نواصل سلسلة ما يقوله التراث الإسلامى ونتوقف عند سيرة سيدنا نوح وما جرى له، وذلك من خلال كتاب الكامل فى التاريخ لـ ابن الأثير، فما الذى يقوله؟
ذكر الأحداث التى كانت في زمن نوح عليه السلام
قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح، فمنهم من قال: إنهم كانوا قد أجمعوا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش والكفر وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله، ومنهم من قال: إنهم كانوا أهل طاعة، وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح، وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد.
وأما كتاب الله، قال: فينطق بأنهم أهل أوثان؛ قال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلّوا كثيراً) نوح 71 : 23 - 24.
قلت: لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة، فإنّ القول الحقّ الذي لا يشكّ فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها، كما نطق به القرآن، وهو مذهب طائفة من الصابئين، فإن أصل مذهب الصابئين عبادة الروحانيين، وهم الملائكة لتقربهم إلى الله تعالى زلفى، فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدّس، إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى معرفة جلاله وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقرِّبة لديه؛ وهم الروحانيون، وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل، وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم، ثم ذهبت طائفة منهم، وهم أصحاب الأشخاص، حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلاً ولا ترى نهاراً، إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسّلوا بها إلى الهياكل، والهياكل إلى الروحانيين، والروحانيون إلى صانع العالم؛ فهذا كان أصل وضع الأصنام أولاً، وقد كان أخيراً في العرب من هو على هذا الاعتقاد، وقال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الزمر: 39 : 3، فقد حصل من عبادة الأصنام مذهب الصابئين والكفر والفواحش وغير ذلك من المعاصي.
فلما تمادى قوم نوح على كفرهم وعصيانهم بعث الله إليهم نوحاً يحذّرهم بأسه ونقمته ويدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الحقّ والعمل بما زمر الله تعالى، وأرسل نوح، وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالي أرسل نوحاً وهو ابن ثلاثمائة وخسمين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخسمين سنة، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم.
قال ابن إسحاق وغيره: إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً، وكان يضرب ويلفّ ويلقى في بيته، ويرون أنه قد مات، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم إلى الله، فلما طال ذلك عليه ورأى الأولاد شرّاً من الآباء قال: ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم، وإن يك غير ذلك فصيرني إلى أن تحكم فيهم، فأوحى إليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) هود: 36، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) نوح 71 : 26، إلى آخر القصة، فلما شكا إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه أن: (اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود: 11 : 37، فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيء عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها مما لا يصلحه سواه، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون) هود: 11 : 38 - 39، قال: ويقولون: يا نوح قد صرت نجّاراً بعد النبوّة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم، وصنع الفلك من خشب الساج وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال الحسن: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، والله أعلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة