عندما خرج ملايين المصريين إلى الميادين في 30 يونيو، لم يكن لديهم سوى هدف واحد، وهو استعادة الدولة المصرية، من براثن الارهاب، والذي تجسد في تلك الفئة الحاكمة، التي هددت البلاد والعباد بميليشياتها التي عاثت في الأرض فساداً من جانب، ومن الفوضى التي نجمت عن تراكمات عدة، أهمها ما خلفته حقبة "الربيع العربي"، من ترهل في غالبية المؤسسات من جانب آخر، مع طغيان المطالب الفئوية، بعيدا عن الهدف الأسمى الذي اقتصر فقط على الشعارات والخطابات التي هيمنت على تلك الفترة والتي قامت في الاساس على الإصلاح الكامل، سواء سياسيا او اقتصاديا او حتى في إطار السياسات الخارجية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع كبير على كافة الأصعدة لمدة تجاوزت العامين.
ولعل الحديث عن الإصلاح، نجد أنه يمثل أحد أهم نقاط الالتقاء بين ثورتي 30 يونيو و23 يوليو التي نحتفل بذكراها في هذه الآونة، حيث يبقى خروج الملايين في الميادين، وإن كان قد حمل هدفا ارتبط باللحظة السائدة حينها، يقوم في الاساس على الخلاص من تلك الفئة التي وصلت إلى سدة السلطة في غفلة من الزمن، إلا أنه حمل أهدافا أخرى، ذات نطاق زمني أكبر نسبيا، يدور حول تحقيق حالة إصلاحية، تستلهم في جوهرها أهداف ثورة يوليو، مع تحديثها لتتواكب مع التطورات التي يحكمها اختلاف الازمنة والعصور، وهو الأمر الذي تراوح بين الاقتصاد، في ضوء العديد من القرارات الصعبة التي اتخذتها الدولة في إطار الجمهورية الجديدة، مرورا بتوسيع دوائر التمكين بين فئات المجتمع ومنظماته وأحزابه السياسية، وحتى إعادة هيكلة السياسة الخارجية لتعود مكانة الدولة إلى سابق عهدها، في محيطيها الدولي والاقليمي، وهو ما يبدو في عودة دور مصر في القارة الأفريقية بعد سنوات التهميش، وهو ما يعكس العلاقة الكبيرة بين الثورتين، إذا ما وضعنا في الاعتبار الزخم الذي شهدته العلاقة مع دول القارة بفضل حقبة يوليو.
العودة المصرية القوية إلى أفريقيا، اعتمد في الاساس على التغيير الكبير في أسس السياسة الخارجية المصرية، خلال أكثر من ثلاثة عقود كاملة، حيث كان ابتعاد مصر عن محيطها القارى نتيجة مباشرة للعديد من المعطيات أبرزها طبيعة النظام الدولي أحادي الجانب، والذي اعتمد نهجا يقوم على توزيع الأدوار، بين القوى الاقليمية المؤثرة، بحيث لا يتجاوز نفوذها حدودا معينة، فاقتصر دور القاهرة على منطقة الشرق الأوسط، بينما كان دورها في إفريقيا لا يتجاوز حماية أمنها المائي في إطار دول حوض النيل.
فلو نظرنا إلى عودة مصر إلى محيطها القارى، نجد أنه مرتبطا بالاساس في التغيير الكبير في إدارة علاقاتها بالقوى الكبرى، عبر تنويع تحالفاتها وانفتاحها على خصوم واشنطن، من جانب، مع العمل على التعامل معهم على أساس المصالح المشتركة وليس في إطار من التبعية المطلقة، وهو ما فتح الباب أمام الدولة المصرية لإدارة دورها في مناطقها الجغرافية بحرية كبيرة دون الرضوخ للضغوط المفروضة عليها من الخارج.
وأما عن العلاقة مع إفريقيا، فقد تجاوزت الرؤية المصرية في التعامل معها النهج التقليدي القائم على حماية الأمن المائي، عبر الانفتاح على كافة دول القارة، في ضوء إعادة استكشاف بؤر جديدة في دوائرها الدبلوماسية،وهو ما يبدو في زيارات الرئيس عبد الفتاح السيسي للعديد من دول القارة وإبرام الشراكات الاقتصادية معهم من أجل تحقيق أكبر قدر من التكامل خاصة مع تصاعد التحديات والأزمات جراء تنامي الصراعات الدولية في السنوات الأخيرة، وهو ما ساهم في إحياء التضامن المتبادل بيّن المنطقتين العربية والأفريقية، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد، منها الدعم المصري للقضايا الأفريقية في كافة المحافل الدولية، من جانب، والدعم الأفريقي لحقوق الفلسطينيين، وهو ما تجلى في أبهى صوره في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، لتضع المزيد من الضغوط على إسرائيل واصفاء المزيد من الشرعية لفلسطين من جانب آخر.
وتعد التجربة الإصلاحية التي تبنتها الدولة المصرية في إطار الجمهورية الجديدة، أحد أهم أدواتها لتعزيز نفوذها في محيطها الأفريقي في السنوات الماضية، حيث كانت الدولة حريصة على تعميم تجربتها التي اعتمدت نهج التنمية المستدامة وهو ما بدا في تصدير الخبرات والكوادر للعديد من دول القارة لتعزيز مشروعاتها وهو ما ساهم بصورة كبيرة في توطيد العلاقات مع كافة الدول الأفريقية.
وهنا يمكننا القول بأن عودة مصر إلى دورها في إفريقيا وإن كان ثمرة من ثمار 30 يونيو، فإنه في الوقت نفسه يمثل امتدادا لنهج يوليو الذي قام في الاساس على تقوية شوكة القارة من خلال توحيد مواقفها وتعزيز التكامل فيما بينها، من أجل مجابهة القوى الطامعة التي طالما تسابقت على نهب خيراتها بينما سعت إلى تفتيت مواقفها حتى تؤول لها السيطرة الكاملة على مواردها.