهاية ببُقعةٍ شِبه مُحرَّرة، وسُلطة حُكمٍ ذاتىٍّ، وأُفقٍ غائم إنما يُضىءُ بما يكفى لاستكمال المسيرة، واستكشاف الأُسس الصالحة للبناء عليها. كلُّ هذا يقف الرجل القابض على خِناق «حماس» وأنفاقها ومُقاتليها على العكس منه تمامًا.
الأرضُ التى كانت مُتّصلةً برباط هَشٍّ قطعه الحماسيِّون فى انقلابهم، وفكرةُ الدولة صارت أكثر استعصاءً بعد انقلاب 2007 بأكثر ممَّا كانت فى أىِّ وقتٍ سابق، والفتحاويون قُتِلوا فى غزّة مثلما يُقتَل الغزِّيون اليوم؛ إنما على أيدى القسَّاميِّين ومن أعلى بناياتهم. لقد أهدى رجالُ «مشعل وهنيّة» للاحتلال ما لم يكن يتخيّله أو يحلُم به؛ فانتقل نتنياهو من اختصام المقاومة الفلسطينية إلى الاستثمار أحد أجنحتها، واعتبر الحركةَ ذُخرًا استراتيجيًّا لإسرائيل على ما كان يقول، وتعهَّدَها بالرعاية والإسناد، فى تدبير ملجأٍ بديل لقادتها بالدوحة بعدما انقلبوا على دمشق، أو فى تمرير حقائب الدولارات شهريًّا من مطاراته ومعابره. والاستخلاص المقصود هنا أنّ أثمن مكاسب الصهاينة، وأكبر خسائر الفلسطينيين، تمثَّلت فى الانقسام الذى أرادته حماس قبل سبع عشرة سنة، وتعتبرُ اليومَ أنَّ بعض ظِلاله المُنعكسة على وجه الدولة اليهودية مكسبٌ لفلسطين. فكأنَّ المسألةَ الواحدةَ تُفسَّر بمعنيين مُتضادّين، بحسب المصلحة الحركية أو الشخصية فحسب، بينما لا يُعرَف كيف يكون خلافُهم قوّةً وخلافنا رحمة!
منذ اتُّخِذ قرارُ المُغامرة غير المحسوبة فى أكتوبر الماضى، وكلُّ ما يحيط بعملية «طوفان الأقصى» يبدو غامضًا وغير مفهوم. ربما أُعدّت الخطّةُ بمُعاونة تيّار المُمانعة، وبعِلم المكتب السياسى فى الخارج؛ لكنَّ ساعةَ الصفر لم تكن فى الغالب تحت سقف التنسيق الكامل أو الإخطار المُسبَق. الدهشة التى ارتسمت على وجوه الحُلفاء الشيعة، والارتباك الذى تبدَّى فى سلوكيات حماسيِّى الخارج فى أوَّلِ الأمر، ثمّ عجز الميليشيات الشريكة فى الراية المذهبية عن الوفاء بالتزامات التحالف ودعايات «وحدة الساحات»؛ تكشف كلُّها عن إرادةٍ فردية وراء الحدث، واستبدادٍ لا يُمكن إنكاره من جانب يحيى السنوار، وعلى تلك القاعدة تتابعت الخُطى والتداعيات فى الشهور التالية، تقولُ الفنادقُ شيئًا فتشطبُه الخنادق، وكلَّما تحدَّث أحدٌ باسم الراية الخضراء يعودُ هو لتأكيد أنه المالكُ المُطلق للحرب، من شرارتها الأُولى إلى أكوام الأطلال والجُثَث التى لا أوَّل لها ولا آخر.
لا يُعرَفُ الكثير عن «السنوار»؛ باستثناء أنه قضى قُرابةَ رُبع القرن فى سجون الاحتلال، وتعلَّم العِبرية، وكتب روايةً ثريّة فى أيديولوجيتها الإخوانية وفقيرةً فى الأدب والجمال.
أُطلِقَ سراحُه فى صفقة «شاليط» قبل ثلاث عشرة سنة، ثمَّ فى غضون ستِّ سنوات أزاح إسماعيل هنيّة وارتقى لإدارة الحركة. باختصار؛ لدى الرجل مَظلمةٌ تاريخية لا تُنكَر، وشرعيّة نضالٍ وتضحية، كما لديه الشعبية الكافية ليقبضَ على زمام القرار فى غزّة. أمَّا من وراء ذلك فيبدو أنه مأزومٌ نفسيًّا، ويُديرُ ولايته على القضية كما لو أنه فى ثأرٍ شخصىٍّ، وعلى الأرجح لا يسمعُ لغيره ولا ينزلُ عن قراره. الإشارة الأوضح ربما كانت قبل ستة أسابيع أو يزيد قليلاً؛ فوَقْتَها أبدى قادة الخارج قبولاً مبدئيًّا للورقة المصرية بشأن الهُدنة، وقبل أن يُعلِنوا إقرارها بساعاتٍ قرَّر صديقُهم اللدود فى القطاع أن يُلطِّخ وُجوهَهم ويُؤكِّدَ سُلطتَه المُطلقة عليهم، فأطلقَ زَخّة صواريخ باتجاه قاعدةٍ فى محيط كرم أبو سالم؛ والنتيجة أنه مَنحَ لنتنياهو بطاقةَ إفساد الحفل، ويَسَّر له المُناورة بشأن الصفقة، ثمّ اقتحام رفح والسيطرة على معبرها، وبدء مرحلته الأخيرة لتصفية لواء القسَّام المُتبقِّى بالجنوب.. أمّا إشارتُها الأكثر غِلظةً وإزعاجًا؛ ما نقلته «وول ستريت جورنال» فى تقرير صحفى لها عن رسائله لإخوة الخارج، ويقول فيها بصراحةٍ إنه يُقيِّم الدمَ كما يُقيّم البارود، ويعتبر الأرواح رصاصات، والكربلائيات الصارخة غايةً مطلوبةً لذاتها. كأنه لوهلةٍ يتلبّس وجه غريمه زعيم الليكود، أو يأخذ سَمت كاهنٍ بدائى يُشرف على موسم القرابين البشرية.
المُفارقةُ أنَّ ما يخفى على الفلسطينيين والعرب؛ يبدو شديدَ الانكشاف للصهاينة الأعداء. لقد كشفت هيئةُ البثِّ الإسرائيلية مُؤخّرًا عن وثيقةٍ لدى فِرقة غزَّة، وهى القطاع العسكرى المُكلَّف بمراقبة القطاع وتأمين خطِّ التَّمَاس معه، ومحتوى الورقة أنَّ الجيش والشاباك وبعض قادة المُؤسَّسة العسكرية كانوا على علمٍ مُسبَق بهجمة السابع من أكتوبر قبلها بثلاثة أسابيع، وتضمَّنت المعلومات المُتاحة محاورَ خطّة الطوفان والترتيب لاختطاف بين 200 و250 رهينة من الجنود والمدنيين، كما شرحت بتفصيلٍ دقيق كيف تسير عملية الأَسْر والاحتجاز، وكيف تُدار المرحلةُ التالية، وما المسارات الفرعية للعمل بحسب التطوُّرات وفى حالات الضرورة القصوى. والمعنى؛ أن ما أُعِدّ لمُفاجأة العدوِّ والصديق؛ إنما أربك جغرافيا فلسطين وحُلفاءها المُخلصين فعلاً، بأكثر ممَّا فعل مع إسرائيل. وإن كان فى الأمر ما يُقوَّمُ بالنجاح والفشل؛ فإنّه إخفاقُ الحركة فى السرِّية الكاملة، وإخفاق الاحتلال فى التعاطى مع المعلومات، بينما لا يمكن الحديث عن إيجابيات أصلاً على أطلال بلدٍ كاملٍ وفوقَ تلٍّ لا حدودَ له من الأشلاء؛ إذ تحقَّق للعدوّ مُرادُه الدائم والمعلوم، لناحية الإبادة والإفناء، وكَىّ الوعى، واختبار الوحشية والخيارات الحارقة.
ستُفتَح ملفّات التقصير فى تلّ أبيب يومًا ما؛ لكن ما يستوقفنا أنْ تتردَّد بين الاحتمالات فكرةُ التمرير المقصود للعملية. كأنَّ طرفًا على الجانب المُقابل للقطاع، رأى الاستعدادات واستشرفَ بعضَ تفاصيلها؛ ثمَّ أراد للسنوار أن يستكمل حَفرَ الفخِّ الذى سينزلقُ إليه مع كتائبه وحركته. وليس المقصود أنَّ دولة الاحتلال فى صورتها المُؤسَّسية فكّرت هكذا، أو أنها أكبر من الخديعة والتضليل؛ إنما أنه كما يُختَطَف القرارُ فى غزّة باستبدادِ رُجلٍ واحد؛ فالأمرُ نفسه يحدثُ فى تل أبيب. والاستثمار فى «الطوفان» وما بعده لا يُعبِّر عن أثر الصدمة المُفاجئة فحسب؛ بقدر ما يكشفُ أيضًا عن اغتنامِ فُرصةٍ مثاليّة كأنهم كانوا فى انتظارها.. إنَّ ما يجرى لأكثر من ثمانية أشهر يُترجِم حالةً شديدة التسلّط والجنون، آخرها تفكيك مجلس الحرب واستعادة قرار التهدئة أو التصعيد لقبضة نتنياهو وحده، وتلك التركيبةُ الذهنية لا تختلف كثيرًا عن صاحب القرار على الجانب المُقابل، فكلاهما يخوضُ المُواجهةَ بمنطقٍ أُصولىٍّ شديد التحجّر، وبنزعةٍ شخصانية، وعلى صورة مُباريات المُصارعة حتى موت أحد الطرفين، وفى تلك الحالة يتَّسع التعريف من جانب الاحتلال ليشملَ كلَّ الغزِّيين.
لدى كلِّ طرفٍ ما لا يودّ إظهاره، وقد يستميتُ لإخفائه مهما تكلَّف فى ذلك. يُغالبُ نتنياهو ودائرتُه اليمينيّة المُتطرفةُ فكرةَ عَرض الحرب ومُقدّماتها على طاولة التحقيق، وتتذرّع حماس بشعارات المقاومة والنضال والتضحيات؛ لقَمع أيّة مُحاولة للفحص والبحث والاستكشاف ومُمارسة النقد الذاتى. يخشى رئيسُ الحكومة العبرية من المستقبل، وهو يعلمُ أنه سيُضطرُّ حتمًا لسداد الفواتير المُؤجَّلة، أو فى أحسن الظروف أن يُبرِمَ صفقةً مع مُعارضيه بما لا ينتهى به إلى السجن. والسنوار ربما صار مُوقنًا بأنه لا مُستقبلَ له فوق الأرض، فإمَّا حَيًّا فى نفقٍ أو قتيلاً فى مقبرة، وفى الحالين فإنه يُقاتل بلحمِ الغزِّيين الحىِّ ويأبى أن يذهب لنهايته إلَّا فى تشريفة هادرة من الشهداء.. سَعىَ زعيم الليكود لبناء حالة إجماع فى بادئ الحرب، ولم يسعَ زعيمُ القسّام، وفكَّك الأوَّلُ مجلسَه الحربىَّ بعدما أصبحت الشراكة مع الآخرين مُكلّفةً، بينما الثانى لا شُركاءَ له ولا مُجالسين ولا تعنيه التكاليفُ أصلاً. صورتان مُتقابلتان لهما نفسُ المعنى والأثر، وإنْ تلوّنت كلُّ واحدةٍ منهما بألوانٍ غير الأخرى.
الصهاينةُ مُغتصِبون وقَتَلة؛ إنما يُمارسون إجرامهم بديناميكيّةٍ ظاهرة وجدليَّاتٍ داخلية لا تنقطع. والأبرياءُ أصحابُ الحق يُسحَبون من رقابهم ولا تُترَك لهم فسحةٌ لتَمَلمُلٍ أو انتقاد. اتَّفق جانتس وانقلب، ووزير الدفاع الليكودى جالانت ينتقدُ ويعترض، والجيش أعلن عن هُدنةٍ تكتيكيّة فى رفح دون مُراجعةِ الحكومة ثمَّ تراجع عنها. رئيسُ الأركان ينتقد نتنياهو، وعسكريون كُثر يُلوّحون بشارات الغضب فى وجهه، وابنه يسبُّ القادة الأمنيِّين على منصات التواصل، وعشرات الألوف يتظاهرون فى العاصمة وحول مقرّ إقامته فى تل أبيب، ويتصادمون مع الشرطة لإيصال رسالتهم بوجوب إزاحته؛ رغم إيمانهم جميعًا بالحرب ووُجوب القضاء على حماس. إنهم على وحشيَّتِهم وضعف مواقفهم الأخلاقية والسياسية يتشاجرون فى وقت الحرب، وينتقدون ذواتهم بقدر ما يتحاملون على الآخرين. أمَّا المقاومةُ على الجانب المُقابل؛ فقد تحوّلت إلى عِجلٍ مُقدَّس، وليس لأحدٍ إلَّا أن يسير مُغمضَ العينين وراء السنوار، وهو نفسُه مُغمض العينين، بضيقِ أُفقه أو باحتباسه فى نفقٍ مُظلم، فكأنَّ العدوَّ القاتل يستضىء ببصر شعبه وبصيرته، مع أسلحته وذخيرته وبرمجياته الذكية، وكأنَّ الضحيّةَ تُسلِّم رقبتها للسكّين راضيةً كما لو أنها مُنتدبة فى مشهد فداء إلهىّ.
الوَهمُ حاكمٌ على الناحيتين؛ فالاحتلال يتصوّر أنه قد يقضى على المقاومة بكاملها، أو على حركةٍ أُصوليّة مُتجذِّرة فى بيئتها مثل حماس. وبجانب ذلك يُمنِّى نفسَه أن يُحكِم السيطرةَ على القطاع، وأن يستكملَ مسيرة تذويب الصراع بين خلافات غزة ورام الله ودعايّة غياب الشريك. يحلُم بأنْ يستهلكَ زمن الحرب ليستعيد سرديّته الضائعة، وصورةَ الردع، وتوازُنَ الرُّعب مع الفصائل والمدنيين والحزب الشيعى فى الشمال. تلٌّ ضَخم من الأوهام والمطامع الدنيئة وغير المنطقية، ولن يمرّ وقتٌ طويل قبل أن يُجبَر على فرزها وتجنيب الخيالى فيها عن الواقعى، مع إعادة برمجة أهدافه بقدرٍ من المعقولية والتناسب مع الضغوط الداخلية والاعتبارات الخارجية، وتخطيط الجولة المقبلة فى حربه الوجودية على فكرة الدولة الفلسطينية وكيف يشطبها من الوجود. وفى القابل؛ فالطرفُ الآخر لا يخلو من أوهامه أيضًا؛ فالحماسيّون ينظرون للدم باسترخاصٍ ولا يعدّونه بين الخسارات، ويرون أنَّ بقاءهم وحدَهم على الأطلال ربحٌ كاملٌ ولو أُفنِى الشعبُ بكامله، كما يتخيّلون أنهم موضعُ ترحيبٍ فى المستقبل، أو سيجدونَ أبوابَ العالم والمُنظَّمات الدولية مفتوحةً لهم؛ ليدخلوا إلى غُرف التفاوض حاملين السلاح. إنَّ غايتهم الكُبرى أن يعودوا ليوم السادس من أكتوبر، دون أن يُفسّروا لماذا كانت المُغامرة طالما العودة لأوَّلها قد صارت مُنتهى الطموح، وما السبب الذى يدفع الفلسطينيين قبل غيرهم لقبول الرجوع إلى ما قبل الطوفان؛ بكامل الهزائم والنكبات ولوائح الشهداء، ومن دون أيّة منافع تُذكَر. إنها حربٌ مُركَّبة فى مستوياتها: ظاهرها يخسرُ فيه الأبرياء ويربح المُتحاربون، وباطنها نِزالٌ كاسر فى ساحة الوَهم، يتعرّى فيه نتنياهو كما يتعرّى السنوار، ولا تتبدّل الحقائق التى كانت قائمةً قبلها. المسألةُ أقربُ إلى الاستعارة اللغوية؛ إذ تنوب المفردات الظاهرةُ عن معانٍ أُخرى، وقائدا المُواجهة الحاليان ينوبان عن تيَّارين شديدى الانغلاق والجنون، فلا معنى لأن تتوقف النار اليوم أو غدًا، طالما لم تُسقَط العقائديات الإلغائية وتُمنَح اللغةُ معانى لا تقبل التأويل. العُقدة أنها مُنازعة فى الجغرافيا والتاريخ معًا، والحال أننا نُحارب فى واحدة ونتجاهل الثانية، ونُبدّل الأدوات فيما بينهما، فننكسر دوما أمام القوة، ولا نتوقف عن تكرار هزائمنا فى الزمن.