حازم حسين

معاداة نتنياهو واللعب بشروطه.. هل يتوقف تجار الشعارات من الجرى فى المكان؟

الأحد، 23 يونيو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

دخلت الأطرافُ جميعًا فى غرفةٍ مُظلمة، وصار أصعبَ ما يواجهونه المُواءمة بين الأقوال والأفعال. فما يحدثُ فى الميدان مُعاكسٌ تمامًا لما يُثار فى حروب الخطابات المُتبادَلة. وواقعُ الأزمة أنَّ التكتيكات المُعتمَدة لا تتناسبُ مع طبيعة الأهداف الاستراتيجية المُعلَنة، وما يجرى على الأرض غير ما يُبحَثُ فى الكواليس، وكلُّ فريقٍ يستميت فى إخفاء ضعفه؛ بأكثر ممَّا يُعبِّر عن قوّةٍ ظاهرة أو يسعى لتعرية هشاشة الخصم. لقد تداخلت الأوراقُ، واختلطت الجبهات، وصار الأمريكيِّون طرفًا أصيلاً فى النزاع الدائر بإرادة كلِّ المًنخرطين فيه؛ كأنها نقطةُ التلاقى الوحيدة التى اتَّفق فيها الصهاينةُ مع المُمانعين، بغضِّ النظر عن تفضيلات واشنطن نفسها، وعن هامش حركتها المُتاح فى موسم انتخاباتٍ يُوشك أن يشتعل.


الحكومةُ الإسرائيلية تُناور بآخر طاقتها؛ لإدخال البيت الأبيض فى أجواء الحرب بأكثر ممَّا كان طيلة الشهور الماضية، والفصائلُ الغزِّية تسعى لاستخلاص موقفٍ عملىٍّ يُواكب ورقةَ بايدن للتهدئة، ويُحرِّك الجُمود الحاكم فى تل أبيب. أمَّا حزب الله فقد أفصحَ فى خطاب أمينه العام الأخير عن رغبةٍ فى اختبار حدود التوازنات القائمة، واستكشاف تحرُّكات البيادق الأمريكية على رقعة الشطرنج، لمعرفة ما يُمكن أن يؤول إليه التصعيدُ؛ حال أخذَ بزمام المبادرة أو فُرِضَت عليه من الطرف الآخر. والثلاثة يُغامرون فى المُهلة الأخيرة قبل الموت السريرى، وانكفاء الإدارة على شؤونها الداخلية فى سباق الرئاسة. وهم بينما يُديرون صراعًا إقليميًّا شديد التعقيد، ينخرطون بقصدٍ أو من دونه فى لُعبة المُفاضلة بين بايدن وترامب.


لم يعُد بإمكان نتنياهو أن يستخلصَ أولويَّاته بصورتها الكاملة من الحليف الأمريكى؛ فسار فى اتجاه المُكايدة والابتزاز وتوظيف جبهته الداخلية ضدّه؛ كما لو أنه يُحاربه بسلاحه. هكذا يُمكن النظر إلى شريطِه المُصوَّر الذى ينتقدُ فيه خُفوتَ الدعم العسكرى، وما قال إنه تعطيلٌ لصفقات الأسلحة والذخيرة؛ باعتباره سعيًا لتطويع إرادة الرئيس بايدن وفريقه. وبالمعنى نفسه؛ سيكون وُقوفُه أمام الكونجرس أواخر الشهر المُقبل، وفى الفاصل الزمنى بين مُؤتمَرى الحزبين الجمهورى والديمقراطى، أقربَ إلى محاولةٍ لإحداث شَرخٍ داخل التيَّار الليبرالى التقدُّمى، وتعزيز موقف المحافظين أصحاب الدعوة. باختصارٍ؛ صار زعيمُ الليكود عضوًا فى حملة دونالد ترامب بشكلٍ مقصود، والمعروف أنه يُفضِّل التعامُلَ معه عن غريمه العجوز. وهنا فقد يتراءى له أن ينتزعَ المكاسبَ الحاضرةَ بقوَّة الدعاية المُضادّة، ثمّ ينتظر حلولَ الخريف ليُلاقِى صديقَه الأقرب على منصَّة النصر. وأىُّ سلوكٍ خَشِن ينتهجُه فى تلك المُهلة؛ يُمكن تفسيرُه فى سياق اللعب بالحملات وبطاقات الاقتراع؛ فإنْ تقاعسَ بايدن سيفقدُ كثيرًا من دعم اللوبى الصهيونى، وإن استجاب للنزوات فقد ينزلق لخُطَّةِ اليمين الإسرائيلى، فيُجنَى بالتوريط ما لم يتحقَّق بالإقناع.


الطرفُ الآخر لا يحبُّ أن يعود الرئيس الجمهورى السابق للحُكم؛ لكنّه لا يملكُ أوراقًا مُماثلة لتضييع حظوظه أو ترجيح موقف مُنافسه. كما أنه بين نارين: الإدارة الحالية لديها التزامٌ أيديولوجىٌّ وعاطفى تجاه الدولة العبرية، وما يُحرزه الضغط الشعبى عليها تُضيِّعه صهيونية بايدن شديدة الثبات والإخلاص، أمَّا بديلُها المُحتمَل فالخبراتُ السابقة معه كلُّها سيئة؛ إذ نقلَ السفارةَ للقدس ودعمَ مُحاولات ضَمِّ الضفّة، وشَقَّ مسارَ الاتفاقات الإبراهيمية ليكونَ الاقتصادُ عمودَ التسوية الإقليمية، والسلام مُقابل السلام وليس الأرض، كما خرقَ الاتِّفاق النووى وضاعف العقوبات على إيران، وبدأ أوَّلَ خطوةٍ للعقاب المُنفلت من كلِّ قاعدةٍ وسَقف اشتباك، عندما أمرَ باغتيال قاسم سليمانى ومُرافقيه فى العراق. فكأنَّ ضحاياه وهُم يستغلّون اختناق موسم الانتخابات لترويض بايدن، يُغامرون بإطاحة العدوِّ خافت الصوت؛ لصالح نسخةٍ أشدّ صخبًا وتطرُّفًا.


ومُقابل تلك التشابكات العامّة وما فيها من ميولٍ مُتضاربة؛ فلا يخلو كلُّ تيَّارٍ من تناقضاته الداخلية. الحزبُ الرابض على حدود لبنان يتحرَّكُ عاريًا من الإجماع القديم فى حرب 2006، ولا تبدو حاضنتُه الوطنيّةُ على وفاقٍ مع سياسته فى اختطاف قرار الدولة والحلول الكامل بدلاً عنها. الصورةُ الأوضح فى ردود الفعل على تهديدات «نصر الله» لقبرص، وتدخُّل الحكومة من خلال وزير خارجيتها عبد الله بوحبيب لامتصاص أثر الخطاب العدائى على علاقات البلدين، ثمَّ على موقف الاتحاد الأوروبى المُحتمَل إزاء التعريض بأحد أعضائه. كما أنَّ «حماس» تبدو عاجزةً عن التوصُّل لحالة الوفاق المثالية بين الفنادق والخنادق، ليبدو «السنوار» قابضًا على قرار الحركة بمفرده، بينما تُواجه الطبقةُ السياسيّة فى الخارج ضغوطًا إقليمية ودولية دون فاعليّةٍ منها أو مَقدرةٍ على تصويب المسار. والحال أنَّ سُلوكَ المحور الشيعى إنما يُلاقى نتنياهو فى رُزمة أهدافه الكاملة: استمرار الحرب جنوبًا لحين الوقوع على مخارج تحملُ رائحةَ النصر ولا تُهدِّد استقرارَ سُلطته، أو نقل الجبهة شمالاً واستدعاء القوَّة الغربية رغمًا عنها، وأخيرًا تقطيع الوقت لحين عودة ترامب، أو أن يفوز بايدن بولايةٍ ثانية؛ فيتحرَّر تمامًا من قيود الشعبية وضغوط الرأى العام الأمريكى.


فى القلب من تلك الصورة نزاعاتٌ عدَّة مُتشابكة. فالحماسيون الذين خُذِلُوا من محور المًمانعة، ولم يفوزوا بأثر دعايات «وحدة الساحات»، قد يجدون أنفسَهم فجأة مُطالَبِيْن بالتحوُّل إلى جبهةِ إسنادٍ ومُشاغلة للحزب؛ لو افتتحت إسرائيلُ مواجهةً شاملةً على الجبهة اللبنانية. وتلك المسألةُ لا تُهدِّد ما تبقَّى من قُدرات الحركة فحسب؛ إنما قد تضعُها فى صدامٍ مُباشر مع الوجود الأمريكى فى المنطقة. لقد عادت حاملة الطائرات جيرالد فورد للتمركُز أمام سواحل حيفا، والقوَّة البريطانية والفرنسية حاضرة، وأىُّ تشغيلٍ واسع النطاق للعمليات الحربية قد يجرى التعاطى معه بالأسلوب سابق التجربة فى أبريل الماضى، عندما أطلقت إيران مئات الصواريخ والمُسيَّرات باتّجاه إسرائيل، وتكفَّل الحُلفاء الغربيِّون بإسقاطها. وحتى اللحظة لا يُعرَف كيف يُمكن أن تتفاعل طهران مع أىِّ اقترابٍ من دُرَّة تاجها فى ضاحية بيروت الجنوبية، حتى مع ترداد أحاديث عن تنشيط الميليشيات العراقية، أو الاستعداد لفتح جبهةٍ رديفة من سوريا. هذا المناخ الغامض يُحتمَلُ أن يُفضِى لمُواجهةٍ واسعة المدى، كما يُحتمَل ألَّا يُسفِرَ عن شىء، ليجد الحزبُ وحماس نفسَيهما فى نزاعٍ غير مُتكافئ، تُحوِّطهُما النارُ من كلِّ ناحيةٍ، ولا تُواكبُهما فيه إلَّا الشعارات.


السماءُ فى تل أبيب ليست صافيةً من الضباب أيضًا. كان التطوُّر الأكبر ما صرَّح به مُتحدِّث الجيش، دانيال هاجارى، قبل عدَّة أيّامٍ بشأن عدم إمكانية القضاء على حماس، وأنَّ أيّة أحاديث من هذا النوع «ذَرٌّ للرماد فى عيون الناس». صُدِمَ مكتبُ نتنياهو واضطُرّ للتعليق، وكانت ورقته الوحيدة التذكير بأنَّ إنهاء القُدرات العسكرية والإدارية للحركة أحد أهداف الحرب التى وضعها المجلسُ الأمنىُّ، والجنرالات مُلتزمون بها حَتمًا فى ضوء الطبيعة المُؤسَّسية وتراتُب السلطة. لتعودَ إدارةُ المُتحدِّث للتوضيح بأنّه ما قصدَ إلَّا البُعد الأيديولوجى الكامن فى صدور الغزِّيين، وأنهم تحت سقف الالتزام بتحقيق أهداف الخطَّة الجارية فى القطاع. وهكذا يبدو للوهلة الأولى أنها سحابةٌ عابرةٌ ومَضَت فى طريقها؛ إنما ما وراءها من معانٍ يظلُّ أوضحَ من الكتمان، وعَصِيًّا على المُضىِّ من دون توقُّفٍ جاد وبحثٍ عميق.


أخرجت الأسابيعُ الماضية للعَلَن ما كان يعتملُ سِرًّا داخل حكومة الطوارئ ومجلسِها الحربىِّ. ظاهرُه الأعلى صوتًا فى استقالة بينى جانتس وجادى آيزنكوت، واضطرار نتنياهو لتفكيك «كابينت الحرب»، والاستعاضة عنه بمجلسٍ مُصغَّرٍ للمُشاورات الحسَّاسة. وما يفوقُ ذلك أهميّةً إنما هى حدودُ النزاع المُتصاعد بين السياسيِّين والجنرالات، وقد عبَّر وزير الدفاع يوآف جالانت، ورئيس الأركان هرتسى هاليفى، عن رفضهما الكامل لأيّة خُططٍ للبقاء فى غزّة، أو الاحتفاظ بالإدارة المدنية والعسكرية فيما بعد الحرب. وهاجم هاليفى سياسات رئيس الحكومة بحدَّةٍ وصَخَب، وزاد جالانت بالتصويت ضد قانون إعفاء الحريديم من التجنيد، فى أوَّلِ إشارةٍ مُزعجةٍ لتصدُّع جبهة الليكود داخل الكنيست. وبإضافة النزاع المُستجَدّ بشأن قانون تعيين الحاخامات، وقرار المحكمة العُليا بالتعليق المُؤقَّت لتمويل المدارس الدينية التى يمتنعُ طُلَّابُها عن التجنيد، مع احتمالية أن يصير عامًّا ودائمًا، بجانب غضب حزب شاس وبقيَّة التوراتيِّين المُتطرِّفين؛ فالأمرُ يَشى بتقلُّباتٍ حادّة فى داخل الائتلاف الحاكم، ربما تُفضِى لتفكيك الحكومة من داخلها، أو تُعزِّز أصواتَ المُطالبين بالذهاب إلى انتخاباتٍ مُبكِّرة.


اشتبكَ «بيبى» مُؤخّرًا مع حليفه المُتطرِّف، وزير الأمن القومى إيتمار بن جفير. أراد الأخيرُ دُخولَ مجلس الحرب بدلاً من المُستقيلين، ورفضَ رئيسُ الحكومة مُغازلاً إيَّاه بحضور مجموعة المشورة الجديدة؛ شريطةَ الإتيان بدليلٍ على أنه غير مُتورِّطٍ فى مسألة تسريب المعلومات والأسرار الأمنيّة. كان الردُّ صاعقًا؛ إذ دعا لتمرير قانون جهاز كشف الكذب، مع تعميمه على الجميع حتى الذين لديهم جهازٌ لتنظيم ضربات القلب، قاصدًا نتنياهو. والخلاصةٌ أنَّ التحالف استنفد إمكانات بقائه الموضوعية، واستفحلت الخلافات بين أطرافه لدرجةٍ تكفى إسقاطَه فى أيّة لحظة؛ لكنَّ ما يمنع ذلك إيمان الطرفين بالاحتياج المُتبادَل، وأنَّ نَقضَ الأغلبية القائمة لن يُعوَّضَ فى أيَّة انتخابات تالية، وكما سيُغادرُ زعيمُ الليكود منصبه المُحبَّب لقلبه المُعتلّ؛ فإنَّ الأحزاب التوراتيّة المُغرمة بالسلطة ووجاهتها لن تَعبُرَ عتبات الحكومة مرَّةً ثانية.


إزاء تلك التركيبة؛ فإنَّ حديث الجيش عن حماس يُمكن أن يكون توظيفًا سياسيًّا لمسائل الحرب. إنه يكشفُ من ناحيةٍ عن نزول العسكريِّين إلى أرض الواقع على غير العادة، وقراءة السياق الصاخب فى جبهة غزَّة بقدرٍ من التعقُّل والبراجماتية؛ لكنه من ناحيةٍ ثانية قد يُفصِحُ عن رغبةٍ فى تطوير الخصومة بين الجيش والحكومة، وتفعيل التناقٌضات فى أروقة الأخيرة؛ سَعيًا إلى خلخلة دعائمها ودَفع الائتلاف للتهاوى. وربما تُقرَأُ مُناكفات «الهُدنة التكتيكيّة» فى رفح قبل أسبوعٍ تقريبًا ضمن هذا العنوان، ويُضاف إليه ما تردَّد عن الاستعداد لإعلان نهاية العملية القائمة جنوبىّ القطاع خلال أسابيع، فضلاً على توقيع الخطَّة العملياتيّة ونَقل عتادٍ ومهمَّات قتالية ناحية الشمال. كأنَّ المُستوى العسكرىَّ يضع نتنياهو على صفيحٍ ساخن، ويرفعُ حرارةَ الصراع حتى لا يكون بديل عن الانفجار إلَّا تبريد الجبهة الداخلية؛ إمَّا بإخضاع رئيس الحكومة أو بإزاحته.


خطورةُ المُقامرة السابقة أنها قنبلةٌ من دون صمام أمان، بالضبط كما يفعل حزب الله ناحيةَ الشمال. لقد أخرج مشاهدَ جويَّة لأهدافٍ ومُنشآت حيويّة فى حيفا ومُحيطها، وبعيدًا من الفارق بين امتلاك المعلومة وإمكانية توظيفها فى الميدان؛ فإنه لم ينشغلْ كثيرًا بأثرها العكسىِّ الذى قد يُسرِّعُ الحربَ بدلاً من إطفاء شرارتها. كما لم يضَعْ فى حسبانه أن تعودَ البوارجُ الأمريكيّة للمنطقة، ولا أن يُنشِّطَ الغربيِّون قُدراتهم العسكرية تحضيرًا لكلِّ الاحتمالات. ربما يكرهُ الجنرالاتُ نتنياهو؛ لكنهم يظلُّون تحت إمرته ما لم تتغيَّر التركيبةُ القائمة. وبالمثل؛ فقد تكون تناقضاتُه مع الدائرة الغربية فى أعلى مناسيبها؛ إنما لن يتركَه الحُلفاءُ وحيدًا فى الامتحانات الوجوديّة وأوقات الخطر الداهم، وستذوبُ كلُّ الخلافات بأسرع من زمن وُصول أوَّل قذيفة يُطلقها الحزبُ الشيعىّ. وهكذا؛ فرُبّما يكونُ رئيسُ أسوأ الحكومات الإسرائيلية مُثيرًا لضِيق الجميع وانزعاجهم، الداخل قبل الخارج، والصديق قبل الغريم؛ لكنَّه على غير هَوىً منهم قد يستفيدُ من حصيلة مشاعرهم السلبية المُجتمعة، فى تمرير أجندته السيئة الرامية إلى التفرقة والتفكيك.


على الأرجح؛ فإنَّ المُداولات لا تنقطعُ فى القنوات الضيّقة بشأن مُستقبل الحرب. واشنطن تسعى لإنجاز هُدنةِ غزَّة لأجل تسويقها داخليًّا لصالح بايدن، وبالتبعية فآخرُ ما تتمنَّاه أن تشتعلَ جبهةُ لبنان. ونتنياهو لا يرضى بهذا ولا ذاك، وخَصماه فى الجبهتين يُلاقيانه بأكثر ممَّا يُلاقيان الرغبةَ الأمريكية. يسعى مُختل تل أبيب لانتزاع موافقة بايدن على ضربةٍ للحزب، وعلى إبقاء الجمر مشتعلاً تحت رُكام رفح؛ وإن عجز عن تمرير الصفقة بالوفاق فقد يختلقها بالتلفيق.. الخللُ الأكبرُ أنَّ تيّار المُمانعة الشيعية يقرأُ الرسائل بأردأ الطُرق المُمكنة؛ فيعتبرُ السعىَ للتهدئة جنوبًا انتصارًا لحماس، والهربَ من التصعيد شمالاً شهادةً لبَأسِ الحزب. ولو استقام العقلُ فعلاً؛ لاكتشفوا أنهم أحوجُ لتبريد الجبهات من الحكومة الصهيونية التى تستشرفُ مُستقبلاً أحلى ما فيه مُرٌّ وقاتم.. لقد استقبلوا فى الضاحية تحذيرات المبعوث الأمريكى آموس هوكشتاين بوَصفِها مُقاومةً نفسيَّةً من عدوٍّ خائف، واستقبلوا فى غزَّة حديث هاجارى كتسليمٍ بالهزيمة أمام بقايا القسَّام، والواقع أنَّ الأوَّل يُعبِّر عن مخاوف واشنطن التى لا تعنى بالضرورة أنَّ لبنان سيكونُ أقلَّ الخاسرين، والثانى يقصدُ جاذبيّة الفكرة الروحية وخزّانَ التجنيد المفتوح لعقودٍ مُقبلة، وليس الفاعلية الراهنة على الأرض أو الاستعصاء على الانكسار الظرفىِّ.


باستثناء الإرادةِ الحارقة التى عبَّر عنها خامنئى فى ذكرى سلفه؛ فالإشاراتُ المنطقيّةُ كُلّها تنحازُ لإبرام الصفقة فى غزَّة ولو بمكاسب زهيدة؛ ثمّ ربطها بالجبهة الشمالية لإبعاد شبح الصدام الذى لا يحتملُه اللبنانيِّون إطلاقًا. استمرار الحرب يُكبِّد الجانبين مزيدًا من الخسائر؛ إنما خسارة العُزَّل الجائعين أكبر وأعصى على التعويض، وخسارة لبنان لن تتركَ لأهله بلدًا أصلاً؛ أو ستُمكِّنُ الحزبَ من رقابهم بأكثر ممَّا حَصَّلَه بعد اغتيال الحريرى واجتياح بيروت. الهُدنةُ ستسمح للغزِّيين باستكشاف الحياة خارج ميدان الحرب، وإعادة ترتيب أوراقهم، وفرز المواقف والخطابات خارج تأثيرات اللوثة العاطفية والمُثيرات المذهبية. ستفتحُ البابَ للسُلطة الوطنية أن تلعب دورًا إنقاذيًّا يُجبرها بالضرورة والمُمارسة على تحديث رؤاها وإعاة هيكلة مرافقها، وستُعزِّز قُدرةَ الحاضنة العربية على إنجاز أدوارٍ سياسية لصالح المُستقبل وإعادة الإعمار، واستثمار أثر التضحيات فى تنشيط حل الدولتين وإبعاد القضية من مجال الخيارات الصفريّة والإلغائية؛ بدلاً من استمرار الجرى فى المكان بين موتٍ وجوع.. إذا كان نتنياهو يُريدُ الحربَ ولا شىء سُواها؛ فإنَّ كلَّ المُصرِّين على تذخير البنادق إنما يلعبون فى فريقه، ولو أنكروا.. وإذا كان لا أُفقَ للحلِّ فى ظلِّ حكومة المخابيل الحالية؛ فإنَّ كلَّ ما يُطيل بقاءها أقربُ للتواطؤ على فلسطين، ولا فارق إطلاقًا بين أن يأتيه توراتىٌّ بقُلنسوةٍ، أو مُمانعٌ بعمامة سوداء.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة