توفى الشيخ إمام عيسى يوم 7 يونيو 1995، بعدما مثل مع الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم حالة فنية فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين نوعا من الفن له معجبوه ومحبوه، لكن ماذا عن علاقته بالوسط (الرسمي) في الفن، وبالتحديد ماذا عن علاقة الشيخ إمام بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب؟
يقول كتاب الشيخ إمام .. في عصر الثورة والغضب لـ أمير العمري، تحت عنوان "عبد الوهاب والشيخ إمام":
كنت أستمع لبعض الأصدقاء وهم يتندرون على الموسيقار والمطرب والملحن العظيم محمد عبد الوهاب، الذي نشأت وتربيت في بيت يعشق ألحانه وموسيقاه. كانوا يقولون إن عبد الوهاب عندما سئل عن الشيخ إمام في الستينيات (زمن عبد الناصر) تساءل بدهشة في حديث إذاعي من هو الشيخ إمام... لم أسمع عنه!
الشيخ إمام
كانت تلك الرواية من أكثر الروايات التي صدمتني وحيرتني في شخصية عبد الوهاب.. الفنان المبدع العظيم. صحيح أنه كان يخشى السلطة، ولم يدع يوما أنه فنان "مناضل"، ولم يعرف عنه ولعه بالسياسة وعالمها، إلا أنني لم أكن أتصور أن عبد الوهاب يمكنه أن يتنكر لموهبة كبيرة بحجم موهبة الشيخ إمام، بغرض التقرب من السلطة.
وقضيت سنوات طويلة أرفض تصديق الفكرة، ولكن كان هناك الذين روجوا لها من بين أصدقائي الذين أثق بهم ولم أكن أتصور أنهم يرددون كلاما اعتباطيا، وظللت أشعر بعدم الارتياح من هذه الفكرة: فكرة أن عبد الوهاب تنكر تماما للشيخ إمام، خصوصًا أن عبد الوهاب كان من قلائل المشاهير الذين أفلتوا من سخرية وتعريض نجم في قصائده، ولم يتم التعرض له في أي من الأغاني الساخرة للشيخ إمام. بل إنني اكتشفت أن الشيخ إمام كان من المغرمين أيضًا بعبد الوهاب واستمعت إلى تسجيلات له وهو يغني لعبد الوهاب أغانيه ومواويله الشهيرة مثل "الليل نجاشي" و"في الليل لما خلي".
لكن الزعم بأن عبد الوهاب نفى معرفته بأي شيء عن الشيخ إمام كان يرمي في الغالب إلى إدانة عبد الوهاب الذي كان متهما دائمًا من جانب عدد من مثقفي اليسار بالانحياز إلى الأنظمة الحاكمة ضد حركة الجماهير.
وأتذكر مثلا أنني قرأت في السبعينيات شيئًا مضحكاً للصحفي والكاتب صلاح عيسى عن كيف أن عبد الوهاب وسط خضم الحركة الوطنية المصرية في 1946 راح يغني أغنية "محلاها عيشة الفلاح" من كلمات بيرم التونسي وهو ما أراه حكما قاسيًا من أحكام "المراهقة اليسارية" التي يتحدث عنها صلاح عيسى كثيرا هذه الأيام وإن كانت في غير موضعها الصحيح، كما أنني من المعجبين بهذه الأغنية أيضًا بل وأصبحت أجدها سليمة تماما ومستقيمة في معناها، فعندما غناها عبد الوهاب لم يكن الفلاح المصري قد اضطر بعد، إلى ترك أرضه العامرة بالخيرات والهجرة من بلده بأسرها للعمل أجيرًا في بلاد الآخرين في زمن الانفتاح والرخاء.
عبد الوهاب وحليم
وكان من حسن الطالع أنني استمعت إلى تسجيل نادر للقاء إذاعي من الستينيات يجمع بين عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب. وكان التلميذ ( عبد الحليم) يحاور الأستاذ عبد الوهاب، ومن ضمن الأسئلة سؤال حول الشاعر القريب إلى نفس عبد الوهاب أكثر من غيره، والأغنية التي يفضلها أكثر من غيرها من أغانيه الشخصية فذكر عبد الوهاب الشاعر محمود أبو الوفا مؤلف قصيدة "عندما يأتي المساء".
وهنا سأله عبد الحليم لماذا؟ فقال عبد الوهاب إن أبو الوفا كان شاعرًا انطوائيا لا يجيد العلاقات العامة يفضل الانكباب على الفن لكنه لم يكن من سعداء الحظ فلم يحقق شهرة كبيرة أو جاها بينما كانت موهبته شاهقة.
فعاد عبد الحليم حافظ يتساءل ولكن كيف يمكن أن يكون الفنان موهوبا وحاقدًا على المجتمع وهل يجب شد هؤلاء الفنانين الحاقدين إلى الحياة العامة (يقصد استيعابهم في آلة الإعلام الرسمي) فرد عبد الوهاب بلباقته المعهودة قائلا إن من الخطأ أن نطلق عليهم حاقدين بل كان أبو الوفا شاعرًا حساسا لا يجيد تسويق نفسه وعمل شبكة من العلاقات العامة من حوله من المطبلين والمزمرين.
وعاد عبد الحليم يسأله هذه المرة عن الشيخ إمام، وقال لعبد الوهاب هل استمعت إلى الشيخ إمام؟ فكانت الإجابة: "نعم سمعته"... واستدرك قائلا: "لم ألق بالا للكلام بل كنت أركز على الألحان... لأن كل واحد يسمع بأحاسيسه.. شعرت من الوجهة التلحينية أن ألحانه متحمسة وأنه يحاول أن يعبر عن الكلام بما يليق به من اللحن من وجهة نظره، ولو أنه يسير في خط الشيخ سيد درويش والشيخ زكريا أحمد. لكن فيه حماس وإخلاص يشدك إليه".
واستطرد عبد الوهاب قائلا: شعرت بأنه صوت عريض فيه تحمس، خطوطه واضحة، ليس من الأصوات التي تكون فيها ذبذبات أو اهتزازات تضفي حلاوة خاصة لكن صوته واضح المعالم جيد وفيه متسع، يعني مسافات كبيرة عنده قرار ووسط وفوق، وهو جيد ومتحمس صوته تبدو فيه الحماسة".
كانت هذه كلمات عبد الوهاب التي جاءت بلسما شافيا بالنسبة لي، فليس من المعقول أن يتنكر عبد الوهاب لصوت وألحان الشيخ إمام الذي قدم تراثا غنائيا للموسيقى العربية الأصيلة يزيد على 300 لحن منها أعمال تصل إلى أرقى مستوى.