حازم حسين

غزة بين ثقل الحرب وخفة المصالحة.. التزامات لا تقبل النقاش على السلطة والفصائل

الأحد، 21 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

يعود الفلسطينيون إلى بكين مُجدَّدًا؛ لا على قلب رجلٍ واحد، أو لدراسة واقع الحرب ومآلاتها؛ إنما للبحث عن لغةٍ مُشتركة بعدما أضاعوها قبل عقدين. يعبرُ الجانى تناقضاته العميقة ليُثبِّت نقاط الاتفاق بين أجنحته، ويظلُّ الضحايا عاجزين عن اقتسام وجيعة المأساة معًا، بدلاً من الاستثمار فى نكبة الانقسام.. الأقلُّ احتياجًا للتضامن يتغلَّب على معوقاته، ومن تتعلَّق أرواحُهم عليه يتعاملون معه بفائضٍ من الأريحية والتعالى؛ فكأنّهم يُقامرون فى لُعبة «روليت روسيّة» بمُسدَّسٍ محشوٍّ بالكامل، وكلَّما أخفقت جولةٌ من الحوار؛ تستقرُّ رصاصةٌ غليظة فى قلب القضية.


لطالما سعت إسرائيل لإحداث إزاحةٍ مُتدرِّجة فى مفهوم التسوية. بدأت بقرار التقسيم على صيغةٍ أقرب للتساوى، ثمَّ احتلال معقود على العودة للشروط القديمة مُقابل المُساكنة الهادئة، وبعدها صار بعضُ الأرض مقابلَ السلام، فالسلام مُقابل السلام، وأخيرًا لا يتجاوز المعروض معنى «السلام مقابل تلطيف الحرب». أمَّا فى الجانب المقابل فلم يتحرَّك الوعى الفلسطينى فى الزمن، إذ ما يزال بعض المنكوبين حَبيسى ما قبل القرار 181 وحرب 1948، والباقون لم يُطوِّروا رؤيةً وطنية قادرة على هضم التحديات، والتعاطى معها بنُضجٍ وديناميكية. لقد أنتج الصهاينةُ دولتَهم فى المخيال قبل أن يُحقِّقوها جغرافيًّا؛ أمَّا أصحاب الأرض فوَقفوا صامدين فوقها، واكتفوا بقوَّة التضحيات وسخونتها، عن برمجةِ سَرديَّةٍ سياسية لمُلاعبة النوايا العبرية، والتحرُّك معها صعودًا وانحسارًا.


أنفقت «فتح» كثيرًا من طاقتها ودماء مُجاهديها حتى وضعت إطارًا واضحًا لمنظمة التحرير، وخاضت صراعات أغلبها مجانيّة وفى الاتجاه الخطأ، بل طالت نيرانها بعض الحاضنة العربية بأكثر ممَّا أصابت الاحتلال، وبعدما نجحت فى استقطاع موطئ قدمٍ من الأرض السليبة بموجب أوسلو، اعتصمت بالاتفاق ولم تتجاوب مع الضربات التى طالته من اليمين الصهيونى. أمَّا «حماس» فنشأت بأثر النضال الشعبى فى الانتفاضة الأُولى، وازدهرت تحت مظلَّة عرفات وسُلطته؛ لكنها كانت تُضمر تصوُّرًا مُضادًّا بالكامل. كان صعبًا عليها أن تُناطح «أبو عمار» فى دوره التاريخى، وزعامته الكاريزميّة؛ فانتظرت حتى رحيله لتُعلنَ الخروج على ورثته. والنتيجة أنَّ الأرض التى رُبِطَت بخيطٍ واهٍ فى زمن مدريد وما بعدها، قُطِعَت روابطُها لاحقًا بأثر مشاحنات مشعل وهنية مع عباس. صارت الدولةُ الضائعة إقطاعيِّتين مُتصادمين، قبل أن تختبر الوحدة الحقيقية والوجود المادى الملموس.


المحنةُ فى أصلها تعودُ للفُرقة والتشظِّى. لقد بُنِيَت دعائيّة الدولة اليهودية على أنهم شعب دون أرضٍ يحلُّ على أرضٍ بلا شعب. والأغلبية الفلسطينية لم تكن مُؤطَّرةً بسياجٍ قومى يقيها العواصف. يُمكن تعليق الجرس فى رقبة الدولة العثمانية، وسَحق القوميَّات المحليَّة انتصارًا لامبراطوريّةٍ مُلفَّقة تحت رايةٍ عقائدية؛ إنما المُحصِّلة أنَّ ضَرب الهُويّة من داخلها هو ما فتحَ طريقَ التزييف التاريخى والمعرفى، ومكَّن «هرتزل» ومُعاونيه من تلفيق سرديَّةٍ توراتيّة بلُغةٍ مُعاصرة، لعبت فيما بين الدينى والسياسى، واستغلَّت النزاعات الدولية وثغرات البيئة الأنجلوساكسونية لتمرير مشروعٍ استعمارىٍّ بمَسحةٍ مُقدَّسة، تمتَّع بمظلَّة أُوروبيّة ساعية للخلاص من اليهود، ثمّ تعويضهم عن محارق النازية، ومنها إلى النكهة المسيحانية النامية بين بعض الإنجيليين. وبالوعى أو المصادفة البحتة؛ فطن عرفات ورجالُه للفخّ؛ فخلعوا عباءات البعثيَّة والإسلامية التى ارتداها المُؤسِّسون الأوائل، واعتمدوا خطابًا عروبيًّا أفضى لمُدوِّنة فلسطينية تطرح القضية فى صورتها الإنسانية والوطنية المحضة.


التناقضُ الكبير اليومَ ليس بين فصائل تتنازعُ على السلطة. هذا ظاهره فقط؛ أمَّا الجوهر فيتّصل بإعادة تعريف النكبة على وجهٍ صحيح، ومن الضبط الاصطلاحى ستتأتَّى الأجندةُ الصافية، وتُبنَى التحالُفات المُثمرة. إنَّ الشرخَ مبعثه الذهاب للعدوِّ على أرضه، والدخول فى لعبة النصوص المُقدَّسة بكل انسدادها وصفريَّتها. إنهم يزعمون امتلاك الأرض بتعاقُدٍ توراتى، ويردُّ عليهم آخرون بأنها «وَقفٌ إسلامىٌّ» بثوابت الاعتقاد والتاريخ. والحال أننا اختبرنا المُنازعة نفسَها قبل تسعة قرون، وغلّفت أوروبا حملاتها الاستعمارية براية الصليب، ولم تُحسَم المسألة إلَّا على قاعدة القوَّة. وقُدرة الحسم الآن فى يد الغاصب، بينما إقرارُه على ما يريد للمُنازلة يقضى مُسبَقًا بخسارة العاجز عن إنفاذ إرادته بالحديد والنار. وباختصارٍ؛ فالأُصوليَّة مهما بدت بريئةً ومُكافحة، هى أخطرُ ما يُمكن أن يُشرَع فى وجه فلسطين، ولعلَّها النيران الصديقة التى يتعيَّن اجتنابُها بأكثر ممَّا نجتنب النيران المُعادية.
يصحُّ الجدل فى شأن السلطة كيفما تراءى لنا، ولا حاجزَ يمنعُ نقدَها والتعريض ببعض مُمارساتها، أو الدعوة للهيكلة والضبط وتصويب المسار. واقعُ الأمر أنَّ القضية تحتاجُ كيانيّةً سياسية أكثر حيوية وكفاءة من النسخة القائمة؛ لكن البديل لا يُمكن أن يكون على صيغة حماس والجهاد. لندع جانبًا أىَّ حديث عن الشعبوية والنزوات الحارقة، وعن الإخفاق العظيم فى «الطوفان» وما ترتَّب عليه، كما لن نُشكِّك فى الفصائل ونوايا قادتها؛ لكن فلسطين تحتاجُ للتحرُّر ممَّن يُقيِّدون أطرافَها فى الماضى ودعاياته الصاخبة، وأن تنغمس فى ماء الحاضر بقدرةٍ أكبر على السباحة وركوب الأمواج. وحصيلةُ السنوات الطويلة، لا شهور الحرب فقط، ربما لا تكون فى صالح الحركات الإسلامويَّة التى خلطت الدينى بالقومى، وشوَّهت السرديَّة الوطنية، وربما منحت ذرائع رخيصة للقوميِّين والتوراتيِّين المُتطرِّفين فى إسرائيل؛ على الأقلّ فى البيئة الداخلية الملوّنة باليمين الفاقع، ولدى الرُعاة والداعمين من ورثة زمن الكولونيالية ومراثى الرجل الأبيض.


ينظرُ الغرب لدولة اليهود باعتبارها فرعًا من الشجرة الأورو-أمريكية، وهى تنوب عنهم فى تسويق التفوُّق الأنجلوساكسونى لدى البدائيِّين وغير المُتحضِّرين، فضلاً على أنها قاعدة عسكرية مُتقدّمة تحت قوس الإمبراطورية المُستخلَفة على تركة الحرب الكونية. ومهما بدت المسألةُ ضبابيّةً، وقوانينها مُنحازةً وظالمة؛ فالهامش الآمن للاشتباك معها يبدأ من قواعد النظام الدولى، وأن يكون السلاح نفسه محمولاً على الأعراف المُرسَّخة بمنطق الهيمنة على صيغة مُتعدّدة الأطراف شكلاً. أمَّا اختصام الصهاينة على مُرتكزاتٍ روحيّة ماضوية مُحمَّلة بالقداسة؛ فإنه يُجدِّد الإحنَ القديمة، ويستنفرُ أسوأ ما فى الآخر من وحشيّة وفظاظة. كأننا نُعيدُ إنتاجَ الحروب الصليبية بانتكاساتٍ مُضاعَفة، وبكلِّ ما راكمَه الزمنُ لهم وانتزعه مِنّا؛ خاصة أنَّ قطاعًا منهم يُؤمن إيمانًا حقيقيًّا بتخريجة هنتنجتون عن صدام الحضارات، وأن الإسلام غريم النموذج الغربى وعدوه المُستقبلى.


المصالحةُ احتياجٌ وجودىّ لا فِكاك منه؛ ليس لأنها تُرمِّم البيت قبل تداعيه الكامل، وتستنقذُ ما تبقَّى من الضفّة والقطاع بفاتورة أقل من الدم والجنون؛ إنما لأنها تُعيد صياغة الأجندة الوطنية بطريقةٍ تُبطئ إيقاع الخسارة إن عجزت عن إيقافه تمامًا. المنطقُ أنَّ مُنظّمة التحرير أكبر الكيانات الحاضرة، ولها شرعية قانونية فى الداخل وأمام العالم، وباندماج حماس والجهاد تحتها سيكون مُتاحًا ترشيد الخطابات فوق الفلسطينية، وتنظيم العلاقة بين السياسة والسلاح. صحيحٌ أن الاحتلال لا يسعى لحلولٍ عادلة، ويُفصح بانتظامٍ عن نواياه السوداء؛ لكن الحصافة فى دراسة المضمار بتأنٍّ واعتدال، والبحث عن أوفق السُّبل لخوض السباق الاضطرارى، وحال التأكُّد من الهزيمة يكون التعقُّل فى الوقوف أو العودة، وليس فى مجاراته على طريقٍ يُفضى لمزيد من النكبات. إنها بالقَطع ليس دعوةً لمجافاة النضال؛ بل لأن يكونَ موضوعيًّا ومُثمرًا كلَّما أمكن، أو وئيدًا ومُتجدِّدًا فى أفكاره وأدواته؛ شريطة ألَّا يقود لتفريطٍ سهل أو انتحارٍ مجانىّ.


بُذِلَ فى تقريب الضفاف المُتباعدة بين السلطة وحماس أكثر ممَّا بذله الطرفان للقضية. قرابة العقدين منذ وقوع الانقسام، وانقلاب القسَّاميين على رام الله اقتطاعًا لغزَّة. لم تنقطع الوساطاتُ واللقاءات، وجولةُ بكين اليوم هى الثانية منذ أبريل، وسبقتها محاولة فى موسكو أواخر فبراير، وما قصّرت القاهرة فى جهود رَتق الثوب الفلسطينى عبر عشرات الجولات منذ 2007، أكبرها وأهمها فى العلمين الجديدة صيف العام الماضى، وقد قاطعتها حركة الجهاد بلونِها الإيرانى الخالص، وحضر الحماسيِّون على نِيّة التفاهم، بينما كانوا يُحضِّرون لتفجير المفاجأة فى وجوه الجميع.


عشرة أسابيع فقط فصلت بين الحوار وهجمة الغلاف. استشار «السنوار» شركاءه المُمانعين ورتَّب الخطَّة معهم؛ لكنه لم يُخطر الأشقاء والأصدقاء. ربما كانت النيَّة مُنصرفةً لعمليةٍ محدودة تُنشِّط مسار التفاوض، وتستجلب عدَّة رهائن لمُبادلتهم بمئات الأسرى، والمرجعيّة الماثلة فى الأذهان أنَّ «شاليط» بمفرده حرَّر أَلفًا منهم قائد حماس نفسه. هنا لا يُمكن استبعاد الأهداف المُضمَرة؛ مثل تعطيل مسار التطبيع السعودى، وتهييج المنطقة بحثًا عن مواجهةِ تُشرك الجميع فى دائرة النار، ويصبُّ ذلك بطبيعة الحال فى صالح طهران وبحثها عن تنازلاتٍ أمريكية، وإقرار لخريطة انتشارها فى الإقليم: من العراق على الخليج، إلى المتوسط عند سوريا ولبنان، والحوثيين على مدخل البحر الأحمر. أيَّا كانت البواعث؛ فقد اكتشف الحماسيون فداحة المُقامرة، وأنهم قدَّموا لنتنياهو هديَّة مثاليَّة كان يتمنّاها، والأخطر أنَّ ورقة الرهائن فقدت زَهوَها، وكلَّما زاد العدد تقلَّصت القيمة وتعقَّدت الصفقة.


لنكُن أكثر وضوحًا وقسوة. لا يدور الانقسام على مسائل حيوية، أو مفصليَّات تخصُّ جوهر القضية ومصالحها العُليا. لقد أبدت حماس مرونةً سابقة فى استراتيجية 2017، وأعلنت الانفصال التنظيمى عن الإخوان وقبول دولة على حدود 1967، بعيدًا عن حقيقة ذلك أو كونه مناورة. والسلطة تخلَّت تمامًا عن النضال العنفى بوصفه أداةً ضرورية لتحفيز السياسة وتقويمها، وهى إذ تختصمُ الفصائل فإنها مدفوعةٌ فى الغالب بإرادة القادة، لا بميثاق المنظمة وثوابتها. فريق رام الله قد يبدو مُفرِّطًا فى نظر البعض؛ لكنه فلسطينى قُحّ وغير مشبوكٍ بخيوطٍ خارجية تُعادى القضية أو تتربَّح بها. والمقاومة الغزِّية تُشبِع العاطفيِّين وبقايا الراديكالية الإسلامية من فارس لشراذم الإخوان والجهاديين؛ لكنها جزءٌ من محورٍ يُقدّم خطاب الثورة الدينية ويُضمر مشروعًا امبراطوريًّا بنكهة عِرقيّة صَفويّة. والأكثر إزعاجا أنَّ «حماس» قدَّمت لإسرائيل ما لم تُقدّمه للضفّة؛ فقد أشعلت شرارة الحرب بفردانيّة ودون تنسيق، ومكّنت مخابيل تل أبيب من تدمير القطاع وتثبيت الاستيطان وتسريع وتيرة الابتلاع الكامل. وبعد عشرة أشهر من التشدُّد؛ رضخت أخيرًا لشروطٍ كانت ترفضها، وتقبَّلت الهُدنةَ دون انسحابٍ أو وقفٍ للنار. وقدرٌ بسيط من تلك الليونة كان يكفى لترميم التصدُّعات مع فتح.


مُتغيّرات الظرف الراهن تفرضُ مُقاربةً غير ما كان مُستقرًّا. الليكود وائتلافه ماضون فى الحرب، وقد صارت هدفًا لا غاية، والكنيست أقرَّ مُؤخّرًا ما ينسف فكرة الدولة تمامًا. ترامب يقترب من البيت الأبيض، ما يعنى العودة لفجاجة الخطاب الجمهورى، وانزياح أثر الديمقراطيين ورهانهم على اللعب بورقة الأُصوليّة الإسلامية. حديث «اليوم التالى» يتطلَّب أجندةً فلسطينية عاجلة للتعاطى مع مساراته المُقترحَة، وقد بدا أنه لا أملَ فى التهدئة ببقاء حماس، ولا فرصةَ لإعادة الإعمار مع بقائها على أطلال القطاع. هنا يجب أن تكون السلطةُ عنوانَ الاقتراح الوطنى للحلِّ، ولن يصحَّ ذلك طالما ظلَّت الفصائل على عداءٍ معها؛ لأنها بهذا الموقف تُلاقى نتنياهو على رفضه لإحلال كيانٍ شرعىٍّ مُعترَف به إسرائيليًّا ودوليًّا، بدلا عن سلاح كتائب القسَّام وصِفتها الإرهابية فى عديد من العواصم. إنه يُجاهر برغبته فى إفناء الحركة، ولا يُريد أن يقع فى فخّ رام الله وبقايا أوسلو، وواجب المُتسلِّطين على غزَّة أن يبحثوا عمَّا يسوء عدوَّهم الأوَّل ويذهبوا إليه مُباشرةً.


ليس منطقيًّا أن تُبدى الفصائل ديناميكيّةً مع الاحتلال أكثر من السلطة؛ ولو كانت اضطرارًا وتحت ضغوط. ومن السخف أن تنزف فلسطين الأرض والبشر، بينما تزدهر خطابات التعالى والتخوين بين زاعمى تمثيلها بالسياسة أو السلاح. واجب رام الله أن تُراجع رُزمةَ مواقفها، وتُعيد الهيكلة بدمجٍ شامل لكل القوى على أجندةٍ مُوحَّدة، وواجب المقاومة أن تقطعَ صِلتَها بالأجندات الخارجية، وتَصِل المُنقطع مع المُمثِّل الشرعى الوحيد للشعب والقضية. الوضعُ الراهن لا يصمدُ أمام مُتطلِّبات المستقبل، وتنبغى المُسارعة بملاءمة وتكييف أركان البيت مع شروط اليوم التالى. ثمّة تباينات داخلية زاعقة فى حماس، ولا يبدو أنَّ قيادات الخارج على وفاقٍ كامل مع مُقاتلى الداخل، ولعلَّ الأمر نفسه حادث فى فتح والمنظمة ولو باختلاف. وهنا يتوجَّب العمل على توحيد الرؤية بين كلِّ تيار، ثمّ الاتفاق على سياقٍ جامع للتيّارات، وقد يبدأ المسار من إعادة بناء الحركات صعودًا من القاع، وتغيير كامل الطبقة المُهيمنة، أو أغلبها ممَّن يُمثّلون عقباتٍ حقيقية، وبدء العمل على تنظيم انتخابات قاعدية وقيادية شاملة، ولو فى الخارج أو عبر آلياتٍ تقنيّة تُتيح التغلُّب على قيود الاحتلال ومحاولة تعطيله لتحديث مرافق الدولة.


قائمةُ الذاهبين إلى بكين تشى بقدرٍ من الجدّية. يقود إسماعيل هنيَّة وفدَ حماس، ويتقدَّم محمود العالول فريقَ فتح، وهو أحد المعروفين برصانته وخطابه التوافقى. لكنَّ السوابق تُثير القلق، وقد كانت بعضُ الجولات محلَّ ترحيبٍ واهتمام؛ ولم تُفضِ لشىءٍ أيضًا. على أهل النكبة معرفة أنهم المعنيِّون المُباشرون بها، ولا أثرَ لأىِّ إسنادٍ أو مُعاونة فى ترتيب البيت؛ ما لم تكُن أساستُه صلبةً ومُستقرّة. لقد صوّت بينى جانتس لصالح مشروع الليكود ضد الدولة الفلسطينية؛ رغم نزاعاته مع نتنياهو، وخروجه من مجلس الحرب، وطموحه أن يحلَّ بديلاً لرئيس الحكومة، بينما الضحايا الذين يُفتَرَض أن يجمعهم الهَمُّ أكثرَ ممَّا تُفرِّقهم الأطماع، ينقلبون على بعضهم مع أنَّ لديهم كلَّ ما يضمنُ الوحدة ويجعلها فرضًا واجبًا.. الصراعُ يدور فى نطاق الأفكار والسرديَّات قبل الجغرافيا، وقد استثمرت تل أبيب فى الانقسام؛ لأنه يُقدِّم تصوُّرين مُتناقضين عن الدولة، ويسمحُ بتمرير دعائيّة غياب الشريك وعدم الجاهزية. إنَّ كلَّ خُطبةٍ أو رصاصة فى غير اتجاه فلسطين مَشبوهةٌ بالضرورة؛ فالوجهة واضحةٌ ولا لبسَ فيها: الأرض والناس والمكاسب المتاحة ما استطاعوا إليها سبيلاً، أو إبقاء الشرايين عند حدود آمنة من النزيف، بما لا يقتل القضية ولا يُكبِّدها ما يفوق الاحتمال؛ أمَّا الزعامات والمزايا والأوامر الواردة من خارج الحدود، فكلُّها تخدمُ أطرافًا أُخرى غير الفلسطينيين، والمُؤسف أنها تصبُّ فى صالح العدوِّ دائمًا.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة