أغمض المصريون عيونهم فى لحظةٍ فوضوية؛ فخيَّم الظلام عليهم بأكثر ممَّا تخيَّل أشدُّهم تشاؤمًا. كان صعودُ الإخوان للسلطة حدثًا زلزاليًّا شديد الإزعاج والخطورة؛ إذ لم يُمثَّل مجرَّد تصحيفٍ سياسى فى مسار المدنيَّة المُرتبكة منذ يوليو 1952 وقبلها، إنما كان ارتدادًا عميقًا فى الزمن، وأقربَ لانعكاس حركة التاريخ وصيرورته.. فالآتونَ من مَتنِ الأُصوليَّة الرثَّة، بعقولٍ قُروسطيَّة وهيئاتٍ حداثيّة مُلفَّقة، وضعوا المجال العام أمام امتحانٍ لم يختبره من قبل؛ كأنَّ فجوةً زمنيّة انفتحت فى وجوه الناس، لتضعَهم فى مواجهةٍ حارقة مع كلِّ اللحظات الخلافية التى سَمعوا عنها ولم يروها: نزاعات السقيفة، والفتنة الكبرى، وصراع العباسيِّين مع الفُرس، وحقبة مُلوك الطوائف الأندلُسيَّة، وصولاً إلى مُؤامرات المماليك ووحشيَّة العثمانيين. كلّها تكثَّفت واختُزلِت فى ميراث حسن البنَّا ووارثيه، بكلِّ ما يتسلَّط عليهم من إيغالٍ فى الرجعية، وانفصالٍ عن العصر، وتشدُّدٍ سُنِّى تُغلِّفه تقيَّةٌ شِيعيَّة. وعلى هذا المعنى؛ فإنَّ ثورة 25 يناير صارت «صندوق باندورا» المُعبَّأ بالميثولوجيا وشرورها، فيما يُشبه الانقلاب الذاتىِّ من الحدث على نفسه؛ فالهبَّة الشعبيّة التى تطلَّعت للإصلاح والتغيير، وجدت نفسَها فجأةً فى صدامٍ مع ظلالٍ ثيوقراطيّة، لا تُهدِّد المستقبلَ المأمولَ فحَسْب؛ إنّما تسرقُ أيضًا ما تبقَّى من مزايا الحاضر المَعِيب.
لم يكُن الرهانُ على حداثة التجربةِ وإنضاجها بالمُمارسة صالحًا مع الإخوان. الجماعةُ التى تأسَّست قبل 2011 بثلاثٍ وثمانين سنَّة ظلَّت على ضلالها القديم، ولم تُغيِّر العقودُ المُتلاحقةُ شيئًا ذا قيمةٍ فى ثوابتها وأفكارها. لقد انبَنت على رؤيةٍ احتكاريّة للدين، سواء فى إطلاق التسمية المشمول بالتعريف والإضافة، أو فى تنظيرات المُؤسَّس التى استبدَّت بفكرة «الفرقة الناجية» لتحصرها فى التنظيم. ونشأت عن تلك البِنيَة اعتلالاتٌ نفسيّة ثبَّتت صيغةَ «الولاء والبراء» ومُمارسات الاستعلاء بالدين، وأجازت من وراء ذلك المكرَ والخديعةَ وانتهاجَ العُنفِ سبيلاً للتمدُّد والتمكين. وإذا كان تاريخُ الاعتقاد حافلاً بفِرَقٍ شَتّى مُتعارضة، تقاسمت معًا أمراض البداوة والقبائلية والانغلاق وتسليح الفِقه المُتشدِّد؛ فيكاد الإخوان وحدهم أن ينفردوا بكلِّ المُوبقات دفعةً واحدة؛ حتى أنه لم يعُد مُمكنًا التوصُّل إلى أيَّة مُقاربةٍ منطقية معهم، فى الدينى أو الدنيوى، ولا الركون إلى التوافقات المُعلَنة من جانبهم بوصفها دِرعًا آمنةً من تقلُّباتهم الماكرة والمُتكرِّرة. باختصار، كان التعايشُ احتمالاً مُستحيلاً، وبينما اختاروا ذلك واعتمدوه منهجًا؛ فإنَّ كثيرًا من التيَّارات المدنية ارتضت أن تُلدَغ من جُحرهم مرَّةً بعد أُخرى، وأن تُوفِّر لهم «حصانَ طروادة» الصالح دومًا لاختراق العقل الجمعى ومجاله العام، دون أن يفقدَ بريقَه المُخادعَ، أو يتوقَّف الواهمون عن تكرار اللعبة ورهاناتها الخائبة.
لقد كان ظاهرُ الخلاف فى تكييف المشهد السياسىِّ ما بعد يناير؛ أمَّا باطنُه فينبعُ من الخصومة الوطنية العميقة مع الإخوان منذ نشأتهم، أو بالأحرى مسألة الهوية وكيانية الدولة الحديثة، فى تضادٍّ عميق مع الأفكار المُستدعَاة من كُتبٍ بالية ومَرجعيَّاتٍ بدائية. وهكذا فالمهمَّة التى اضطلعت بها ثورة 30 يونيو، ونحتفل اليوم بذكراها الحادية عشرة، لم تكُن اشتباكًا خالصًا مع الحاضر فى تحدِّياته البسيطة، ولا استدراكًا على الانحراف البسيط، من صناديق الاستفتاء الدستورى فى مارس 2011 إلى بطاقات الاقتراع الرئاسى فى يونيو 2012؛ بل كانت فى واقع الأمر رجوعًا اضطراريًّا لحَسم المسألة من جذورها، واختصام الأضاليل القديمة عند منابعها التاريخية، بمعنى الفصل الحاد وغير المُتواطئ بين العقل والنقل، بين رُوحيَّة الدين وحركيَّاته، وأن يتحرَّر الزمنُ المُتحرِّك من سطوة الماضويّةِ المُتيبِّسَة. أى أنَّ الخارجين على الجماعة فى عُنفوان سُلطتها؛ كانوا يخوضون المُواجهة المُؤجَّلةَ معها منذ ولادتها. وبينما يتصدَّون لإفرازات الشَّرخ التاريخىِّ خلال 2013؛ فإنهم كانوا يسدُّون منابعَه فى 1928، وربما فيما قبل ذلك بكثير.
نقفُ اليومَ على مسافةٍ كافية من الحدث؛ لننظُرَ فى تفاصيله ونُقيِّم مُقدِّماته ونتائجه. والحال أنَّ ما يُتَّخَذ راهنًا مادّةً للحُكم على الجماعة ليس مناطَ الخُصومة الحقيقية، ولا أثمنَ ما فى نهار 30 يونيو وثورته الهادرة. عناصرُ الخلاف مع التنظيم صارت شائعةً، والجميعُ تقريبًا يعرفونها باتِّفاقٍ لا تشوبه مُناكفةٌ أو إنكار: من اقتحام الحدود، إلى تهريب المسجونين، فالقفز على ثورة يناير، ومحاولة تَديينها، واختطاف الدولة ومرافقها طمعًا فى تقويضها من الداخل، لا مُجرَّد التسلُّط على نظامها القائم. إنما فى الجوهر؛ لم يكن الصراعُ على الحُكم وطبيعته، بقدر ما كان على العقل الذى يُمكن أن يُحصِّن العقدَ الاجتماعىَّ، أو ينقُضُه ويُبدِّله. لقد كان خطأ الأنظمة السابقة أنها أَرْخت الحبلَ للرجعيَّة الإخوانية، وأطلقت أياديهم فى المجال العام من أدناه إلى أعلاه، ومن هنا تشكَّلت سُلطةُ الجماعة الشعبية قبل أن تصل إلى السلطة النظاميَّة. وعلى ما فات؛ فإنَّ الإزاحةَ بعيدًا من إدراك الناس وعاطفتهم، كانت الأهمَّ والأكثرَ تأثيرًا من طردهم خارج الدولاب التنفيذى. وفى ذلك ما يجعلُ الثورةَ الحقيقيّةَ فيما تلا 30 يونيو؛ بأكثر ممَّا فى الحدث نفسِه بكلِّ ما له من قيمةٍ ورمزية.
ما كانت المُنازعةُ مع الإخوان على ظاهر الصورة وملامحها؛ إنما على عُمقِها الخَفىِّ، الذى يحكُمُ آلةَ تكوينها وآليّةَ تشكيلها وإعادة بنائها. لهذا فمن التبسيط الحديث عن المغالبة والاحتكار، وعن الاستئثار بالمناصب واستبعاد المُختلفين، كما من الخفَّة والاستخفاف أن تُحصَرَ المسألةُ فى سوء الإدارة وانعدام الكفاءة، وفيما تحصَّل عن شهور حُكمِهم من مصاعب وأزمات. لقد تكالبوا فعلاً، وأخفقوا من دون شَكٍّ، وصَعّبوا الأمورَ على الناس بأكثر ممَّا كانت؛ ولعلَّ بعض ذلك يحوزُ مكانًا مُتقدِّمًا بين مُلهبات الغضب الشعبى، وفائض الطاقة الذى دار فى غُرفِ الاحتراق؛ فحرّكَ الثائرين ليدهسوا الجماعةَ بأحذيتهم الثقيلة؛ لكنَّ الثورةَ نفسَها كأيَّةِ جُملةٍ بليغة، كان لها معنىً ظاهرٌ ومعانٍ مُضمَرة، وأهمُّ ما وراء التأويلات أنها كانت انتفاضةَ العصر على الماضى، والهوية الصافية على القَولَبة والتشويه، وكانت ثأرَ المصريين بأثرٍ رجعىٍّ من كلِّ الرَّجعيَّات التى لَوَّثَت مَاءهم، وطبعت مسارَهم الحضارىَّ الطويل بتشوُّهاتٍ لا تخصُّهم، ولا تُوافِق طِباعَهم المُتسلسلة جينيًّا من قديم الأزمان، رغم كلِّ العوارض والانتهاكات.
العداوةُ الحقيقية مع الإخوان أقدمُ من يناير ويونيو معًا. إنه القَصاصُ من شَقِّ الصفِّ الوطنىِّ الناهض بعد ثورة 1919، وقتما تلمَّسَ المصريِّون وحدتَهم على مُشتركاتٍ وطنيّة جامعة؛ فجاء حسن البنَّا بجماعته ليذرَّ الرمادَ فى العيون، ويتحالف مع العدوِّ القريب والبعيد. لقد جعلَ مُدرِّس الخطِّ العربىِّ الباحث عن ذيوعٍ شخصىٍّ من الدين مَنصّةً للفرز والتقسيم، وحملَ السلاحَ على حاضنته القريبة انتصارًا لغايةٍ لا تخصُّ التحرُّرَ والاستقلال؛ بل تتعشَّم أن تنقلَ البلد من احتلالٍ إلى آخر. وهكذا لم يعُد الإنجليز أعداء إلَّا بمقدار المسافة بين لندن والآستانة، أو بين المندوب السامى والخلافة التى تستبدلُ الآيات بالدبابات. والرجل إذ لم يستنكفْ أن يقبضَ مالاً طائلاً من الفرنسيِّين فى شركة قناة السويس، ولا أن يُقدِّم نفسَه لحاشيةِ المَلك بلطجيًّا مُرتزقًا فى مُواجهةِ القُوى الوطنية بشعبيَّتها الكاسحة، ثمّ شرّع تقتيلَ المُخالفين ومن لا يُقرّون الجماعةَ على انحرافاتها؛ فإنه كان يُصادر حجِّيّة الوطن وميثاقيَّته؛ لصالح مَرجعيَّةٍ لا قيدَ عليها ولا حاجةَ لتبرير سقطاتها.. وهذا ممَّا يتطابقُ مع تأسيسيّة الدستور المُشوَّهة بعد وُصولهم للرئاسة، ومع الإعلان الدستورىِّ الذى أصدرَه المعزولُ مرسى، وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى، وقَتل المُعارضين على أسوار قصر الاتحادية ومكتب الإرشاد. سياقان مُتطابقان تمامًا: الأوَّل كانوا فيه على أطراف السلطة، والثانى وهُم فى قلبِها. والخلاصةُ أنَّ الزمن لم يُغيِّرهم، وأنَّ التمكين زادَهم توحُّشًا؛ فالعِلَّة فى التركيبة نفسِها لا فى المناخ المُحيط وظروفه المُتبدِّلة.
الإرهابُ الذى مُورِسَ بعد 30 يونيو ما كان عارضًا، ولا طارئًا على الإخوان. التأصيلُ راسخٌ منذ رسالة البنَّا فى المُؤتمر العام الخامس، والتطبيقُ واكبَه سريعًا خلال ثلاثينيَّات القرن الماضى وما بعدها؛ ثمَّ لم ينقَطِع فى أيَّة لحظة حتى اليوم. ما حدثَ أنَّ الجماعةَ كَشَطت الجُزءَ الظاهر من جبل الجليد؛ لكنّه كان يبزُغ من تحت مائها الآسنِ بين وقتٍ وآخر. استهدافُ عبد الناصر فى المنشيَّة، وتنظيم سيد قطب فى الستينيَّات، ولوثة عصابات الجنازير الطُلَّابية ضد اليسار والقوميِّين فى الجامعات طوال السبعينيات، وعُنف الثمانينيات، واغتيالات السادات والذهبى وفرج فودة وغيرهم، واستعراض ميليشيَّات جامعة الأزهر فى أوَّل الألفية والحوادث التى تلته فى القاهرة وغيرها. كانت بصمةُ الإخوان حاضرةً فى بعض الجرائم وخَفيَّةً فى غيرها؛ إنما لم تنقطع صِلَتُها إطلاقًا بالأطراف والإفرازات الخارجة من دَمَامِلِها القديمة. لقد ربطَت نفسَها بالإرهاب النظامىِّ وقتما أنابت عبد المنعم أبو الفتوح على الجبهة الأفغانية، وأرسلت المُقاتلين ثمَّ احتضنتهم بعد العودة، وسخَّرت موارد النقابات التى هيمنت عليها فى تصليب مشروعِها العُنفى المطبوخ خارج الحدود. والنموذجُ الصارخ لتعرية قنوات التنسيق تجلَّى فى تدفُّق المُسلَّحين من الحدود الشرقية وقتَ يناير، وحديث مرسى عن سلامة الإرهابيين/ الخاطفين، فى واقعة خطف الجنود الشهيرة، واتّصال ديوانه الرئاسى بالظواهرى والتكفيريين الذين تدفّقوا على سيناء تحت ولايتهم، وُصولاً إلى مُجاهرة البلتاجى بيَدِهم العُليا على الحَركِيَّات المُسلَّحة جميعًا؛ لِحَدِّ المُقايضة بوَقف الإرهاب إنْ هُم عادوا للسُّلطة، وإنْ أحبَطَت المُؤسَّسات إرادةَ الثائرين فى يونيو.
أنا وكثيرون معى لم نختصِمْ الإخوانَ ابتداء من 2011، ولا احتدامًا فى 2013. لقد كانت الخصومةُ معهم عتيقةً بما يُوازى عُمرَ الجماعة أو يسبقُها وُجودًا. إنها القطيعةُ الوُجوبيَّة مع الرجعيَّة والاستتباع تحت رايةٍ مذهبيَّة مُلوَّنة، والخروج العقلانىّ انتصارًا للحياة المدنيّة السيَّارةِ على الرِّدَّة القبائلية المُتقيِّحَة. ومن هنا فلا فارقَ لدىَّ بين إخفاق الجماعة وإجادتها؛ فحتَّى لو أحسنتْ الإدارةَ وتصدَّت للسياسة بحقِّها، فما كانت التناقضاتُ لتذوبَ أو يخفُتَ لهيبُها.. إنهم مثلما سَعَوا إلى تنميط المشهد الاحتجاجىِّ فى يناير، واختزاله فى صُورةٍ مُنمَّقة للأيام الثمانية عشرة فى ميدان التحرير؛ حتى لَيَكُونَ بمَقدورهم بعدها تلويث كلِّ الفعاليات المُضادَّة لهم، بدعايةِ أنَّها لا تُمثِّل الثورةَ وشبابَها الطاهر. فقد أحبُّوا حَصرَ الصراع معهم فى ظِلاله الاجتماعية والمعيشية؛ لصَرفِ النظر عن جوهر الخلاف الحقيقىِّ العميق، ولأجل استغلال أيّة مَصاعب تاليةٍ فى استهداف الجبهة المُناوئة لهم، والمُجتمعات بطبعِها لا تخلو من أزمات؛ لا سيَّما بعد الفورات الشعبيَّة والانتقالات الحادة. النَّمْذَجةُ الينايريَّة تجاوزت حقيقةَ أنَّ الاجتماع البشرى مُركَّبٌ ومُتداخل، وقادرٌ على استيعاب المُتناقضات فى كلِّ وقتٍ وتحت أيَّة ظروف؛ ما يعنى أنَّ الغاضبين كان بينهم الشريف النزيه، وفيهم اللص والمُتربِّح والفاسدُ المنحرفُ أيضًا، كما أنَّ تأطيرَ الخروج عليهم بأنه مُنازعةٌ اقتصادية بالأساس؛ يُغيِّبُ الوعىَ العامَ عن منشأ الأزمة ومَدارِها، وهو أنَّ الاشتباكَ واقعٌ فى نطاق الهُويَّة وقضايا الوجود، وعلى العقل والمعرفة، وللمستقبل قبل الحاضر، وليس على القاعدة السخيفة «احيينى النهارده ومَوِّتنى بُكرة».
المسألةُ لم تكن فى صعود مُرسى للرئاسة بمفرده أم تحت إِبِط محمد بديع ومكتب الإرشاد. إذ لو كانوا أذكياءَ قليلاً لغيَّروا عناصرَ الخطَّة وتكتيكاتها، وتدرَّجوا فى هَضم الدولة بالمَضغ البطىء بدلاً من الابتلاع المُتعَجِّل؛ لكنَّ الخللَ البينوىَّ لديهم لم يكن لِيَغيبَ عن العين البصيرة وقتَها أيضًا. تجاوزَ الأمرُ نطاقَ الانقلاب على الثورة الأولى وإرادة جماهيرها، وما إذا كان مقبولاً الانفرادُ بالسُّلطة أمْ يتعيَّن اقتسامُها مع الآخرين. إنَّ المُعضلةَ الحقيقية تمثَّلت فى أنهم وضعونا على مُفترَقٍ وُجودىٍّ لا يُتيحُ رفاهيةَ المُفاضلة بين الخيارين: دولة أم عصابة. وعلى هذا؛ فلم يكُن الخطر فى تطويع التنظيم الدَّوْلَتِى لخدمة أهداف الجماعة؛ إنما فى تغييبه بالكُلِّية تمهيدًا لأنْ تَحِلَّ الفكرةُ العصابيَّة بطابعها الميليشياتى بديلاً عنه.. لقد كان انقلابًا ناعمًا على الديمقراطية بأدواتها، وكأنها السلالم الصالحة للصعود مرَّةً واحدة، أو على طريقة جبهة الإنقاذ الجزائرية عندما تمكَّنت؛ فقال على بلحاج ما معناه إنهم جاءوا بصناديق الاقتراع «ليقولوا لها باى باى».
كلُّ ما تأتَّى لاحقًا فرعٌ على هذا الأصل. فاعتبارُ أنَّ إرادة الناس تنصرفُ إلى لجان الانتخابات حصرًا؛ ثمَّ لا يعودُ لهم الحقُّ فى إبداء رُؤاهم، والهيمنة على كتابة مشروع الدستور الجديد من منظارٍ أيديولوجىٍّ مُفارقٍ تمامًا لتركيبة المُجتمع وتوازناته، وتأميم السلطات لصالح أحد أطرافها كما فى الإعلان الدستورى، وتحصيل المُتعذّر على الإجراءات النظاميَّة عبر القوَّة العارية، مثلما حدث فى حصار المحاكم والمنشآت وترهيب المُعترضين وقتلِهم، كلها كانت تُؤشِّر على رؤيةٍ ترى فى مُفرداتِ الدولة مُعينًا على تقويضها من داخلها، وتمزجُ بين الأدوات الشرعية والباطلة؛ لانتزاع الولاية الشعبية على المجال العام انتصارًا لصيغة الإذعان الأُصوليَّة التى تنتقلُ بمعايير غير ديمقراطية: أهلُ الحَلِّ والعَقد فى القاعدة الفقهية، أو الأوتوقراطية العائلية فى التطبيق السياسى، بعدما انتحلت صِفةَ الخلافة الراشدة من زمن الأُمويِّين مرورًا بكلِّ ما تلاه.. ولا افتئاتَ أو إفراط فى التأويل، لو قُلنا إنهم كانوا يضعون النظامَ الإيرانىَّ نُصبَ أعينهم. فما حدثَ أنَّ المُرشدَ كان حاكمًا فِعليًّا فوق القصر والرئيس، ولم يتَبَقّ إلَّا أن تتَّخِذ العلاقةُ المُشوَّهة صيغةً دستورية، ربما لم يَكُن ليطولَ الوقتُ قبل أن تُجسِّد نفسهًا واقعيًّا، لنجد أننا والبلد مسجونون بالفعل بين لِحية مُرسى وقُلنسوة بديع.
الثورةُ الهادرة فى يونيو وضَعَتْ النقاطَ على الحروف، وأعادت تصويبَ مسار التاريخ. وليس هذا لأنها قوَّضت سُلطةَ الجماعة الطارئةَ فحسب، ولا أزاحتها من المجال الذى لم يكُن من الصواب أن ترتقى إليه أصلاً؛ ولكن لأنَّ ملايين الثائرين أعادوا تثبيت فكرة الدولة على ركائزها المدنيَّة الحديثة، واختصموا عدوَّهم العنيف فى جوهر اعتقاده وثوابت مشروعه؛ فكأنَّهم إذ يُطيحون مرسى وعصابته فى 2013، يرفعون البطاقةَ الحمراء فى وجه حسن البنَّا واختراقه الناعم للمُجتمع مع الخاصرة الهَشَّة فى مدينة الإسماعيلية. وإذ يتصدَّون لمَوجة الإرهاب الكاسحة من اعتصام رابعة مُرورًا بالسنوات التالية؛ ينزعون غطاءَ الستر والمُراوغة عن «النظام الخاص» وإرهابِه الظاهر فى زمن عبد الرحمن السندى، وعن كلِّ تمَثُّلاته اللاحقة وإنْ بَدَت أخْفَت صَوتًا مع سلسال المُرشدين من الهضيبى الأب مهدى عاكف صاحب مأثور «طظ فى مصر المُشين»، قبل أن تستعيد توهُّجها الحارق القديم مع بديع والشاطر ومحمود عزّت ومحمد كمال ومحمود حسين وبقيّة الأراذل المُعاصرين.
لم يكُن الإخوانُ يجتهدون لإخفاء نواياهم. منذ اللحظة الأولى وَقَفوا على قارعة الوقت ببضاعتهم الدينية، وقالوا تصريحًا وتلميحًا إنهم تُجَّار اعتقاد وبيّاعو قداساتٍ مُخلَّقة؛ لكنَّ الزبائنَ لم يستوعبوا الرسالة، أو لعبت المناخاتُ المُلتبسة دورًا فى إقناعهم بالتعامى عنها. لقد سَعَوا لاختصام الدولة من داخلها طوالَ الرحلة الضلاليّة، عندما اقتربوا من القصرِ على أمل أن تكونَ لهم الحظوة على حساب الوفديِّين، أو اتَّصلوا بثُوَّار يوليو طامعين فى ترويضهم وانتزاع السُّلطة منهم، وعندما أظهروا اللِيْنَ للرئيس السادات، وأبطنوا النوايا السوداءَ التى أفضت لمصرعه فى يوم انتصاره، وإمعانًا فى التنكيل احتفلوا بالذكرى مع قَتَلَتِه بعد أربعة عُقود. اخترقوا حزبَ العمل وأفسدوه من داخله، وحاولوا تكرار اللعبة مع الوفد والأحرار، وبثّوا خلاياهم النائمة فى اليمين واليسار وبين القوميِّين؛ حتى لم يجد الناصريِّون غضاضةً بعد نصفِ القرن من مُحاولة اغتيال زعيمهم، فى أنْ يتحالفوا مع الجماعة ويدخلوا البرلمانَ تحت عباءتهم. وعندما استدعوا طَيفًا عريضًا من المدنيِّين لمُؤازرة مرسى فى «مؤتمر فيرمونت» المشبوه كانوا يستنسخون اللعبةَ البائسة، وفى محاولتهم لاستمالة المُؤسَّسات الصلبة ضد الشارع، وكذلك عندما استَبَقُوا دعوة 30 يونيو بالاحتشاد فى رابعة، وهدَّدوا على منصَّة اعتصامهم بالقتل ثمَّ مارسوه فعلاً، وخطَّطوا مع السفيرة الأمريكية آن باترسون والمسؤولة الأوروبية كاترين أشتون؛ لإرباك البلد بحُكومتين وبرلمانين. كلُّها تفاصيل على خِفَّة بعضِها أو ثِقَل البقيَّة، تنبعُ من مَعينٍ واحد: مُعاداة الهوية الوطنية، واختصام الدولة فى وُجودِها الدائم، لا فى سُلطاتِها العابرة.
المصريِّون أنجزوا فى يونيو ما كان يبدو مُستحيلاً وقتَها، وربما إلى الآن؛ لو نظرنا فى التعقيدات وطبيعة الظروف القائمة. إنهم لم يَتَحدَّوا فقط إراداتٍ إقليميّةً ودوليَّةً سَعَت لتثبيت هيمنة الجماعة؛ بل أزالوا وهجَ القداسة المزعوم عن الخطابات الأُصوليَّة الثقيلة، وقوَّضوا غُشومةَ التوظيف المُنحرف للدِّين فى لُعبة الترويض والاستتباع. الثورةُ لم تكُن استخلاصًا ليناير من أنياب خصومها فحسب، ولا إمساكًا مَتينًا بالدولة قبل انزلاقها على مُنحَدَرٍ وَعِر؛ إنما كانت أقربَ إلى آلةٍ زمنيّة صَوَّبت، بمُعطيات الواقع، ما كان يتوجَّب تصويبُه فى زمانه، وحاسَبَتْ التنظيمَ بأثرٍ رجعىٍّ على فواتيره القديمة، والأهمُّ أنها كشفَتْ وجهَه القبيحَ عاريًا من المُحسِّنات ومكياج التضليل والمناورة. إنَّ إنجازَها المُباشر فى إطاحة الإخوان من السُّلطة التى ارتقوها فى غفلةٍ ودون استحقاق؛ لكنَّ المُنجَز الأعمقَ والأَقيَمَ أنها أحدثت شَرخًا فى جدار الأُصوليَّة الحركيّة، وانقلابًا على ثقة الإسلام السياسىِّ المُفرطة فى رُؤاه وتقنياته الاحتياليّة، ووَضَعت حدًّا فاصلاً بين الوطنية ولو ارْتَبَكَت، والطابور الخامس ولو انتحلَ رايةً بيضاء وصوَّر نفسه وكيلاً عن السماء.. ما عادَ مُمكِنًا أن يبقى الإخوان مثلما كانوا، وإنْ عبروا انشقاقاتِهم الحادّة فلا بديلَ أمامهم إلّا إعادة إنتاج أنفسهم فى شكلٍ أقلّ وقاحةً وأضعف أثرًا. وما فعلته الثورةُ أنها حفرت قبرًا عميقًا لجِيفةٍ كان يتعيَّن دَفنُها فى مَهدِها، أو على أقصى تقديرٍ فى الحُفرة ذاتها مع شيطانها المؤسِّس ومُرشدِ ضلالِها الأوَّل.