يلعبُ بنيامين نتنياهو على حافةِ الوقت. الموقفُ أشبَه برقصةٍ خَطِرة، يعرفُ تمامًا أنها إمَّا تنتهى بالوقوع فى محاذيره العاجلة والمُرجَأة، أو أن يُفلتَ بها ولو بجسدٍ مُنهَكٍ وأنفاسٍ لاهثة؛ لذا لا خيارَ لديه سوى الاستمرار فيها. وقد أثمرتْ زِئبقيّتُه ومُراوغاته ما يتطلَّع إليه طوالَ الشهور الماضية: أن يُبقِى فصائلَ غزَّة فى موقع رَدِّ الفعل من دون خياراتٍ للتهدئة أو التصعيد، ويُروِّض مُيولَ جنرالاته المُتنوِّعة، بين تبريد الجبهة والتقاط الأنفاس وفَتح الباب لمُداولاتٍ داخليّة تُغيِّر التركيبةَ السياسية للحكومة، وأخيرًا سَحب الولايات المُتّحدة من خلفِه فى المُغامرة المفتوحة، دون أُفقٍ للهُدنة أو معرفةٍ بتطوُّرات الميدان؛ وعليه فإنَّ أيَّة مُقاربة لنَزع الفتيل المُشتعل غير مُرحَّب بها من جانبه، والعمليّة التفاوضيَّة لا تتجاوزُ مسألةَ اللعب بالزمن من أجل الوصول إلى محطَّةٍ لا تُصبح العودةُ بعدَها مُمكنةً. إنه فى جولةٍ شخصية بالكامل، لا يُمكنه الزعمُ بأنها تُمثِّل مصالحَ إسرائيل تمثيلاً حقيقيًّا مُجرَّدًا، كما لا يُمكن لخصومه أن يُحاصروه فيها ويُغلقوا عليه المنافذ التى يحترفُ التسرُّبَ منها، ويزيدُ الأمرَ سيولةً أنَّ الضامن الأمريكى أضعفُ من فَرض رُؤاه، أو اتِّخاذ المواقف الواجبة تجاه الحليف المجنون.
منذُ أعلنَ «بايدن» عن ورقته المُقترَحة لإنهاء الحرب أواخر مايو الماضى، لم يصدُر عن زعيم الائتلاف اليمينىِّ ما يُشيرُ إلى رغبةٍ حقيقية فى إنفاذها. قالت واشنطن فى البداية إنها تَصوُّرٌ إسرائيلىٌّ كامل، ومنحتها صِفةً قانونية بتمريرها من قناة مجلس الأمن الدولى، بينما علَّق نتنياهو بأنَّ ثمَّة فجوةً واسعةً بين أُطروحته وما قدَّمه البيت الأبيض على الملأ، وإنه يرفضُ أىَّ مسارٍ ينتهى لوَقف القتال دون تحقيق أهدافِه المُعلَنة، وأوّلها وربما أكثرها استحالةً أن يقضى على «حماس» عسكريًّا ومدنيًّا. فى حوارٍ مع الإعلام الرسمىِّ أعلن صراحةً أنه يقبلُ بمرحلةٍ أُولى تُعيد له الفئات الأكثر إلحاحًا من الأسرى، وبعدها اعترض على وَقف النار والانسحاب الكامل، وتفنَّن فى تخليق المُعوِّقات وتسريب ما يشحنُ حُلفاءه التوراتيِّين ضد الصفقة المُنتظَرة. وإزاء رغبةِ الإدارة الأمريكية فى دَفع خطَّتها قُدمًا، اضطرُّ إلى إرخاء الحَبل قليلاً؛ إنما مع إبقائه على الآليَّات القديمة التى ساعدته على إفساد كلِّ المُحاولات السابقة.
كان اليمينىُّ العجوز فى كلِّ ما فات يُبدِى شيئًا ويُضمِرُ أشياء. يُرسلُ وفدَ التفاوض إلى اللقاءات بصلاحياتٍ مُعلَنة؛ ثمَّ يُهاتفهم مساءً بسحب الاختصاصات والاحتفاظ بحقِّ المُراجعة النهائية، وفى إحدى الجولات أرسلَ مستشارَه مع رئيس الموساد إلى القاهرة؛ لضمان ألَّا يُقال على الطاولة ما يُخالف إرادتَه والبرمجةَ التى اعتمدَها لتفخيخ العملية كلِّها. وقد سمحَ له طُولُ الجولة منذ الهُدنة الوحيدة أواخر نوفمبر الماضى، بأن يبدو مُتحكِّمًا فى حالة الجبهة؛ رغم هزيمته الاستراتيجية، وأن يستتر بالنجاحات التكتيكية؛ للتعمية على أنه لا يملكُ رُؤيةً لليوم التالى، أو لا يريدُ يومًا تاليًا خارجَ شروطِه الإلغائيَّة المُجحِفة. وبفضلِ الوحشيَّة الصهيونيّة وأثرها على القطاع، اضطُرّت «حماس» لإبداء بعض المرونة بعد تصلُّبٍ ومُماطلة، وبينما يُفتَرَض أن يُساعدَ ذلك على تقريبِ وجهات النظر وإنجاز الاتفاق، اعتبرَه رئيسُ الحكومة المأزومُ دليلاً على نجاعة فكرته عن التفاوض تحت النار، وإمكانية إحراز مزيدٍ من المكاسب الميدانيَّة كلَّما طال أَمَدُ الانسداد، وانعدمت فُرصُ الخروج من الكارثة الإنسانية الواقعة على أكتاف الغزِّيين.
أُدِيْرَت تروسُ الجولة الأخيرة خلال الأسبوع الماضى، وحضر وفدٌ أمريكى رفيع للمنطقة، وبين القاهرة والدوحة وُضِعَت الأوراق على الطاولة مُجدَّدًا. قدَّم الحماسيِّون رَدًّا امتدحَه رجالُ بايدن، وأقرَّ جنرالاتُ إسرائيل بأنه صالحٌ للنقاش، ويُقرِّب المسافات البعيدة مع الهُدنة المُرتجاة. هكذا لم تكُن العَقبةُ فى الخطوط العريضة، ولا حتى فى التفاصيل التى يُمكن تكييفها حالَ التقاء الإرادات؛ فالمُعضلة كلُّها أنَّ رجلاً واحدًا لا يُريدُ الخروجَ من النفق، هذا لو استثنينا «السنوار» وقد صار ظهرُه مُلتصقًا بالجدار تقريبًا. كلَّما طالتْ الأزمةُ تستفحلُ مُعاناة غزَّة، ويموتُ الناس قَصفًا أو جُوعًا؛ لكنَّ نتنياهو على الجانب الآخر يُلاعِبُ خصومَه السياسيِّين، ويُقلِّم أظافر المستوى العسكرى، ويسلبُ الحليفَ الأمريكىَّ ما تبقَّى له من المُهلة الزمنية قبل معركة الانتخابات الرئاسية. لقد استجاب فى الأيَّام الأخيرة لغَرضٍ واحد؛ أن يُمرِّرَ موعدَ خطابه أمام الكونجرس رغمًا عن بايدن وفريقه، ثمَّ يعودُ إلى تل أبيب مُحتفلاً بانتهاء دورة الكنيست وبدء عُطلته الصيفية الطويلة، وبين الحَدَثين تتجدَّدُ الأوراق فى يديه، وتسقطُ كثيرٌ من الأثقال والضغوط عن كاهله. لا سيَّما أنَّ الجميع يترقَّبون تطوُّرات نزوته المكبوتة مع حزب الله شمالاً، وقد يرتاحون لبقاء الجبهة الجنوبية تحت سقفٍ خَفيض، بدلاً من إشعال التَّمَاس اللبنانىِّ وتعقيد الوضع أكثر ممَّا هو عليه بالفعل.
بحسبِ المُؤشِّرات المُتردِّدة أخيرًا، ثمَّة مسائلُ عالقةٌ بشأن ترتيبات الورقة الأمريكية المُعدَّلَة، فيما يخصُّ وَقف النار ونطاقَ الانسحاب ونوعيَّة الرهائن محلّ التبادُل، وفى المفاوضات غير المُباشرة وترتيبات الانتقال بين المراحل. نظريًّا تفرضُ الهُدنةُ نفسَها على صِفةِ الاحتياج المُلِحِّ للطرفين، فالغزِّيون ليس بوسعِهم احتمال مزيدٍ من المآسى والنكبات، والفصائلُ تضرَّرت ولديها تحدِّيات بشريّة ولوجستية، كما أنَّ الاحتلال مُنهَكٌ عسكريًّا ويتطلع لالتقاط الأنفاس على وجه السرعة، إمَّا لتجديد عافيته جنوبًا أو التحضير لمُنازلةٍ مُعلَّقة شمالاً، فضلاً على ضغوطِ الاقتصاد وأثر التعبئة الكثيفة على الإنتاج وعجز الموازنة وغيرها من ركائز السوق؛ لكن فى المُمارسة العمليَّة يتحرَّكُ نتنياهو كما لو كان فى نُزهةٍ، ولديه استثمارٌ رابحٌ فى إبقاء الحرب مُشتعلةً بمعزلٍ عن كلِّ الاعتبارات.. تلك الصلابةُ مُريحةٌ له من ناحيتين: فإمَّا يتحصَّلُ على تنازُلاتٍ أكبر من القسَّاميِّين وواجهتهم السياسية، أو يُغلق الطوقَ عليهم وعلى مُناوئيه فى تل أبيب وواشنطن على السواء.
تردَّدت مُؤخَّرًا أحاديث عن اتِّجاهٍ لإقالة رئيس الأركان هرتسى هاليفى، وألمحَ الإعلامُ المُقرَّب من نتنياهو عن نِيَّته التضحية بوزير دفاعه وشريكه فى الليكود يوآف جالانت. كان الأخيرُ قد طالبَ قبلَ أيَّامٍ بصوتٍ عال أن يُفتَحَ تحقيقٌ شاملٌ فى إخفاق السابع من أكتوبر «طوفان الأقصى»، دون استثناء الحكومات السابقة فيما يخصُّ تعاطيها مع القطاع، ومُمارساتها التى مَكَّنَت «حماس» ممَّا وصلت إليه وساعدَها فى عملية غلاف غزَّة. هنا يتخطَّى الكلامُ نطاقَ التلميح إلى الإدانة المُباشرة لرئيس الحكومة، وكان يُردِّد دومًا أنَّ الحركة مَردوعةٌ عن التصعيد، ويَعُدُّها ذُخرًا استراتيجيًّا لإسرائيل، بل لعبَ دورًا فى تمكينها ماليًّا وسياسيًّا على حساب السُّلطة الوطنية، واشتركَ مع إدارة أوباما سابقًا فى تدبير ملجأ بديلٍ لقادتها السياسيِّين؛ بعدما انقلبوا على بشار الأسد وغادروا دمشق. سبقَ ذلك التحقيقُ الداخلىُّ فى الجيش، واعتراف الجنرالات بمسؤوليتهم العسكرية عن الإخفاق فى الطوفان، ما يفتحُ البابَ لمُسائلاتٍ اضطراريّة أوسع مع الحكومة، ودَفعها لابتلاع نصيبها من كعكة الفشل.
الواضحُ أنَّ صراعًا مُحتدمًا فى الأروقة الإسرائيلية بين المستويين السياسى والعسكرى، ولنتنياهو تاريخٌ طويل من الصدام مع الجنرالات، منذ حكومته الأُولى فى عقد التسعينيات. كأنه يستشعرُ دائمًا خطورةً من جانبهم على نزعته الشموليَّة للانفراد الإدارى والاستبداد بالقرار، كما يراهُم خطرًا مُزعجًا على مُستقبله فى السلطة، وقد دَرَجتْ العادةُ على أن يخرجوا من الجُنديّة إلى مقاعد الحُكم، فيما يُشبه الترسيخَ لقاعدةِ أنَّ إسرائيل جيشٌ صارت له دولة. تلك المخاوفُ دَفعته لاشتباكاتٍ صاخبة فى أوَّل تجربته، وتقودُه لمِثلها اليومَ مع جالانت فى خدمته أو جانتس وآيزنكوت وأشكنازى فى تقاعدهم. والهلعُ نفسُه هو ما دفعَه فى العام 2007 لإقرار قانونٍ يُجبر القادةَ العسكريين على قضاء ثلاث سنوات فى الحياة المدنيَّة قبل المُشاركة السياسية؛ فكأنَّ ميراثَ الهواجس الطويل ما زال يحكمُه حتى اللحظة، ويفرضُ كثيرًا من قواعد اللعبة التى بات يعتبرُها حربًا مُتعدِّدةَ الجبهات: نسخة مُتذبذبة الإيقاع فى غزة، وأُخرى على حرفٍ من الاندلاع الشامل عند لبنان، والثالثة دائمة ومُتصاعدة طوال الوقت فى تل أبيب.
يُضافُ لهذا ما تأتَّى من تطوُّراتٍ داخليّة جديدة فى قضايا الرشوة. لقد رفضتْ المحكمةُ إرجاءَ شهادته حتى مارس المُقبل، وصار لِزامًا عليه أن يَمثُل أمامَها فى الثانى من ديسمبر. وعليه ألَّا يسمحَ لصخبِ البنادق بأن يهدأ، بما يحملُ مُجادلات القضاء إلى الواجهة؛ فإذا لم يفُزْ بالحصانة الجُزئيَّة كما حصل لصديقه ترامب من المحكمة العُليا الأمريكية؛ فالبديلُ أن يخلقَ حصانتَه بالحرب وتحت ظلِّ السلاح. الشارعُ بكامله صار صريحًا فى يمينيَّته المُتطرِّفة لدرجةِ أن نُسخة نتنياهو الرماديّة لا ترضيه، وهو يتَّحِدُ على الخطرِ الوجودىِّ اضطرارًا؛ لكنه يتحيَّن الفُرصةَ لإزاحة الحكومة فى مناخٍ لا يُصَوَّرُ على أنه إضعافٌ للدولة أو تَواطُؤ عليها، وهنا فإنَّ حَبلَ النجاة الوحيدَ فى استمرار الحرب، وإن تيسَّر فلتُرافقه إعادةُ تأهيل البيئة السياسية، وترميم الائتلاف وتحييد نزاعاته؛ لا سيما مع «الحريديم» الساعين لاستخلاص قانونٍ بالإعفاء من التجنيد، مع العمل على تفكيك السلطة العسكرية القائمة، وإعادة بنائها على أكتاف المُوالين مَوثوقى الإخلاص، وهو أمرٌ قد يُفتَتَحُ برئيس الأركان الحالى فى وقتٍ قريب.
لا يغفرُ «بيبى» مُطلَقًا أنَّ جالانت وكبارَ الجنرالات كانوا مع الشارع ضدَّه قبل سنةٍ تقريبًا، وقتَ احتدام الصراع بشأن مشروعِ الإصلاح القضائىِّ فى بند «ذريعة عدم المعقولية»، وما كان مُرتَّبًا بعده من إجراءاتٍ تُحيِّد بعضَ قوانين الأساس وتفكُّ قبضةَ المحكمة العليا عن رقبة الإدارة الحكومية. وقتَها تمرَّدَ طيَّارو الاحتياط، وتظاهر جنرالاتُ التقاعُدِ، وانحاز وزيرُ الدفاع للغاضبين فأُقِيْلَ قبل أن ينزلَ الملكُ اليهودى المغرور عن قراره ويُعيده جَبرًا. وهكذا من مجموع الاستخلاصات؛ يبدو ثابتًا لديه أنه مرفوضٌ من الجيش، وأنهم لا يُجارونه فى أهدافه الشخصية التى يمنحها عناوينَ وطنيّةً عامَّة. وبالتأكيد ينظرُ لانخراطهم فى الورشة الأمريكية، ثمَّ إعلانهم عن هُدنةٍ تكتيكية فى رفح قبل أسابيع دون إخطاره، والإفراج عن مجموعةٍ من أَسْرى غزَّة خارج إرادته؛ باعتبارها شواهدَ على ما يعُدُّه مُؤامرةً عسكريَّة تستهدف شرعيَّتَه، وإن لم يتجرَّأ على إلقاء تُهمة الانقلاب المُدبَّر، فإنَّ «سارة»، زوجته وشريكته فى قضايا الفساد، صرَّحت بها عَلَنًا فى لقاءٍ مع أُسَر الرهائن المُحتجَزين بالقطاع منذ قرابة عشرةِ أشهُر.
لا يتبعُ نتنياهو استراتيجيَّةً جديدة؛ لقد سبقَ أن جرَّبها بنفسه عشرات المرَّات، كما أنها آليّةٌ ثابتةٌ لدى العقل الصهيونى. الفكرةُ تبدأ من الإنكار المُسبَق، والتشدُّد فى الشروط، ثمَّ إغراق المُتحاورين بالهوامش والتفاصيل الصغيرة. استنزافُ طاقة الآخرين يجعلُ من قليله المُتاح كنزًا واجبَ الاغتنام، ولا يحرمُه فى الوقت نفسه من إمكانية قَلْبِ الطاولة فى أيَّة لحظة. وهو إذ يمزجُ نزاعاته مع حماس والحزب، بالمُناكفات الداخلية فيما بين الجنرالات وبقيَّة القُوى السياسية، يفتحُ ميدانَ المُواجهة لتتُوهَ الحقائقُ فيه، وتتقزّم المطالبُ والأهداف. يُتيحُ له ذلك أوّلاً أن ينثر غبار الفوضى على رأس الصفقة وإحباطها، ثمَّ أن يغسلَ يديه من مسؤولية «الطوفان»، ويُحمّلها كاملةً للمُؤسَّسة العسكرية وحدها، مع توظيف التوراتيِّين فى تخويف المُعارضة، والمُعارضة فى استنفار الحلفاء خوفًا من سقوط الحكومة ومُغادرة السلطة. وأحسبُ أنَّ زعيمَ الليكود يتعامل من مُنطلَق أنه وُضِعَ فى مُقابلةِ التهديد بالفوضى الداخلية قبل سنة؛ ثمَّ أتته فرصةُ الفوضى الخارجية، فكان بديله عن مُصادمة بيئته الحاضنة أنْ يصطحبَهم معه فى الصدام مع الأغيار؛ لهذا لا يُنتَظَر منه أن يُضحِّى بالهدية الثمينة وقد جاءته على شوقٍ واحتياج.
لا فارقَ هُنا فى نزول «السنوار» عن الشجرة؛ ولو مُجبرًا أو بضغوطِ شُركائه التنظيميِّين ورُعاته المُمانعين، عن بقائه مُتحصّنًا بأنفاقه العميقة وثوابته العقائدية الصلبة. وبطبيعة الحال لا يُغيِّرُ من الموقف أن يقولَ زعيمُ حزب الله، حسن نصر، إنهم مُلتزمون بوَقفِ الاشتباك والتصعيد تمامًا بمُجرَّد إنجاز الهُدنة فى غزَّة، وبغَضّ النظر عن أيَّة وفودٍ أو مُداولات ووساطاتٍ لتهدئة الجبهة من جنوبى الليطانى إلى الجليل وما بعده. بل على العكس؛ تلك الرسالةُ قد تزيدُ حَماوةَ الصقور فى تل أبيب، وتُعزِّز تمسُّك نتنياهو بإبقاء جَمر القطاع تحت الرماد. إنَّ ذهابه لبحث التهدئة مُجرَّد تلبيةٍ لنداءٍ أمريكى؛ وليس رغبةً حقيقة من جانبه، وهو يُضمِرُ إفشالها بالتأكيد؛ لكن السيناريو البديل لديه لو تورَّطَ فى الاتفاق، أن يُؤجِّج النزاعَ مع الغريم اللبنانى، وأنْ يقولَ له الخصمُ المُؤجَّل كرصيدٍ مضمونٍ فى خزانة الجنون إنه لن يُكمِلَ الرقصةَ الحارقة؛ فإنه لا يعودُ لديه بديلٌ سوى التمسُّك بالمَقتَلة الأساسية، وعدم الركون للاطمئنان إلى جبهة الإسناد والمُشاغلة التى قد تنفضُ يدَها من المعركة، وتُحرجُه دوليًّا بأكثر ممَّا طاله حتى الآن لدى الأصدقاء قبل الأعداء.
يُراهن مخبولُ تل أبيب على إطاحة الإدارة الأمريكية الحالية لصالح صديقه وشبيهه دونالد ترامب، وإذا كان الشائع أنَّ الرئيس يصير «بطّةً عرجاء» فيما بين الانتخابات وتسليم خلفه فى الثلث الأخير من يناير؛ فإنَّ بايدن اكتسب الصفةَ مُبكّرًا جدًّا، ولا يبدو قادرًا على تحريك قدميه لحسم الصراع أو تلطيفه. نتنياهو أمام الكونجرس بعد عشرة أيام، ثمَّ فى المكتب البيضاوى ليجنى ثمارَ المُقابلة الرئاسيَّة بعد تَمَنُّعٍ طويلٍ، ودون أن يُقدِّم ما يُقابلها، وبعدها سيعودُ لعاصمته أقوى ممَّا غادرها، بينما تضيقُ المُهلة الزمنيّة، وتنصرفُ الاهتمامات عن جبهاته الساخنة. كأنه نجحَ لمرَّةٍ جديدة فى سرقة الوقت، وكلّما تنازلت «حماس» يزداد تعنُّتًا. والحال أنَّ الإسرائيليِّين جميعًا شُركاء فيما يحدث؛ الساسة قبل الجنرالات، وأكثرهم إنسانية قبل أشدِّهم تطرُّفًا؛ لأنهم يُقرّون القواعد المُختلَّة لنظامهم القائم ولا يتحرَّكون لتغييرها، بينما لم يعُد فى الأُفقِ أىُّ شَكٍّ فى أنه لا خروجَ من النَّفَق طالما ظلَّ «بيبى» وعصابتُه واقفين على مدخله، يسدّون الطريق ويُغلقون كلَّ منافذ الضوء.