على مدار ثلاثة أيام في مدينة الإسكندرية الجميلة عقدت فعاليات مؤتمر بناء الجمهورية الجديدة.. رؤية ثقافية، الذي عقده منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الإجتماعية برئاسة القس الدكتور اندريه زكي وبحضور نخبة من كبار المفكرين في مصر .
مناقشات ثرية وساخنة شهدتها أروقة المؤتمر وجلساته سعيا لرسم ملامح محددة لملامح الجمهورية الجديدة من خلال ادوات القوي الناعمة مثل التعليم والإعلام والتكنولوجيا والمجتمع المدني والثقافة وغيرها.
فمصطلح "الجمهورية الجديدة" هو أحد المصطلحات المهمة التي انتشرتْ خلال السنواتِ الماضيةِ، والذي دشَّنَه فخامةُ الرئيسِ عبدِ الفتاح السيسي، في الاحتفال الذي أُقيمَ باستادِ القاهرةِ، يوليو 2021، بمناسبةِ إطلاقِ مبادرةِ “حياة كريمة”.
لكن ربَّما يحتاج المصطلحُ إعلاميًّا وجماهيريا إعادة طرحه بما يليق بالزخم المناسب لمعناه وأهميته.
فمصر تسير بخطى ثابتة وواثقة، من أجل الانطلاق إلى الجمهورية الجديدة، في ظل تحديات صعبة داخلية وخارجية تسبب فيها الكثير من الأحداث والتطورات الدولية.
ولكن هذه الجمهورية الجديدة تحتاج طريقة تفكير جديدة أيضا ، ليست نمطية، تحتاج عقولًا جديدة، وتحالفات إستراتيجية جديدة، لا تقوم على الأيديولوجيات والأفكار وإنما على المصالح المشتركة، وتحتاج الجمهورية الجدبدة ايضا الي مواطن بشخصية جديدة تتناسب مع ملامح الجمهورية الجديدة التي ترتكز علي مبادئ أساسية ، أولها بناء الإنسان بهدف التغيير في أوضاع المعيشة والحياة لتعزيز دوره كمواطن يقوم بواجباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وذلك في ظل التطلع للتغيير في الأفكار والسلوكيات ونظم الإدارة وسبل الحياة، ثم مبدأ التنمية الاقتصادية الاجتماعية، لتطوير التنمية السياسية والتي تمثل أساس تثبيت واستقرار الدولة ومؤسساتها واستدامة المصفوفة الاجتماعية، بالإضافة الى العمل على تشبيك جميع الابعاد بحيث يخدم كل محور أهداف المحاور الأخرى لتحقيق أكبر قدر من التكامل بين الخطط التنموية للدول والمجتمع.
وكذلك يمثل مبدأ حقوق الإنسان بمفهومه الشامل أساسا لتلك الجمهورية ومنطلقا لها؛ وذلك من حيث وضع المعايير والمحددات والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية وفق أهداف التنمية المستدامة الـ 17 ورؤية مصر 2030 والأبعاد الأخرى لحقوق الإنسان لتعمل وفقها المؤسسات وتمثل هدفا أمام عمل أي مشـروع فـي المجتمع مـن جانب، وبالتالى لا تعد حقـوق الإنسان ملفـا منفصلا عــن أي من الجهود التي تقوم بها الدولة والمجتمع وإنما منطلقا لها، فضلا عــن تحقيق عــدد مــن الشــروط التنمويــة المسبقة بمــا يسهم فــي ضمان الاستقرار السياســي ووجــود هيــاكل وبنــى اجتماعيــة تضمــن ممارســة ً الآليات الديمقراطيـة بصـورة أكثـر استدامة.
والمؤكد أن هذه الجمهورية الجديدة التي نتمناها جميعا تحتاج الي إعادة نظر في سلوكياتنا وحياتنا مما يتطلب تغيير السلوك العشوائي الذي يتسم به أداء معظم المصريين الي سلوك أكثر انضباطا وأكثر نظاما ، يحتاج المصريون الآن إلي نظام لحوكمة الاداء الإنساني في كل ملفات الحياة في مصر بمفهوم الحوكمة الأشمل، وليس فقط المفهوم السياسي الشائع .
فالحوكمة في تعريفها الواضح هي مجموعة من القوانين والقواعد والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء من خلال إختيار الأساليب الصحيحة والفعّالة من أجل إدارة ناجزة وأهداف محققة .
وليس مصر في حاجة مثل الآن نحو تطبيق الحوكمة للفرد، بمعني تغيير ثقافة السلوك الإنساني للمصريين ليعملوا بموجب نظام منضبط وملزم يحدد الجزاء وفقا للإنجاز وكفاءته وإتقان العمل وتحقيق اهدافه بجودة بعيدا عن إية اعتبارات شخصية، بل من خلال فهم المواطن المصري لدوره في نظام معين يحكم في العلاقات بين الأطراف في المجتمع في كافة المجالات مما يُساعد على تنظيم العمل وتحديد المسؤوليات لتحقيق الأهداف المرجوة بمرجعية قانونية وضوابط شرعية.
وينطبق ذلك على كل المجالات في المجتمع.. ففي الإعلام هناك الحوكمة الإعلامية من خلال تطبيق قواعد المهنية والمسئولية وفي التعليم فالحوكمة التعليمية عن طريق إتباع معايير الجودة والمحاسبية وحق المساءلة وفي التكنولوجيا تتجلي الحوكمة الرقمية من خلال ادواتها وكذلك هناك حوكمة للمجتمع المدني بتطبيق الشفافية وغيرها في بقية الملفات وكل ذلك من خلال قواعد ومبادئ وتوزيع الأدوار والمسؤوليات عبر هياكل تنظيمية مُحكّمة وهو ما سنتطرق اليه تفصيلا في مقالات لاحقة من خلال وضع محددات لتطبيق الحوكمة في كل مجال من مجالات المجتمع المختلفة .
إلا أن أول هذه الملفات هي الإنسان ففي الوقت الذي ننشغل فيه ببناء الانسان يأتي في مقدمة عملية البناء منطق حوكمة الإنسان الحاكم والمرتب لبناء صحي سليم من خلال وضع القيم والمعايير الدافعة نحو الانضباط السلوكي بما يحقق التوازن بين الحقوق والواجبات من جهة وصالح وبناء الجمهورية الجديدة من جهة أخري.
إننا نحتاج إلى تفعيل منهج حوكمة الإنسان في بناء الجمهورية الجديدة من خلال تفعيل أنظمة واضحة وشفافة وملزمة وباحترافية للمواطن، تبدأ من نشر ثقافة الحوكمة والاحترافية لدى الإنسان المصري الذي عليه أن يفهم أنه لا إنجاز أو تطور أو بناء أو تنمية إلا من خلال العمل في انضباط وضوابط ملزمة واضحة ومعلنة تحدد الأداء وتضع أسس المحاسبة والثواب والعقاب وفقا للإنجاز، ولكن في إطار قيمي واخلاقي يتسق مع نموذج الهوية المصرية، ومن المؤكد أن هذه الرؤية صعبة وطموحة في ظل مجتمع يعاني الآن من السيولة القيمية والاخلاقية لأسباب عديدة، ولكن مصر تستحق منا جميعا عمل جهد مخلص جاد ومنضبط من خلال رؤية عقلانية للعمل الوطني في المرحلة الحالية لبناء الجمهورية الجديدة التي نتمناها جميعا ،جمهوريةُ التنميةِ والبناءِ والتطويرِ، وتغييرِ الواقعِ، جمهوريةٌ تؤسِّسُ نَسَقًا فكريًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا شاملًا، وبناءَ إنسانٍ ومجتمعٍ متطـورٍ، تسودُهُ قيمٌ إنسانيةٌ رفيعةٌ من أجل صالح الوطن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة