حازم حسين

البناء على ميراث 30 يونيو.. التغيير الوزارى بين إنضاج السياسة وإنعاش الذاكرة

الثلاثاء، 25 يونيو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

طالت مداولاتُ تكوين الحكومة الجديدة. نحو ثلاثة أسابيع منذ الاستقالة، وفى عُرفِ السياسة قد لا تكونُ مُهلةً طويلة؛ إنما لو قارنها البعضُ بسابقة الدكتور مصطفى مدبولى نفسه مع وزارته الأولى، والفارق فيها بين التكليف وأداء اليمين أسبوعٌ واحد؛ فقد تُرَى المسألةُ فى سياق التأخُّر عن الطبيعىِّ والمُعتاد. من جانبى لا أرى فى المسار وظروفه إطالةً غير منطقية؛ إذ تخلَّلته إجازةُ عيد الأضحى التى بلغت عَمليًّا تسعةَ أيَّام، بما يُلامسُ نصفَ المُدِّة تقريبًا. أمَّا الأهمُّ من المواقيت وقياس الملف وإيقاعه على ساعات اليَدّ؛ فكيف يُوسِّسُ الجهازُ التنفيذىُّ لحقبته الجديدة فى ظلِّ الآمال والتحدِّيات القائمة، وكيف ينظرُ عَوامُ المصريين لعملٍ من خارج دائرة اهتماماتهم الروتينية اليومية، ولا يقلُّ أهميّةً عن ذلك أنْ نفحصَ كيف تعاملت النُّخَب وأهلُ الرأى مع الحالة، وهل خرجوا من فخاخ الأيديولوجيا والاستقطاب؛ أمْ تسلَّطت عليهم الأهواءُ والنوازعُ الشخصية، بعيدًا من المنطق والطرح الرزين فى كثيرٍ من الأحيان.


أحدثُ المواقف الرسمية أواخر الأسبوع الماضى، حينما اضطُرَّ مصدرٌ حكومىٌّ لنَفى ما يتردَّد عبر منصَّاتٍ إعلاميّة واجتماعيّة عن إعلان التشكيل الجديد خلال ساعات. وسبقه طابورٌ طويل من التوقُّعات والقوائم المُتداوَلة. سعى البعضُ للإيحاء بخُفوتِ الاهتمام الشعبىِّ؛ بينما تداولَ الجميعُ تقريبًا لائحةَ أسماء ادَّعوا أنها هيكلُ الحكومة المُنتظَرة. والذين أسرفوا فى إنكار الانشغال بالموضوع كانوا الأكثر تعليقًا عليه، ولم تخْلُ حساباتُهم على مواقع التواصل من نبأِ أو تحليلٍ أو زَعمٍ يومىٍّ مُنتَظِم. والحال أنَّ إعادةَ بناء الدولاب التنفيذى ليست مسألةً جاذبةً بطَبعها، لدينا مثلما لدى دُوَلٍ أُخرى عديدة، وفى الغالب تُفحَص مُخرجاتُها النهائية بأكثر من التلصُّص على مطبخها.. قد ينشغلُ الناس بانتخابات الرئاسة أو البرلمان، ثمَّ لا يعودُ التركيزُ بعدها إلى ما كان عليه؛ لسببٍ ظاهر ولا يتطلَّبُ معرفةً نادرةً من أجل تفسيره؛ إذ الحكوماتُ فى الأنظمة البرلمانية تخصُّ أحزابَ الأغلبية وائتلافاتها، ولا تخرجُ عن أجندتها ودوائر عضويَّتها إطلاقًا، أمَّا فى الأبنية الرئاسية فإنها جهازٌ مُعاونٌ لرأس السُّلطة، تستمدُّ المشروعيّةَ والرؤية وبرنامجَ العمل من شخص الرئيس وفلسفته، وتتبدَّلُ بحسب الإجادة أو الإخفاق فى فَهم المطلوب وإنجازه؛ وعليه فإنَّ الاعتناء بالحكومة الجديدة تحصَّلَ مُسبَقًا فى زمن الاستحقاق الرئاسى، ويتبقَّى إشهار ما يعرفُه الناس فى إطار التكليفات المُعلَنة.


يقعُ على الوزراء الجُدد عِبءٌ ثقيل، ولقاءاتُ المرشحين يُغلِّفها هذا الاعتبار بطبيعة الحال.. الأصلُ أنَّ الأهداف مُذاعَة والمُكلَّفون بإنفاذها محلّ فَرزٍ وانتقاء. ومن الطبيعى أن يلتقى رئيسُ الحكومةِ المُكلَّفُ عديدًا من الوجوه لكلِّ حقيبة، فيحدُثُ أن يستحسنَ واحدًا أو يرى غيرَه دون المطلوب، والمُرشَّح نفسُه ربما يختلف مع بعض الأُطر الناظمة لعملِه مُستقبلاً، أو أنْ يستثقلَ المهمَّة ولا يُحبِّذ خَوضَ غِمارها فى زمن الامتحانات الصعبة. هنا تظلُّ المسألة فى نطاق البحث والاستكشاف، ولا يكونُ دقيقًا فيها القول إنَّ فلانًا رُفِض من مدبولى أو اعتذر عن قبول دعوته. فالواقعُ أنه لحين انتهاء المُداولات يقعُ الجميع دون استثناءٍ تحت الاحتمال والمُفاضَلة، وليس كلُّ مَنْ يُبدِى قَبولاً للمسؤوليَّة سيصلُ بالضرورة للوزارة، ولا كلُّ من يَتهيَّبُها فى بادئ الأمر قد قَطعَ الطريقَ على انضمامه للهيئة الجديدة. يُشبهُ الأمرُ مُمارسةً بالمظاريف المُغلَقة يُعرف الفائز فيها بعد انتهاء كل الإجراءات، وليست مُزايدةً حاضرةً للتنفيذ الفورى بأعلى سعر، وبعدما ينصرفُ المُرشَّح أو يخلو داعيه بنفسه، سيُعيدُ كلٌّ منهما التفكيرَ على بَيّنةٍ واستبصار، وبقدرٍ من السِّعَة والأريحية، وقد يَقبَلُ ولا يُقْبَل، وقد يتردَّد ثمَّ يقتنعُ، وفى النهاية ثمّة تفاهمٌ واجبٌ مع القيادة السياسية؛ إذ هو صاحبُ الرؤية والتكليف، ولا يُمكن الحديث عن قائمةٍ نهائية قبل أن تكون محلَّ وفاقٍ بين الرئيس المُنتَخَب ووزيره الأوَّل.


مفهومٌ أنَّ ملفَ الحكومة يحظى باهتمامٍ من دوائر عِدَّة؛ ولو لم يُتَرجَم بعضُه فى مُواكبةٍ إعلامية وشعبية كثيفة. فالواقع أنَّ المُستقبل القريب لفلسفة الجهاز التنفيذى وسياسات عمله يتشكَّلُ على عيوننا فى الأيام الجارية، وبحُكم تقاطُعاته اللحظية مع أولويات المواطنين ومعاشِهم؛ فإنَّه يأخذُ صِفةً عضويّة لدى كثيرين ممن يُفكِّرون فى أحوالهم ويتطلَّعون إلى تحسينها. إنما مع الإقرار بذلك؛ فليس من المسؤولية والانضباط أن يتعجَّل البعضُ استحصالَ الخُلاصات قبل أوانها، وعلى غير أساسٍ من المعرفة الدقيقة أو الفَهم السليم؛ كأن يتداولون ترشيحاتٍ أقرب للتوقُّع أو التخمين، أو أن ينشطَ أحدُ الإعلاميين على المنصَّات الرقميّة بين وقتٍ وآخر؛ طارحًا تفاصيل تُقعُ فى نطاق الأفكار البنيوية والتنظيمية، بأكثر من كونِها معلوماتٍ أو رؤىً أَخَذَت طريقَها للتنفيذ. ومن هذا القبيل ما أُثِير عن ضَمِّ حقائب أو فَصْلِ غيرها، وتقليص عدد الوزارات أو استحداث أُخرى جديدة، وهى مسائلُ لا تتَّصلُ فقط بالآمال الإدارية أو بالملاءة البشرية، ولا يكفى فيها أن تتوافر النِّيَّة أو الكوادر الصالحة؛ إذ ترتبطُ باعتباراتٍ هيكلية ومالية، ودرجاتٍ وظيفية، وتخطيطٍ للموازنة والإنفاق، وسياسات مرحليّة وطويلة المدى، وغيرها الكثير من المعايير والضوابط التى قد تَفرضُ الإبقاءَ على وَضعٍ؛ ولو رآه فريقٌ من الرائين غيرَ مِثالىٍّ، أو تُعطِّل استحداثَ غيرِه مهما تصوُّر فيه المُراقبون نَفعًا وفائدة. وما يفعلُه الناشطون فى بُورصة الترشحيات الحكومية دون بصيرةٍ وإلمام، أنهم يُوطِّنون نُفوسَ الجمهور على تركيبةٍ مُعيَّنة، ويرفعون لديهم سَقفَ الاحتمالات فارضين وَجهًا بعَينِه لفكرة التغيير؛ وهكذا فقد لا يعودُ ما يُستَقَرُّ عليه بعدها مُقنعًا للناس؛ لا لشىءٍ إلَّا أنه لم يُطابِقْ ما سُوِّقَ لهم من أشخاصٍ انطلقوا فى تحليلاتهم الخفيفة غير مُستندين لمَنطقٍ أو معلومة.


وما يفوق ذلك أَثَرًا؛ أنَّ بعضَ الحزبيِّين والتكنوقراط يحصرون طُروحاتهم فى السياسة لا التنفيذ، وفى الرؤية لا شخصَ المُكلِّف بإجرائها. وفقَ هذا التصوُّر يُخرِجون أنفُسَهم تمامًا من بورصة الأسماء الصاعدة والهابطة، ويلتزمون حُكمًا بانتظار التشكيل الكامل، ثمَّ إلقاء بيان الحكومة أمام مجلس النواب. لكنهم سرعان ما ينقلبون على خطابهم وما صَكّوه من حدودٍ وضوابط؛ فيتداولون فى هُويَّة الوزراء المُحتمَلين ومدى مُناسبتهم للمهمَّة والظَّرف، أو ينشطَ غيرُهم فى الحديث عن بورصة الرَّفْض والاعتذارات. وهم يعلمون بالضرورةِ أنَّ العملَ التنفيذىَّ فى بيئةٍ رئاسية أو شبه رئاسيَّة لا يتحدَّدُ فى ضوء طبيعة الصف الثانى ومَنْ بعدهم، وحتى فى البيئات البرلمانية تُؤسِّسُ الأحزابُ حُكوماتها على طابعٍ أيديولوجىٍّ أو ائتلافى، وينحصرُ السؤال فى الأجندة والبرامج لا فى الأفراد وخلفيَّاتهم. وما الجَمعُ بين المُتناقضات فى مُقاربة الملف الحكومىِّ، بالنظر من زاوية السياسة حينًا والتكنوقراطيّة أحيانًا، أو التقيُّد بولاية الرئيس وحقِّه الدستورى، ثمَّ إثارة مسائل تتعامل مع التشكيل الجديد كحكومةِ أغلبيّةٍ برلمانية؛ إنما يَمسُّ نزاهةَ المُشتبكين مع المسألة باعتباراتٍ سياسية أو شخصية، وعلى أرضيَّة الترصُّد والمُكايدة؛ بأكثر ممَّا هى مُحاولةٌ بريئة للفَهم والاستشراف.


أحدُ البارزين فى أوساط النُّخبَة المدنيّة، ويُعرِّف نفسَه بعشرين وَصفًا لا يبدو بين الصفِّ الأوَّل فى أغلبها، يُكثِرُ من الحديث عن اعتذارات المُرشَّحين؛ رغم استحالة أن يكون مُطَّلعًا على الكواليس، وهو بطبيعة الحال ليس قريبًا من دوائر صُنع القرار، ولا يعرفُ حَتمًا كلَّ المَدعُوِّين للمُداولات ورُدودَ فعلِهم. والرجلُ الناشط فى المجال العام بحماسةِ نشاطه فى الأدب والنقد والمُجتمع المدنى وغيرها، يُقاربُ الموضوعَ من السَّطْح لغاية المُعارضة بمعناها الراديكالى «العالم ثالثى» الأقرب للاحتراب، وليس بوجهٍ ديناميكىٍّ ناضجٍ ينظرُ لها من زاويةِ أنها مُحاورةٌ دائمةٌ وجَدَلٌ خلَّاق. حدثَ قبل اثنتى عشرةَ سنة أنَّه ذهب لدعم مُرشَّح الإخوان للرئاسة، المعزول الراحل محمد مرسى، فى «مؤتمر فيرمونت» الشهير، الذى صار فضيحةً ماثلةً فى الذاكرة النُّخبويّة والشعبية. التقى قادةَ التنظيم الإرهابى فى الغُرفةِ المُغلَقة لعِدَّة ساعات؛ ثمَّ انصرف قبل دقائق التصوير. وبهذا المنطق التلفيقى من مُقاربة المُتناقضات وإمساك العصا من خاصرتها، ما يزال يُقارِبُ الشأنَ العام فى أغلب تفاصيله، على طريقة الذاهبين إلى حفلات الأعراس سعيًا وراء بوفيه العشاء، ولا يعنيهم أن يبتهجوا مع المُبتهجين أو يُهنِّئوا العروسين وذويهم، ولا حتى أن يُقيموا بوَابة وردٍ مائلةً أو يُضيئوا مِصباحًا مُطفأً. والعوارُ فى هذا السلوك، وقد صار مُعتَمَدًا بين طيفٍ واسع من التيَّارات المدنية؛ أنه يبحثُ عن المنفعة دون اشتباكٍ حقيقىٍّ أو دخولٍ جادٍّ فى التجربة، ويقفُ على الشاطئ بكامل ملابسه، مُقدِّمًا النُّصحَ والنقدَ للسابحين فى لُجَّة الماء، والأمر لا ينحصرُ هنا فى تلك الحالة المُدَّعَاة من الوعى والطُّهرانية؛ بقدر ما يتَّسع لرُزْمَةٍ من المُوبقات التى من مآخذها الابتسار والتحريف والشعبوية، والوصم الزهيد، واستمراء البطولات المجَّانية.


أيًّا يكونُ شكلُ حكومة مدبولى الثانية؛ فسيختلفُ بالضرورة عن نُسختِها الأُولى. باكورة الفُروق أنها طبيعةُ الزمن، وقد تبدَّل وعىُ المسؤول التنفيذىِّ الأوَّل بعد ستِّ سنواتٍ من التجربة؛ ثمَّ إنَّ المرحلةَ بكاملها مُغايرةٌ لِمَا سبقَ فى كلِّ التفاصيل، وأولويَّاتُ الدولة اختلفت عمَّا كانت عليه فى السنوات التالية لثورة 30 يونيو. التحدّيات تغيَّرت حَجمًا ونَوعًا، ودخلت عليها أُمورٌ تتَّصل بالأمن القومىِّ والأوضاع الإقليمية المُلتهبة، وتنعكسُ اضطراريًّا على الاقتصاد وخُطَط الاستثمار والتنمية. والرئيسُ فى ولايته الثالثة يُرتِّب أُمورًا مُستجدَّة قبل أُخرى سابقة، لعلَّ أهمَّها ما يخصُّ توسعةَ المجال العام، وتنشيط البيئة السياسية، وترميم التحالُف المدنىِّ الذى تصدَّى للإخوان وتقوية دعائمه. كما سيكونُ الجهازُ التنفيذىُّ أمامَ استحقاقٍ لم يختبرْه من قبل بصورةٍ كاملة؛ وإن اشتبك معه جزئيًّا خلال الشهور الماضية. فالحوار الوطنى اتَّخذ طابعًا مُؤسَّسيًّا تترشَّحُ استدامتُه، وانفتحَ قوسُه لقضايا وعناوين كانت مُستبعدَةً بقرارٍ من مجلس أُمنائه، قبل أن يُعيدها الرئيسُ لطاولته فى خطابى التنصيب وإفطار الأسرة المصرية خلال أبريل الماضى، وأهمّها السياسة الخارجية والاستراتيجيات الأمنيّة العُليا. والمعنى؛ أنَّ الباقين فى الحكومة أو الداخلين الجُدد على تركيبتها؛ سيجدون أنفسَهم أمام اعتباراتٍ مُتحرِّكة وناشئةٍ تفرضُ تبديلَ الأساليب القديمة، أو تطويرها، أو استحداث ما يُفارقها بالعموم. وإذا دَمَجنا العامَّ الذى أنتجته الظروف، بالخاصِّ المُؤطَّر بالرؤية الرئاسية وحُدود بيان التكليف؛ فالخلاصةُ أنَّ التنفيذيِّين مُجبَرون بقضاء الواقع والضرورة على أن يُغيِّروا دماءهم ويُحدِّثوا تفكيرَهم، وستفرضُ الامتحانات نفسَها على الجميع وربما ترسمُ مساراتهم؛ بغَضِّ النظر عن طبيعة الشخوص وخلفيَّاتهم المعرفية، وعُمق إدراكهم وانحيازاتهم الفكرية والسياسية.


إن سُئِلتُ بشكلٍ شخصىِّ؛ سأُجِيب بأننى كنتُ أُفضِّل تقليصَ الحكومة لنصفِ عَددها الحالىِّ، ودَمج الوزارات المُتقاطعة فى ملفَّاتٍ حيويّة، مع إيلاء الاقتصاد والاستثمار والثقافة اهتمامًا مُركَّزًا؛ باستحداثِ مجموعةٍ وزاريّة مَعنيَّة بالهُويَّة وبناء الإنسان، وإعادة تحفيز المجموعة الاقتصادية، بالهيكلة والصلاحيات وبرامج العمل المُحدَّدة بأهداف مُسبَقة قابلة للقياس. وكتبتُ سابقًا أننى أتوقَّعُ تغييرًا لا يقلُّ عن نصفِ الوزراء الحاليين، وربما يتجاوز ذلك، وهو طَرحٌ فى نطاق الأفكار لا أدَّعيه عِلمًا باطنيًّا ولا اطّلاعًا على الخفايا. إنما عَمليًّا وفى مجال الإجراء النظامىِّ فإنّنى لا أُصادر على الدكتور مدبولى فى إدارة تجربته كيفما يرى، ولا أعتبرُ أنَّ شكليات العدد والمَأسَسة الداخلية فى مجلس الوزراء قد تُغيِّر كثيرًا فى جَوهر الالتزامات وطبيعة المسائل المُلحَّة، وكُلها معروفة للجميع تقريبًا، وتفرضُ نفسَها قبل أن تمتدّ الأيادى لانتخابها. ربما يكونُ الأمرُ هُنا أقربَ إلى الرياضة الذهنية، والبحث عن حالةٍ مِثاليّة تتَّسع لها الساحةُ فى حالاتها العادية؛ إنما ما نقفُ أمامَه ولا يختلف فيه اثنان، حتى رئيس الحكومة المُكلَّف، خُلاصته أنَّ الأولويات واضحةٌ ومَحلُّ اتِّفاقٍ مُعتَبَر، وربما لا يقبلُ المجالُ حاليًا مزيدًا من التجريب والجدليَّات والنمذجة النظرية التى تنتظر الاختبارَ والتطبيق؛ بقدر ما تحتاجُ اللحظة إجماعًا صُلبًا على الحُدود الدنيا، وبناءً وطيدًا تتقدَّمُ فيه الحاجات العاجلة على الآمال المُرجَأة، والآليَّاتُ سابقةُ الاعتماد والتقويم، على البدائل التى لم تُختَبَر أو تُوضَع تحت الضَّبْط والحَوكَمة.


ربّما من حسنات الإرجاءِ أنْ يتواكبَ إعلانُ التغيير الوزارىِّ مع أجواء «30 يونيو» وذكراها الحادية عشرة. لقد كانت اللحظةُ المدنيّةُ وقتَها إجماعًا فى زمنِ الأزمة، تلاقَى فيها الجميعُ على هدف الخلاص من عدوٍّ حاضر، دون استشرافٍ للآتى أو معالم واضحة لما قد يؤول إليه المُستقبل.. وقد خاضت الدولةُ حربًا شرسةً بكلِّ المعانى، مع إرهاب الداخل وانحيازات الخارج، وقضت سنواتٍ فى دوّامةٍ من النزيف الفائر والاستنزاف الحاد للموارد والمُقدَّرات. والحال اليوم لا تخلو من تشابُهاتٍ مع ما كان فى العقد الماضى؛ فالأعداءُ حاضرون بصورةٍ أو أُخرى، وامتحاناتُ الأمن القومىِّ تتّخذ أشكالاً لا تقلُّ غشومةً عمّا كان، وبعضُها من المحاور الاستراتيجية نفسِها؛ كما يجرى عند الشمال الشرقى مثلاً. كما أنَّ مُعضلات البيئة الداخلية تتجدَّد أو تتناسَلُ من رَحم الأزمات القديمة والمُستجَدَّة، والمطلوب ليس أن يُوظِّف كلُّ فريقٍ مُفردات المشهد لصالح إثبات صواب رؤاه أو تسييد طَرحِه الأيديولوجىِّ، بقدر ما يتوجَّب أن ينزلَ الجميع عن المُناكفات إلى المُشتركات، وأن تُدارَ المسألةُ مع الدولة ومرافقها فى نطاق الشراكة لا الجفاء والاختصام. أجواءُ الذكرى تُنعِشُ الذاكرةَ بكلِّ ما عانيناه من تحدِّياتٍ جسام، وعبرناه بثقةٍ وثبات، والتحوُّلات الجارية تُبشِّر بنضجٍ سياسىٍّ على قاعدةِ التجربة والتراكُم، والحكومة الجديدة بتفاصيلها الوِفاقيّة أو الخلافية قد تكونُ فرصةً للبناء على ميراث 30 يونيو؛ بمعنى أن نقفَ على مشارف اللحظة مُستعدِّين لما بعدها، وأن ننطلق فى عملية التحديث السياسى والإدارى من مُنطَلَقٍ معلوم، وليس من فراغٍ تحكمُه الهواجس والأفكار الطُوباويّة المُعلَّقة فى الفراغ، والتى عَجز مُروِّجوها عن تفعيلها فى وجوه الإخوان ولعقودٍ طويلة قبلهم.. إنها خُطوةٌ على طريقٍ قابلةٍ لمزيدٍ من التمهيد والتَّوسِعة؛ المهمُّ أنْ تُؤخَذ بحقِّها، فى النظر لدولابِ الدولة وفى الاشتباك معه، وفى الخروج من هذا وذاك إلى حوارٍ وطنىٍّ أكثر فاعليّةً، وإلى أبنيةٍ حزبيّة كفؤة ومُتجدِّدة، وأقدر على إقناع الناس بالعقل والحُجّة، وليس استسهال تضليلهم بالشعارات والشائعات.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة