يعتبر التعليم على المستوى المجتمعي المشروع الأسري الأولى بالرعاية، فكل أسرة تعتبر أن تعليم أبنائها هو الهدف الأسمى الذي يمكن التضحية بأي شيء من أجل تحقيقه، وهو أمر محمود بالطبع، وقد بدأ منذ منتصف القرن السابق ومنذ مقولة د طه حسين التي أشارت إلى أهمية التعليم من حيث هو حق لا يمكن الاستغناء عنه كالماء والهواء.
غير أن هناك إشكاليات قد بدأت في التبلور من خلال رغبات الأسر المصرية في تعليم أبنائها واعتبار أن التعليم هو السبيل الأوحد للترقي الطبقي، فصارت هناك فئات للتعليم هي الأولى بالاهتمام، وأصبح الانتماء لإحدى هذه الفئات معيارا مجتمعيا للتعامل مع الشخص، فأن تدرس الطب أو الهندسة هو بالتأكيد باب لأن يتعامل معك أفراد الأسرة والأصدقاء بصورة أكثر تبجيلا، وما دونهما يؤثر في هذه الطريقة حسب درجات محسوبة بدقة لدرجة أنه في بعض مناطق المجتمع يتم قبول الزوج من عدمه بناء على معيار الدراسة فلا يجوز أن تتزوج دارسة الطب من دارس الآداب مثلا، ليصبح معيار مجموع الثانوية العامة هو المتحكم في كثير من جوانب الحياة.
تبدو هذه الإشكالية غريبة إلى حد بعيد ويتحكم فيها اتجاه اجتماعي تم ترسيخه عبر تراكم سنوات طوال حيث تم تثبيت هذا المعيار المجتمعي التعليمي بغض النظر عن حاجات المجتمع الحقيقية وحاجات سوق العمل والأهم من ذلك بغض النظر عن رغبات واحتياجات وميول الأبناء الذين يقعون فريسة لهذه المشكلة فمنهم من يدرس تخصصا ما فقط لأنه قد حصل مجموعا في الثانوية العامة يؤهله له، غير أن المشكلة الأكثر أهمية هي أن كثيرا من أبنائنا – مدفوعين بالضغط الأسري لدراسة التخصصات الفاخرة – يصبحون غير محددين لميولهم الحقيقية، بل يتسابقون فقط من أجل إرضاء الأسرة والحصول على مجموع كبير، وكثيرا ما تسأل واحدا منهم عن ما يهتم به فتكون الإجابة مشوشة غائمة إن كانت هناك إجابة أصلا.
فالسؤال الأكثر أهمية في موسم التنسيق الجامعي يكون حول مدى تأهيل المجموع لكليات القمة دونما اعتبار لما يريده الابن، وهو الأمر الذي وسع من دائرة المشكلة ليصبح هناك ضغط على كليات بعينها لا تتحمل الأعداد الكبيرة، ولا يتحمل سوق العمل الأعداد التي تتخرج فيها، وهو الأمر الذي أسهم في تعقد مشكلة التعليم ليصير الهدف الأهم لدى كثير من الأسر هو حصول الأبناء على مجموع كبير بغض النظر عن كون المجموع مؤشرا على مستوى التحصيل ناهيك عن الميول الواجب تنميتها.
ستظل هذه المشكلة المعقدة تلقي بظلالها كل عام على المجتمع المصري، وسيظل التعليم مشكلة معقدة حتى يتم علاج مرض اجتماعي ينظر إلى التعليم بوصفه مؤشرا طبقيا، قبل أن ينظر إليه بوصفه تنمية لقدرات موجودة بالفعل.
فالأولى أن نعلم أولادنا كيف يكتشفون ما يحبونه ونساعدهم على أن يقوموا بتنميته، لا أن نكبته من أجل أن ندخلهم في نطاق معيارنا الخاص، والأولى ألا نضغط عليهم ذلك الضغط النفسي الذي يجعل من عام الثانوية العامة ومن تجربة التنسيق الجامعي كابوسا حقيقيا ربما لا يمر منه الطالب سالما، فربما يدرس الطالب تخصصا نراه أقل من غيره لكنه بميله له يحقق فيه ما لا يستطيع من يدرس التخصص الفاخر تحقيقه فقط لأنه لا يميل إليه.