حازم حسين

أى منديل أَولى بدموع الغزّيين؟ حديث عقلانى عن النضال والمعاناة والاستقامة الوطنية

الثلاثاء، 02 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا شىء أكثر وفرةً فى غزَّة من الموت؛ إنما قد يُنافسه الصَّمَم. يبدو المشهدُ كما لو أنه لا أحدَ يسمعُ الآخر، وأنَّ مُحتكرى القرار فى القطاع مُنعزلون عن ساكنيه تمامًا. والشاهدُ هنا فى استمرار المعاناة، وفى غياب التوافق على الأولويات الوطنية والإنسانية، واتِّخاذ الأرض ومَنْ عليها موضوعًا للنزاع مع الداخل قبل الخارج. فاضتْ المُعاناة على احتمال المنكوبين، واستبدَّ بهم اليأسُ حتى صاروا يطلبون ما كانوا يترفَّعون عليه، وبينما تتبدَّل رُؤية العامَّة وأفكارهم، لا تُظهِرُ القيادةُ أىَّ هامشٍ من الانتقال فى الزمان والمكان. إنها ما تزالُ على أطراف مستوطنات الغُلاف فى السابع من أكتوبر، بينما صار الغلافُ وما وراءه بالكامل فى قلب الجحيم، وعلى مذبح الوقت الذى لا يرحمُ، وكلَّما يمتدُّ بهم تتعاظمُ النكبةُ، ويغيمُ المستقبل، وينشبُ الواقع الخَشِن مخالبَه الناريَّة فى القلوب والعقول.


اعتدتُ فى الأسابيع الأخيرة أن أتلصَّص على حسابات الأشقاء الغزِّيين فى الشبكات الاجتماعية، وأن ألتمس ما وصلت إليه المحنةُ مُترجَمًا فى اللوعة البادية من كلامهم، والشكاوى التى يبثّونها للقريب والبعيد. والحقّ أننى ما رأيتُ طوال الفترة الماضية إلَّا ألمًا خالصًا، ومواجع تنوء الجبال بحَملِها، واستصراخًا للقادرين على أن يمدُّوا لهم طوقَ النجاة ويشدّونهم من مُستنقعات الدموع والدم. وبينما تختلفُ اللغة فيما بينهم إزاءَ فداحة الحالة الراهنة، وتتفاوتُ آياتُ السَّحق والتجويع وتكسيح الأمل؛ فإنَّ المُشترَك الذى يكاد الجميع أن يُجمعوا عليه، بجوهرٍ واحد وصياغاتٍ شِبه مُتطابقة، أنهم يطلبون الهُدنةَ العاجلة على أيَّة صفةٍ كانت، وبكلِّ الشروط المُحتمَلة والقاسية، ويستنكرون أنَّ المُفاوضين عنهم لا يُطابقونهم فى المشاعر والانشغالات، ويضعون أمورًا واعتباراتٍ أُخرى فوق هُمومهم وانكساراتهم. باختصارٍ؛ فكلُّهم تقريبًا يُحافظون على كراهيَّتهم للاحتلال ويُقدِّسون ثأرَهم معه، لكنهم بجانب ذلك يرفعون أصواتهم بالنقد للسنوار وفريقه، وللواجهة الحماسيّة المُقيمة فى الخارج، ويرون أنهم تخلَّوا عنهم لأغراضٍ ومصالح أكبر من جغرافيا غزَّة، وأصغر كثيرًا من تاريخ فلسطين وقضيَّتها العادلة.


بإمكان كلِّ شخصٍ أن يستوثقَ من المسألة؛ ولا يتطلَّب ذلك إلَّا جولة عابرة فى مجموعات الفلسطينيين وعلى حساباتهم، ونظرةً سريعة على مئات المنشورات وآلاف التعليقات. الأغلبيةُ الكاسحة تسبحُ فى اتجاه، وبعض الأصوات النشاز تُجدِّف عكسَهم، والمفارقة أنَّ أغلب المُعترضين والمُزايدين ليسوا من أبناء القطاع، ولم يختبروا الحرب إلَّا من شاشات التليفزيون ومواقع التواصل. على عُمق المأساة؛ فإنها تتَّخذُ طابعًا أقرب إلى المَلهاة فى البيئة العربية؛ إذ لا يُسمَحُ للمُتألمِّين بأن يُعبِّروا عن آلامهم، وإن فعلوا فإنهم يُواجِهون موجةً عاتية من الإنكار والتخوين، وإزاء صرخاتهم الواهنة يرفعُ بعضُ المناضلين الافتراضيين عقائرَهم بشعارات النصر والثبات، ويفخرون بالمعركة التحرُّرية المُقدَّسة؛ ولو أَفْنَت الفريقَ الذى يُفتَرض أنها تدافع عنه. وهكذا صار العدوُّ قاتلاً صريحًا، والصديقُ قاتلاً ضِمنيًّا، وكلاهما يشتركان فى سَحق الصفة البشرية للعُزّل المساكين: الأوَّل بالسلاح، والأخير بالعاطفة الفجّة.


المشكلةُ هنا أخلاقيّةٌ فى المقام الأوَّل. إذ الأصلُ أنَّ القضيةَ تستمدُّ وَهجَها من ناسها، وتستندُ إليهم وتعمل لصالحهم، وحال انعكسَ المسارُ الطبيعىُّ وصارت تأكل أرواحهم دون مُقابلٍ؛ فالواجب أن يُعاد تقويمُ التكتيكات المُعتمَدة، والمُوازنة بين المنافع والأضرار. أمَّا ما حدث منذ «الطوفان» ببساطةٍ أنَّ فلسطين تنزفُ بشرًا وجغرافيا، وتكسبُ فى المعنويات حَصرًا، والمُعادلة على صورتها الراهنة لا تُهدِّد خزَّانَها النضالىَّ أو تُخاطر بإعادتها إلى الوراء فحسب؛ بل تنزحُ من رصيدِها القِيَمىِّ وتُذيبُ الحدودَ بين القاتل والمُناضل. إنَّ بروز «حماس» فى لُغة الغزِّيين بأكثر ممَّا يحضرُ نتنياهو وعصابته، يُلزِم الحركةَ بالتواضع قليلاً لشعبها، والنظر من جديد فى الخطاب والممارسة، مع القناعة بأنه يستحيلُ أن تكونَ نزيهًا فى الدفاع عن مَظلمةٍ، ما لم يكُن أهلُها جميعًا مُتَّفقين على ذلك ومُرحِّبين به.

وأنا هنا لا أدين الفصائلَ ولا أُحاكمُ الحدثَ بأثرٍ رَجعىٍّ؛ بقدر ما أتقصَّدُ أن تكون المقاومةُ فعلاً ديناميكيًّا مُخلصًا لحاضنته، بأكثر من تفانيه فى مُكايدة الغريم المقطوع بإجرامه، وهذا ممَّا يفرضُ امتلاكَ القُدرة على الكَرِّ والفَرّ، وعلى قَطع الأشواط نفسها إقدامًا وانسحابًا، وإن حَكَمَت اللعبةُ بخسارةٍ واجبة؛ فلا يتهرَّب المُهيمن عليها من نصيبه على الأقل.


إننى إذ أُقاربُ الحالةَ بحسبةٍ براجماتية، أعرفُ تمامًا أننى ضَيفٌ عليها من الخارج، ولا أفرضُ شُروطًا وتصوُّراتٍ مُسبَقَة عمَّا يجبُ أو لا يصحُّ اتخاذه من مواقف وقرارات. لكنَّ الحياد الإلزامىَّ فى حالتى لا ينطبقُ على مليونين أو يزيد ممَّن يُسدِّدون فاتورة المُغامرة الطوفانية فى غزَّة منذ تسعة أشهر؛ ولعلّهم الطرفَ الأكثرَ صِدقيَّةً والأقوى مَنطقًا؛ أوَّلاً لأنهم قُتِلوا دون أن يُستَشاروا من شريك الأرض أو مُغتصبيها، كما لا يُعرَفُ أنَّ لهم امتداداتٍ عابرةً للحدود ويحتكمون لإملاءاتٍ فوق فلسطينية، والأهمُّ أنهم يطلبون الحدَّ الأدنى من كلِّ شىء، مأكل ومَشرَب وإقامةٍ آمنة، ولا يبحثون عن سُلطةٍ حالية أو مستقبلية، ولا عن استدامةٍ للمنافع الفئوية ولو تمثَّلت فى سلاحٍ مُقاومٍ أو اتَّخذت شكلَ الشعار الوطنى البرىء. وإذا كان من وظائف الاحتلال بحُكمِ البِنية والتعريف، أن يسحقَ الآخرَ ويُغيِّب إرادته؛ فالمُقابل التحرُّرى يكتسبُ معناه وهالةَ حضوره من المعنى الضدِّ، ويلتزم دائمًا وتحت كلِّ الظروف بأن ينتصرَ للصوت الفلسطينى مهما بدا خافتًا، وأن يستنقذ ناسَه من المحارق المجَّانية كُلَّما استطاع إلى ذلك سبيلاً.


الصراحةُ تقتضى الوقوفَ الخَشِن مع الفصائل، ولا وجاهةَ إطلاقًا للتعلُّل بمناخ الحرب وقُيود الضرورة، وبأنَّ إلزاميَّةَ الإجماع فى زمن الأزمات تفرضُ إرجاءَ النقد والشُّبهات. فالحادثُ أنَّ القتالَ لم يمنعْ العدوَّ من إثارة كلِّ الأسئلة الواجبة فى بيئته، ومُناداة صقوره قبل حمائمه بافتتاح مَوسم المُراجعة والحساب ولو كان الميدان مُشتعلاً.. وإذا كان صاحبُ اليد العُليا فى الصراع يبحثُ سُبلَ التمكين وتشديد قبضته؛ فإنَّ الطرف الأضعف أحوج منه إلى استكشاف الثغرات وسدِّ منابع القصور، وإلى تعجُّل الطريق نحو تشخيص العِلَّة ومُداواتها بحثًا عن التشافى والعافية. والمُؤسِف أننا نسمع فى بيتِ الظالم شيئًا من الاعتراف بالخطأ، وأشياء من الاعتذار عنه، ولا تصلنا من نَفَقِ المُهمِل أيَّة إشارةٍ على استشعار الندم وسوء التقدير، ولا تطييب خواطر المنكوبين بكلمةٍ خافتة لن تُقدِّم أو تُؤخِّر، والمَثَل السيار يقولُ بصراحةٍ فجّة إنَّ «بيت المُهمل بيخرب قبل بيت الظالم»، ولا نُحبُّ للقضية أن تتقوَّضَ دعائمُها ويرتبكَ عمرانُها؛ لا لشىءٍ سوى أنَّ بعضَ بَنيها يستنكفون الإقرارَ بالواقع، ويفتقدون شجاعةَ الاعتراف والتصويب الذاتى، وبين هذا وذاك يُنكرون وجيعةَ ذويهم ويتعالون عليها باحتقارٍ غشوم أو بانتحاريَّةٍ غبيّة.


يرى الغزِّيون، أو بالأحرى القطاعُ الأوسعُ منهم؛ حتى لا أسقُطَ فى فَخِّ التعميم رغم صِحَّته فى حالتنا هذه، أنهم وُضِعوا على المذبح بين خصمين راديكاليِّين يُركِّزان فى لُعبة «عضّ الأصابع»، ولا ينشغلان بالرقاب المُتطايرة كلَّما جَزَّ أحدُهما بأسنانه. وإذا كان الأوَّلُ يستميت فى الوصول إلى النصر الكامل، وسَحق «حماس» وقُدراتها العسكرية والإدارية، وصولاً إلى السيطرة الكاملة على القطاع فى المستقبل؛ فإنه يطلبُ مُستحيلاً لن تُلاقيه الحركةُ عليه. والأخيرة إذ تطمعُ فى العودة إلى السادس من أكتوبر؛ فإنها تكادُ تُوقن أنَّ نتنياهو لن يتقبل حضورَها فى المشهد المُقبل كما كانت فى سابقه، ولو حدث فإنها سترثُ أطلالاً لم تعُد صالحةً للحياة، وشَرطُ الإعمار لدى أغلب المُموِّلين المُنتظَرين لا يتحقَّقُ ببقائها على الصيغة القديمة، وهذا مُستحيلٌ آخر يرفضه «السنوار» ولو تقبَّلَه سياسيِّو الخارج، أو ادَّعوا قبولَه من باب المناورة؛ وعليه فالحربُ تبدو قَدَرًا لا فِكاك منه فى المدى الراهن، والأمل الوحيد أن ينزلَ أحدُ الطرفين عن الشجرة، ويُراهن على تطوُّرات الهُدنة وما بعدها، والمنطق أنَّ الأكثرَ احتياجًا تعنيه المُبادرة بدرجةٍ أكبر ممَّن يستفيدُ من الفوضى والنار. ربما لهذا انتقلت مَلامَةُ الناس فى غزَّة من عصابة تل أبيب، إلى أنقياء القسَّام؛ إذ هُم الأقربُ إليهم، والعُرفُ أنَّ الأقربين أَوْلَى بالمعروف.


سَبَقَ أنْ تقبَّلت «حماس» مَنطقَ الهُدنة المُؤقَّتة، وعلى شروطٍ أقلّ كثيرًا ممَّا يتردَّد الآن. فى التجربة الافتتاحية خلال نوفمبر الماضى بدَّلت نحو 50 أسيرًا مُقابل أقلّ من أسبوعٍ خارج الحرب، والعدد نفسه اليوم يزيدُ على المطلوب للمرحلة الأُولى البالغة ستَّةَ أسابيع، وقد يتكفَّل الانتقالُ إلى المرحلة الثانية بإنهاء المَقتَلة بحُكم الأمر الواقع. ولا معنى إطلاقًا اليوم لرَفْض ما قُبِلَ بالأمس، وكانت الأوضاعُ الإنسانيَّةُ والمعيشيَّة أفضلَ كثيرًا ممَّا بَلَغَته حاليًا. وكما كان «السنوار» وفريقُه يعرفون أنَّ إسرائيل يُمكن أن تنقُضَ الاتِّفاق السابق فى أيَّة لحظة؛ فلا يغيب عن أذهانهم أنها قد تلتزمُ بالشروط المطلوبة الآن، من الوقف الدائم للنار إلى الانسحاب الكامل عن لاقطاع، ثم تنقلبُ عليها بعد أسبوعٍ أو شهر أو أكثر. الخبرةُ العملية أنها بلدٌ مُنفلِتٌ من كلِّ الضوابط والقوانين، ولا رادعَ لها، ورُعاتُها يُرخون عليها غطاءً سميكًا يَقيها نقدَ المجتمع الدولى وإجراءاته، وهكذا فإنها قادرةٌ على وَقف الحرب ثم إشعالها عندما تريد، وإزاء خللٍ عميقٍ كهذا؛ فالرهانُ على سرقتها من جانب التهدئة، ربما يكون أكثر رُشدًا، أو فى الأدنى أقلَّ كُلفةً وإيلامًا، من مُلاعبتها على جبهة التصعيد.


إذا كانت مصلحةُ الناس فى السِّلْم، ولا منفعةَ لحماس فى استمرار الحرب؛ فما العقبةُ التى تحولُ دون الذهاب إلى فسحةٍ تُلطِّف الأجواءَ؛ ولو كانت مُؤقَّتة؟ الواقع أنه لا إجابةَ مُقنعة سوى الإملاءات الخارجية، والتزام الحركة تجاه تيَّارها السياسى بأكثر من التزامها تجاه شعبها. لقد صدرَ عن مُحور المُمانعة ما يُفيد استثمارَه الآجلَ فى الطوفان وتداعياته، ويُصرِّح برفضِه الاتِّفاق على أيَّة شروط لا تضمنُ استبقاءَ الهيمنة القديمة فى غزَّة. ورغم الخيانة الأُولى بإنكار الحدث، والتراجع عن تفعيل شعار «وحدة الساحات»؛ فإنها أقحمت حزب الله جُزئيًّا فى المشهد دون فاعليَّةٍ حقيقية، وصار لبنان على شفا النكبة كغزَّة، واليوم يبدو «السنوار» مُلتزمًا بألَّا يُبرِّد جبهتَه حتى لا يلتفت سلاحُ الصهاينة ناحية الحليف، والمعنى أنَّ القطاع قد صار جِهةَ الإسناد والمُشاغلة للجنوب اللبنانى لا العكس، وكلاهما يدفع فاتورةَ ما تستهلكه إيران دِفاعًا عن أجندتها ومُواءماتها مع الأمريكيين فى الإقليم، من سوريا والعراق إلى اليمن وأطراف الخليج.


التشدُّدُ هنا يبدو تحالُفًا ضِمنيًّا مع العدوِّ، لا توازُنًا حَرجًا فى مواجهته؛ إذ أثبتتْ الوقائعُ أنَّ نتنياهو وائتلافه يستفيدون من هتافات الشحن بأضعاف ما تفيدُهم المُقاربات الهامسة. والهُدنة لن ترفع السكاكين عن رقاب الغزِّيين فحسب؛ بل ستضعُها على عُنق الليكود وحُلفائه التوراتيِّين. الغضبُ الساخن فى تل أبيب سيزدادُ سخونةً مع أوِّل وقفةٍ مُمكنة، وأحاديثُ المُساءلة والانتخابات المُبكِّرة ستجذبُ مزيدًا من الداعمين، وبعد ستَّة أسابيع قد لا يعودُ مشهدُ الحُكم فى إسرائيل وتوازناته على الحالة الراهنة. الهُدنة أيضًا ستنُعش المسارَ السياسى، وتُصلِّب ظهرَ الحاضنة العربية اللصيقة، وتفتحُ البابَ لمُداولات إنهاء الانقسام وتركيز سُلطةٍ وطنية جديدة، على ميثاق مُنظَّمة التحرير وشرعيَّتها الدولية، كما ستُشجِّع أطرافًا إضافيِّين على الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد الرباعى الأوروبى الأخير، وتُحرِّك الماءَ الآسن فى المرافق الأُمَميَّة التى قد تتلطَّى وراء الحرب عن الالتفات للقانون والدبلوماسية. أمَّا البقاء وراء المتاريس وتحت ظِلِّ السلاح فإنه يُثبِّت أقدامَ اليمين الصهيونىِّ، بشِقَّيه القومىِّ والدينىِّ، ويستهلك المُهلةَ الضيِّقة قبل انصراف الولايات المُتّحدة عن العالم إلى سباقِها الرئاسى ومصاعبه، والحال أنَّ القتال ما لم يتوقَّف خلال الأسابيع الستَّة المُقبلة على الأكثر؛ فإنه قد يستكملُ ما تبقَّى من العام الجارى، أو يمتدّ لمُنتَصَف السنة المقبلة.


الرسالةُ الدائمة من قادة الخارج فى فنادقهم، أنَّ أهلَ القطاع على قلبِ رجلٍ واحد. يُنكر الحماسيِّون، والمُرفَّهون منهم بدرجةٍ أكبر، أىَّ حديثٍ عن يأسِ الغزِّيين واعتراضهم، ولعلَّهم يقصدون الشاشات التى يُطلِّون منها ولا تُقيم وَزنًا لمُعاناة الناس، إلَّا بقدر ما يسمحُ لهم فقط ببناء السرديَّة المطلوبة عن المحرقةِ الهائجة والتضحيات الإيمانية الصُلبة دون رخاوةٍ أو تأوُّهاتٍ؛ أمَّا لو صَرَفوا أنظارَهم جميعًا إلى الإعلام الشعبىِّ فى المنصَّات الرقمية فسيجدونَ الصورةَ الضدَّ التى يُنكرونها، أو بدقّةٍ أكبر يتعمَّدون القفزَ عليها بالإخفاء والاستبعاد والتضليل. ولا بطولةَ فى استثمار الدم أو إدانة الناس ببُكائهم، وأدنى حُقوق المنكوبين أن يعترضوا ويصرخوا ويُدِينوا مَنْ يرونَ أنهم سببُ نكبتهم، والحال أنَّ الفصائلَ تخسرُ كثيرًا كلَّما تأخَّرت فى استقبال الرسائل واستيعابها، وفى الاشتغال الجادّ والأمين على مُلاقاة الجمهور عند النقطة التى ترضيه؛ حتى لو رأى القادةُ الأطهار أنها لا تُلبِّى مطالبَهم الظرفية، ولا تصون مصالحهم التنظيمية والشخصية، ولا تُبقِيهم فى صورة المُهيمن ومالك القضيّة والقرار أمام حُلفائهم المُمانعين.


يرفعُ العدوُّ مخالبَه العارية، ومهما أظهرَ السوءَ فإنه يُضمِر الأسوأ؛ هكذا كان منذ نشأته وسيظلُّ إلى الأبد. وإذا كان الصهاينةُ يحترفون الشرَّ ونحن خائبون فيه؛ فالحلُّ أنْ نبحثَ عن السُّبل الصالحة لترويضه، لا أن نُنافسه فى شروره أو نُمكِّن له اجتراحَها. قبل شهرين أوشكت الورقةُ المصرية أن تُنجز اتِّفاقًا قابلاً للتطبيق؛ لكنَّ «السنوار» استَبَق بسلاحِه ما أقرّه «هنيّة» بسياسته، فنفَّذ قصفًا عشوائيًا غير مُثمرٍ قبل إعلان الحركةِ قبولَها للصفقة، وأعاد الكُرة لنتنياهو أن يتشدَّد بتبريراتٍ مُقنعة لرُعاته ومُحازبيه. وقد انقضت تلك المرحلةُ ولا نستعيدها لأجل اللوم؛ إنما نُذكِّر بها لغايةِ ألَّا نُكرِّر الأخطاءَ نفسَها. «ورقة بايدن» ليست مثاليةً قَطعًا؛ لكنها الخيارُ الوحيد على الطاولة الآن، وبعدما عدَّلَ الأمريكيِّون بعضَ بنودها فى الأيام الأخيرة؛ فقد صارت بدايةً يُمكن الانطلاق منها؛ على الأقلِّ لأنَّ أهلَ غزَّة فاضَ بهم الكَيلُ ولم يعودوا قادرين على الاحتمال. لسنا فى عالمٍ عادل، ولا المثاليّةُ مُمكنةٌ فى حَسم المسائل الوجودية، أو تهديد القضايا الجادة بانحيازاتٍ مشبوهة ومواقف خفيفةٍ ورَعناء.. بإمكان المُقاوم الحِجَاجَ بأنَّ الاحتلال قتلَ الفلسطينيِّين ويقتلُهم بالطوفان ومن غيره؛ إنما الفيصل فى استقامة المَوقف وعدالة المُمارسة، وما لا خلافَ فيه، هو أن تكون قادرًا بأيّة نسبةٍ على إنقاذ ضحيّةٍ واحدة، ولا تفعل.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة