على الرغم من أن النموذج الذي دأب الغرب على تقديمه، في إطار مفهوم الديمقراطية، حمل قوالب بعينها، على غرار الانتخابات، وتعددية الأحزاب، وحرية التعبير، وغيرها، إلا أن ثمة تباينات بدت في إطار التطبيق العملي، منها ما يرتبط بالأحزاب السياسية، فهناك دولا اعتمدت مبدأ التعددية بمفهومها الواسع، من خلال السماح بوجود العديد من الأحزاب التي تمثل كافة التيارات السياسية، على اختلافها، منها فرنسا وألمانيا، بينما احتفظت دولا أخرى، بأعداد محدودة، ربما لا تتجاوز الحزبين (على الأقل من حيث الفاعلية والتأثير)، على غرار المشهد السياسي في الولايات المتحدة، والتي تقتصر فيها المنافسة على الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وكذلك النموذج البريطاني، والذي تتراوح فيه السلطة بين حزبي العمال والمحافظين.
ولعل الاختلاف في التطبيق بين النماذج المذكورة، توارى لعقود طويلة من الزمن، وراء العديد من المعطيات، ربما أبرزها الهيمنة الكبيرة لدول المعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة على النظام العالمي، من جانب، بالإضافة إلى حالة الاستقرار المجتمعي والابتعاد عن بؤر الصراع، والتي أفضت بطبيعة الحال إلى حالة من الرخاء، ساهمت في الترويج إلى نجاحها وتطابقها، من جانب آخر دفعت إلى اقتصار دائرة السلطة في قبضة فئات سياسية بعينها، وهو ما يعني حالة من الاستقرار السياسي، وهو ما يبدو على سبيل المثال في تراجع اليمين المتطرف في أوروبا الغربية لعقود طويلة، خاصة بعد ارتباطها بنماذج دفعت دولهم إلى الانهيار، على غرار أدولف هتلر في ألمانيا، وبينيتو موسوليني في إيطاليا، واللذان وضعا القارة، بل والعالم بأسره تحت نيران الحرب العالمية، في أواخر الثلاثينات والنصف الأول من الأربعينات في القرن الماضي.
إلا أن تراجع اليمين المتطرف في أوروبا، في واقع الأمر، لا يعني اندثاره، فقد شهد فترات من الصعود النسبي، وهو ما يعني وجوده فعليا على الساحة السياسية في العديد من الدول بالقارة العجوز، بينما ارتأت دولا أخرى، على غرار الولايات المتحدة، الاحتفاظ بما يمكننا تسميته بـ"الثنائية" الحزبية، عبر تداول السلطة بصورة شبه منتظمة بين الحزبين الرئيسيين، وهو الأمر الذي يقدم ضمانة الاحتفاظ بالاستقرار السياسي، ولو نسبيا، في ضوء استحالة اللجوء إلى تشكيل حكومات ائتلافية في أعقاب أي انتخابات تشريعية في الولايات المتحدة، حتى وإن كان الحزب الفائز بها يختلف في توجهاته مع توجهات الإدارة الحاكمة، وهو ما يسمح بقدر من الاستقرار لدى الجهة التنفيذية، وربما يفتح الباب أمام قدر من المرونة في التفاوض مع أعضاء الكونجرس، خاصة وأن التاريخ لم يذكر استحواذ حزب واحد على غرفتي الكونجرس، بسبب النظام الانتخابي القائم، سوى مرات محدودة، وهو ما يعطي قدرا من التوازن بين الإدارة الأمريكية والذراع التشريعي.
الموقف بدا مختلفا إلى حد كبير في المشهد الغربي بشكل عام، في الآونة الأخيرة، خاصة مع بزوغ قوى صاعدة، باتت تنافس الغرب في القيادة الدولية، مع تراجع نسبي في أسباب الاستقرار الذي تحقق في العقود الماضية، مع اقتراب دائرة الصراع من مناطقهم الجغرافية، في ظل الأزمة الأوكرانية، والتي ضربت قطاعات حيوية على غرار قطاعي الغذاء والطاقة، ناهيك عن اقترابهم جغرافيا من دائرة الخطر، مع تداعيات كبيرة لأزمات المناطق البعيدة، منها على سبيل المثال الأثار المترتبة على العدوان على غزة، فيما يتعلق بمعدلات التضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن حالة من الانقسام، ظهرت في أحدث صورها في نتائج الانتخابات الفرنسية، والتي انتهت بما أسميته في مقال سابق بـ"التعادل السياسي" بين كافة أطراف المعادلة الفرنسية، والتي يحمل كل منها توجهات تبدو متعارضة تماما مع الآخر في العديد من القضايا الجوهرية.
في حين تبقى الدول، والتي حملت نهج "الحزبية المحدودة"، هي الأخرى في خطر جراء اختلاف الظروف، وهو ما يبدو في الشراسة التي باتت عليها المنافسة السياسية، في ضوء محاولات استقطاب الرأي العام، والذي يعاني من محدودية الاختيارات، وهو ما يبدو في المشهد الأمريكي، والذي بات عنيفا، بصورة غير مسبوقة، وهو الأمر الذي ظهر بجلاء في السنوات الأخيرة، سواء في حدة الخطاب الانتخابي، مرورا بالاحتجاجات على ما آلت إليه الصناديق إلى حد اقتحام المؤسسات، وحتى محاولة اغتيال مرشح رئاسي، وما تخلل ذلك من محاولات العزل والملاحقات القضائية من هنا او هناك لاستهداف من جاءت بهم الانتخابات، سواء في الكونجرس أو حتى في البيت الأبيض، وهو ما ينم عن انقسام حاد داخل المجتمع قد يدفع البلاد نحو خطر الفوضى حال الفشل في احتواءه.
وهنا يمكننا القول بأن الحالة الديمقراطية في الغرب، في صورتها النمطية، ارتبطت في نجاحها بحالة الاستقرار المجتمعي، الناجم عن الابتعاد الكامل عن أسباب الفوضى، سواء فيما يتعلق بالصراعات الدولية، أو الأوضاع الاقتصادية، وهو الذي أسفر عن تداول السلطة بين دوائر سياسية محدودة، وهو ما بدا واضحا لعدة عقود طويلة من الزمن، ولكن الأمور باتت تتغير بصورة تدريجية في السنوات الماضية، عندما لاحت في الأفق عوامل عدم الاستقرار، والتي انعكست مباشرة على حياة المواطنين، وهو ما ينبئ حتى الآن على الأقل بفشل النموذج في إظهار المرونة اللازمة التي تدفعه نحو التعايش مع الأزمات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة