النهج الذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية، خلال قيادتها الأحادية للعالم، منذ 3 عقود من الزمان، وتحديدا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، تجسد في فرض رؤيتها على العالم، سواء في صورة مبادئ، أرادت تطبيقها بشكلها النمطي، على غرار الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وغيرها، دون إبداء أي مرونة، أو سياسات، من خلال توجيه بوصلة العالم، وخاصة حلفائها المقربين، نحو الدوران في فلكها، بينما كانت الأداة لتحقيق ذلك هو استخدام القوة الصلبة، سواء في صورة التدخل العسكري المباشر، أو العقوبات الاقتصادية، أو حتى بعد ذلك عن طريق تأليب الرأي العام الداخلي لدى الدول المارقة لخلق حالة من الفوضى، وهو ما بدا في العديد من المشاهد، سواء في العراق أو كوريا الشمالية، أو دول المنطقة العربية إبان الربيع العربي، على الترتيب.
وهنا كان السبيل الوحيد أمام الولايات المتحدة، للاحتفاظ بقيادتها الأحادية للعالم، ليس الوصول إلى حلول للصراعات القائمة، وإنما الاحتفاظ بها، بحيث يمكنها التحكم في وتيرتها صعودا وهبوطا، بحسب ما يحقق مصلحة واشنطن نفسها، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، ربما أقربها إلى الذهن في اللحظة الراهنة، المشهد الفلسطيني، حيث لم تحرك الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض ساكنا، تجاه المماطلة الإسرائيلية، وسياسات الاستيطان، والتي امتدت لعقود، بينما جمدت الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، دون حراك، حتى تسرب اليأس إلى النفوس، لتحين لحظة الانفجار الحالية، فتخلت أمريكا بنفسها عن دور الوساطة، لتقوم بدلا منه بدور المحرك لأطراف الصراع.
الاحتفاظ بالصراعات، في الرؤية الأمريكية، تجد مرجعيتها في اللحظة التي هيمنت فيها واشنطن على العالم، مع بداية التسعينات من القرن الماضي، حيث سعت إلى إيجاد بديل للصراع مع الاتحاد السوفيتي، عبر خلق ما يسمى بـ"صراع الحضارات"، وهو المصطلح الذي خرج إلى النور نظريا، على يد صموئيل هنتنجتون في عام 1993، في مقال بمجلة "فورين أفيرز"، ثم تحول بعد ذلك إلى كتاب يحمل نفس العنوان، ثم جاءت أحداث 11 سبتمبر لتكون فرصة التطبيق العملي للنظرية، عبر حروب متواترة خاضتها أمريكا في أفغانستان ثم العراق مع بداية الألفية.
وفي الواقع، يبدو أن النهج الأمريكي، وإن كان قد احتفظ لواشنطن بالهيمنة، خلال العقود الماضية، بفضل حالة الفراغ الدولي الناجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي، وغياب قوى بديلة من شأنها المنافسة، إلا أنه لم يحقق أي قدر من النجاعة، مع صعود قوى أخرى، وهو ما يبدو بجلاء في حالة العجز لدى الولايات المتحدة في ترويض إسرائيل، أو إجبارها على الخضوع للإرادة الدولية، وهو الأمر الذي ينطبق بصورة أخرى بالنسبة لأوروبا الغربية، ربما أكثر حياءً، حيث باتت تتخذ قرارات تحمل قدرا من الاستقلال، فيما يتعلق بالقضايا الدولية والاستراتيجية، وأحدثها الاعتراف الثلاثي بالدولة الفلسطينية، من قبل إسبانيا والنرويج وإيرلندا، وهو القرار الذي وإن كان محلا للانقسام في الداخل الأوروبي، إلا أنه يمثل اختراقا كبيرا ليس فقط للقضية الفلسطينية، وإنما في واقع الأمر للهيمنة الأمريكية، التي فقدت سيطرتها، ليس فقط فيما يتعلق بقيادتها للعالم، وإنما أيضا على دائرة الحلفاء المقربة لها.
ولعل التراجع الأمريكي الملموس، يقابله صعودا كبيرا لقوى أخرى، على رأسها الصين، والتي باتت تتبنى نهجا يبدو مختلفا إلى حد كبير تجاه الرؤية الأمريكية، حيث يقوم النهج الذي تتبناه بكين، على خلق حالة من الحوار، يفتح الباب أمامها للقيام بدور الوساطة، وهو ما بدا، في مساعيها لتهدئة الصراعات الدولية، وهو حقق نجاحا كبيرا، داخل دائرتها الآسيوية، حيث تتحرك نحو قيادة منطقتها نحو قدر أكبر من الهدوء، من خلال احتواء خلافاتها مع القوى القارية الأخرى، وعلى رأسها كوريا الجنوبية واليابان، وهو ما ترجمته القمة الثلاثية التي انعقدت مؤخرا بين الدول الثلاثة، أو قبل ذلك عبر وساطتها التي لعبت دورا كبيرا في احتواء الخلافات بين السعودية وإيران، بينما تسعى لتقديم نفسها كوسيط موثوق به في الأزمة الأوكرانية، خاصة مع حالة الافتراق النسبي بين أوروبا الغربية وأمريكا، من جانب، وعلاقتها القوية مع روسيا من جانب آخر.
وجه آخر للوساطة، تسعى بكين للقيام به، يتجسد في تحقيق حالة من الحوار بين الحضارات، وهو ما يبدو في تعزيز التعاون مع الدول العربية، وهو ما بدا بوضوح ليس فقط في التطور الكبير في العلاقات، والذي تجلى في أحدث مشاهده، خلال منتدى التعاون العربي الصيني، وإنما أيضا فيما يتعلق بتعزيز الثقافة العربية في الداخل الصيني، وهو ما يبدو في إطلاق مقر مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية، والذي شارك في إطلاقه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، مما يعكس الرغبة الكبيرة في تحقيق حالة من الانسجام، من شأنها تحقيق قبولا عربيا لبكين، خاصة وأن تلك المنطقة تحظى بزخم كبير، خاصة مع المواقف الصينية الداعمة لحقوق الفلسطينيين، وتأييدها لعضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة، وهو ما أضفى قدرا من التعاطف تجاهها سواء على المستوى الرسمي أو الشعبوي.
وهنا يمكننا القول بأن الصعود الصيني، وما يحمله من رؤية، يمثل في الأساس الوجه المقابل للنهج الأمريكي، فيما يتعلق بمفهوم القيادة الدولية، في ضوء حقبة جديدة، في ظل العديد من المعطيات، أبرزها أن بكين أدركت حقيقة مفادها أنه لا يمكنها الهيمنة بمفردها على مقاليد النظام الدولي، في الوقت الذي انتهى فيه زمن التبعية المطلقة، وهو ما يبدو في المشهد الأمريكي الحالي، والذي يبدو مع خسائر واشنطن التدريجية في مناطق حلفائها، وبالتالي تبقى الحاجة الملحة لاستعادة الزخم لأدوار الوساطة، في العلاقات الدولية، وهو الدور الذي فقد الكثير من أهميته خلال العقود الماضية، بسبب اختلال الاتزان الدولي.