حازم حسين

عبور جمهورى على بطاقة تقدمية.. خروج بايدن قد يغير المراسم ولا يمنع تنصيب ترامب

الثلاثاء، 23 يوليو 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نظريًّا فكَّ بايدن القيودَ عن رقبة الديمقراطيِّين؛ لكنه عمليًّا وضعهم أمام خياراتٍ لا تقل صعوبة عن استمراره فى السباق. الانسحابُ الآن يُشبه تجرُّع الدواء المُرِّ دون أملٍ فى الشفاء تقريبًا؛ فقد انطلق قطارُ ترامب بأقصى سُرعته، ولا يبدو اللحاقُ به سهلاً، ناهيك عن مُحاولة تعطيله التى تكاد تكون مُستحيلة. والمسألة ليست فى خسارة ولايةٍ وحيدة بالبيت الأبيض؛ إنما فيما تحملُه من نُذُرِ الانحسار فى الكونجرس، ثمَّ تعميد «الترامبيّة» خطابًا مُهيمنًا على السياسة الأمريكية لفترة قد تتجاوز السنوات الأربع؛ لا سيِّما فى ضوء ما يُبشِّر به النائب الموضوع على البطاقة، واحتمالات أنها ضربةٌ استباقية لتمديد الحالة الشعبويّة المُزعجة حتى 2037. المُفاجآت قائمة طوال الوقت، اليوم وغدًا؛ إنما لا يُعوَّل عليها بالنظر لواقع الحال، وقد صار مقطوعًا فى التدرُّج الطبيعى باللائحة الفائزة فى نوفمبر.


كان قرارُ «العجوز جو» ظهيرة الأحد مُفاجئًا تمامًا. فالرئيس الذى يستهل عامه الثالث والثمانين بعد أسبوعين فقط من موعد التصويت، كان مُتشبِّثًا بالترشُّح ومليئًا باليقين من قُدرته على تكرار مشهد النصر.. ثلاثةُ أسابيع مرَّت على مُناظرتهما الأُولى أواخر يونيو، تبدَّلَ الشارعُ تمامًا، وامتلأ ترامب بالفخر والغرور، وتصاعد النقدُ من حاضنة الرئيس الحزبيّة؛ حتى أقرب الشركاء وأصدقاء العمر؛ لكنه الوحيدُ الذى لم يقتنع بالإخفاق أمام الكاميرات، ولا بالوهن وانزواء العافية فى الكواليس. ناضلَ طويلاً لإثبات العكس، وقال فى قمَّة الناتو قبل عشرة أيام ما يُفيد بالثبات على رأس الجبهة، وأنَّ سببًا إلهيًّا فقط يُمكن أن يُخرجه من المشهد، وحتى مساء السبت الماضى كان يطلّ من غُرفة العزل بعد إصابته بكورونا، مُؤكِّدًا أنه باقٍ ولا ينوى الرحيل؛ لكنه بعد ساعاتٍ فقط انقلب على نفسه، وأصدر بيانَ الاعتذار مشمولاً بإعلاء مصلحة الدولة والحزب، وصوابيَّة أن يخلى الساحة ويتفرَّغ لمهام ما تبقَّى من ولايته. والفاصلُ بين الرفض والقبول يختزلُ ضغوطًا ثقيلة، ومُشاحنات كادت أن تعصفَ بركائز الحزب، وبحثًا عن الهدف المُستحيل فى الدقائق الأخيرة قبل نهاية المباراة.


آخرُ استطلاعات الرأى الديمقراطيّة مطلع الأسبوع، أشارت إلى اعتراض نحو 60 % من الحزب على بقاء بايدن فى السباق. لعلَّ هذا ما دفعَه للمُراجعة وتصحيح الموقف، بجانب حديث الداعمين عن تجميد نحو 90 مليون دولار من تبرُّعات الحملة حال استمراره. والحِسبةُ من أوَّلها كانت خاطئةً؛ إذ بُنِيَت على تسييد العُرف بشأن إخلاء الطريق للرئيس طالما تبقَّت له فُرصة، مع الرهان على تأمين المُنافسة عند حدودٍ موضوعيّة باهتة، بالنظر إلى اختصام «ترامب» قضائيًّا بما يُمهِّد لإزاحته، وعدم توافر وجهٍ جمهورىٍّ له من الخبرة والشعبية ما يُضارع سيناتور ديلاوير التاريخى. أمَّا المياه فكان لها رأىٌ آخر، وجَرَت فى النهار بغزارةٍ واندفاعٍ أربكا كلَّ الحسابات تقريبًا. خرج الرئيسُ السابق من تحت الرماد كطائر الفينيق الأُسطورىِّ، استعاد وَهجَ خطابه الشعبوىِّ اللاذع، وأعاد ترميم صورته المُتشقِّقة، واكتسح فى طريقه كلَّ المُنافسين الجمهوريِّين من دون رحمة، وما تمكَّنت المحاكمُ من تحجيم فيضانه الهادر؛ حتى لاقته المحكمةُ العُليا عند نقطةٍ إنقاذيّة مُتوقَّعة، تُعلِّقُ كثيرًا من الاتهامات وتُرجئ غيرَها، وتضيفُ من رصيد المُناكفة القانونية نقاطًا سهلة لرصيده السياسى؛ فكأنّه المُخلِّص الذى يُحاربه الجميعُ لشرٍّ فى نفوسهم لا لعوارٍ فى نفسه، وقد أكملت محاولةُ الاغتيال طقوسَ تعميده مَسيحًا تُحوِّطه العنايةُ السماوية، ويبدو كما لو أنّه انتُدِب لمهمَّة لن تمنعه عنها كلُّ الظروف، ولن يحول بينهما حائل.


ليس شائعًا إطلاقًا أن يخرُجَ الناسُ من المكتب البيضاوىِّ ثمَّ يعودون إليه؛ بل من النادر أصلاً الوصول إلى تذكرة السباق للمرَّة الثانية. أربعةٌ فقط حاولوا قبل ترامب: ثلاثةٌ منهم أخفقوا فى الجولات التمهيدية، والوحيد الذى فعلها جروفر كليفلاند قبل أكثر من مائةٍ وثلاثين سنة. أمَّا فى عِداد الفاشلين فكان تيودور روزفلت، الذى تسبَّب قبل أكثر من قرنٍ فى انقسام البيت الجمهورى، وسيطرة الديمقراطيين على الرئاسة والكونجرس معًا، ما يُشبه اليومَ حالَ السيد بايدن مع مُحازبيه، والمخاطر التى تحوم فوق رؤوسهم بعد أسابيع من الجدل، ثمّ الانسحاب الاضطرارىِّ الذليل على مسافة شهرٍ من المُؤتمر وثلاثة تقريبًا من الاقتراع. والنظرُ فى السوابق يضع السيد دونالد بجانب التجربة الناجحة، لا إلى فريق روزفلت وهربرت هوفر وفان بورين. لقد عبر التمهيديَّات باكتساح، ويتقدَّمُ استطلاعات الرأى، وكلُّ الفعاليات السياسية مشغولةٌ به وحده: إمَّا داعمون للنهاية ودون نقاش، وإمَّا أعداءٌ ومُناوئون يُسخِّرون طاقاتهم لاستهدافه ووَضع العراقيل فى طريقه. لقد ربح السباقَ معنويًّا على الأقل؛ بغَضِّ النظر عن أيّة مُفاجآت قد تحدُث قبل تتويجه رسميًّا فى الخريف المقبل.


مثلما غامرَ الديمقراطيِّون ببايدن قبل التأكُّد من هويَّة المُنافس، كان الرئيسُ نفسُه يُغامرُ بتاريخه وكلِّ ما لديه فى لعبةٍ غير مضمونة. المُفارقة أنه استدعى العفريت مُبكِّرًا؛ فتحدَّى ترامب داعيًا إيَّاه لمُناظرةٍ خارج الترتيبات الرسميّة المُعتادة لهيئة المُناظرات، تقتصر عليهما دون بقيَّة الحزبيِّين والمُستقلين؛ بل إنَّ حملتَه وضعَتْ شروطَها كاملةً، واختارت لها موعدًا طارئًا يسبقُ المؤتمرَ الجمهورىَّ، على أمل أن تخصمَ من رصيده فيفقد بطاقةَ الحزب. الفخُّ الذى حفرَه الرجلُ وقعَ فيه، والنيران الصديقة ارتدَّت لصدره فى غفلةٍ وعلى غير توقُّع. وبعدها واصلَ لُعبتَه لشراء الوقت؛ رهانًا على امتصاص المعارضة الداخلية أو انحسار الموجة الحمراء؛ فجاء إطلاقُ النار فى «بتلر» بولاية بنسلفانيا ليملأ الفراغات، ويستكملَ ما كان ناقصًا من جُملة الهزيمة. والحال أنَّه صار أمام خيارين: أن يُواصلَ طريقَه عاريًا من دعم الأقارب وقبول الأغراب، أو يُخلِى مكانَه لوافدٍ جديد؛ فلا يعود مُتَّهمًا بتعبيد طريق عدوِّه للسلطة، أو بالمسؤولية عن إخفاق الحزب فى البقاء تحت الضوء. المسألةُ تجاوزت البيتَ الأبيض؛ ولعلَّ المحاولات الجارية حاليًا تنصبُّ على تحييد أثر المدِّ الترامبىّ على سباق تجديد الكونجرس، وألَّا يجمعَ إليه أطرافَ المجلسين مُشكِّلاً سحابةً حمراء داكنة فوق واشنطن، تُساعده على إنفاذ إرادته فى كلِّ ما يُريد، ولا تضمنُ الحدَّ الأدنى من الكوابح اللازمة فى حالات الطوارئ. لكنَّ المُشكلة أنَّ الفلسفةَ الديمقراطية تتَّخذ طابعًا تبريريًّا؛ فالواقع أنهم يستبدلون الرئيسَ لئلَّا يُقال إنهم قصَّروا فى المنافسة، وهو من جانبه يقبلُ الاستبدالَ حتى لا يتهرَّب قادةُ الحزب من مسؤوليَّاتهم بتعليقها على كاهله الرخو.


كان أمام بايدن أحدُ مسارين: أن يخلعَ الوشاحَ الأزرق الآن فى فُسحةٍ من الوقت، أو ينتظر تسلُّمَه بطاقة الترشيح رسميًّا ثمَّ يُخلى موقعَه للبديل. والخيارُ الأوَّل كان ينطوى على اثنين أيضًا: أن يستبقى المنصبَ ويُزكِّى كامالا هاريس للولاية الجديدة، أو يتنحَّى من الرئاسة والسباق لتحلَّ نائبته فى الأمرين معًا، وقد اختار الأوَّلَ بالأوَّل. بالحسابات العقليَّة يبدو أنه ذهب لأوفق الاقتراحات، بما لا يُربِكُ الإدارةَ السياسية ولا يُضيِّق مجالَ الاختيار الحزبى، وكان الرحيلُ عن البيت الأبيض سيفرضُ تصعيد كامالا وإحلال نائبٍ جديد، ومع الأغلبيّة الجمهورية فى مجلس النواب لن تسير الأمورُ كما يُراد، وربما يُفاجِئُهم ظِلٌّ أحمر على بطاقة الرئاسة الديمقراطية. كما أنَّ استباقَ الترشُّح الرسمىِّ يتركُ النزاعَ فى نطاق المشاع، ولا يضمنُ أن تعبُرَ السيدة هاريس عتبةَ التصويت الداخلى إلى الاقتراع العام. الحال أنَّ صِفةَ النائب لا تمنحُ أيَّة ميزة نسبيّة، والخيار الآن بالذهاب لمُؤتمرٍ مفتوح بعدما تحلَّل المندوبون من التزامهم بمُوجَب اتجاهات القاعدة الحزبية فى السباق التمهيدى، وكانت تجربتُه الأخيرة قبل اثنتين وسبعين سنة تقريبًا، وفى تجربة العام 1924 تطلَّب الأمرُ 103 جولاتٍ تصويتيّة قبل الاستقرار على مُرشَّح.


المسارُ الآن أن يُوضَع الأمرُ على الطاولة بين قرابة 4 آلاف مندوبٍ فردىٍّ، يُضاف إليهم 746 تقريبًا من المندوبين الكبار، بعد وفاة عضوة من مجلس الشيوخ، وهم حاضرون بصفةٍ قياديّة ناشئة عن مواقعهم الحزبية أو مناصبهم السياسية والتنفيذية بالانتخاب، ولا يحقُّ لهم التصويت فى الجولة الأُولى. يتطلَّب الحسمُ أن يفوزَ أحدُ الراغبين بالأغلبيّة، ويُدار ذلك عبر جولاتٍ مُتتالية. أمَّا الرجوع من آخر الطريق؛ أى بعد إمساك بايدن بالبطاقة رسميًّا، كان سيُعيد المسألةَ للجنة الوطنية الديمقراطية ونحو 400 مُمثّل عن الولايات وحُكَّامها، ما يُضيِّق هامشَ الخلاف ويُسرِّع وتيرةَ التوافق. استُخدِمَت تلك الآليّةُ قبل خمسة عقودٍ لاستبدال نائب الرئيس فى انتخابات 1972، وبعيدًا من الافتراضات النظريّة؛ فقد صار واقعًا ألَّا يُعرَف المُرشَّح الفِعلىِّ سوى فى نهاية مؤتمر الحزب 22 أغسطس، أو قد يتأخَّر بعدها قليلاً، ليتبقَّى شهران فقط لإدارة حملةٍ رئاسية أمام خصمٍ شرس، وبحظوظٍ تكاد تكون معدومة. ناهيك عن تعقيدات التأخُّر الكبير لحدود بدء طباعة البطاقات وانطلاق التصويت المُبكِّر لبعض الولايات. فضلاً على ثغرةٍ أُخرى تخصَّ أوهايو؛ إذ يفرضُ قانونُها وَضعَ المُرشَّحين على البطاقات قبل ثلاثة أشهر، وكان مُجَدْوَلاً عَقدُ اجتماعٍ افتراضى لقادة الحزب فى 7 أغسطس؛ لتمرير لائحة «بايدن/ هاريس»، وهو ما لم يعُد مُمكنًا الآن.


نائبةُ الرئيس أرجحُ البدائل الحاضرة؛ إنما تبرزُ أسماء إضافيّة مُحتَمَلَة للتسابق الداخلى: جافين نيوسوم حاكم ولاية كاليفورنيا، وجى بى ويتذكر حاكم إلينوى، وجوش شابيرو وجريتشن ويتمر حاكما بنسلفانيا وميشيجان، والأخيرتان من الولايات المُتأرجحة ويحتاجُ الحزب لمُغازلة قواعدهما. تلك النقطة تُرجِّح فُرصَ المُتنافسين المُحتمَلين، ما لم تُسفر الضغوط عن إخلاء طريق هاريس؛ لا سيّما وعُقدة التمويل تصبُّ فى صالحها.. إنها على بطاقة الترشيح أصلاً، ما يعنى شراكتها فى التبرُّعات، وإمكانية أن تنتقل إليها مُباشرةً حال تغيَّر ترتيبها من الثانى للأوَّل، أمَّا أىُّ بديلٍ آخر فمعناه عودة نحو 120 مليون دولار جمعتها الحملة إلى اللجنة الوطنية الديمقراطية، ليجرى تخصيصُها بشكلٍ مُتفرِّق وتحت قيودٍ ثقيلة من القوانين المالية. وخارج الاعتبارات الماليّة؛ تبدو كامالا مُعبِّرةً أمينة عن الخطاب التقدُّمى الليبرالى، بالنوع كما بالأُصول المُلوَّنة؛ لكنها تحملُ أعباءَ الإدارة السابقة وإخفاقاتها الكبيرة فى أوكرانيا وغزَّة ومع الصين، كما تُواجه ثقافةً أمريكيّة مُحافظةً تستنكفُ تصدُّرَ المرأة للمشهد؛ ولو أنكرت ذلك وادَّعت عكسَه. والأمرُ نفسُه ينطبق على السيدة «ويتمر» رئيسًا أو نائبًا، مع استحالة المُغامرة بامرأتين أصلاً. هكذا قد تكون اللائحة المثالية فى النهاية بحسب الأوضاع الحالية «هاريس/ نيوسوم».


كان أوَّلُ تعليقٍ لترامب أنَّ هزيمة كامالا ستكون أسهل من هزيمة بايدن. والحقّ أنها لم تُسجِّل حضورًا بارزًا طوال ولايتها، وليست ذات تاريخ سياسىٍّ عريض، كما لا تُجيد الخطابةَ واللعب على سيكولوجية الأمريكيِّين. صحيح أنها تُمثِّل أيديولوجيَّتها لعوامل طبيعيّة وهويَّاتية ظاهرة؛ لكنَّ نقاط قوّتها ربما تكون خاصرتَها الهَشَّة فى أيضًا. إنها سيِّدةٌ فى مُنازلةٍ بلا أَسْقُف، وقد تلقَّت سابقتُها هيلارى كلينتون اللكمات من ترامب فى 2016 دون هوادةٍ أو معايير، كما أنها من أُصولٍ مُهاجرة، وتُجسِّد عمليًّا مآخذ ترامب على السياسة الليبرالية تجاه ملف اللجوء وسيولة الحدود، ولازمت بايدن لولايةٍ كاملة وتقاسمه أخطاءه، وستكون هدفًا للضربات دون إمكانيَّة التبرؤ من شريكها العجوز؛ فكأنَّ الجمهورىَّ الجارح يخوضُ المنافسةَ مع غريمه السابق فى نُسخةٍ مُعادة عن 2020؛ إنما بدوبليرٍ أكثر هشاشة وأفقر فى السيرة الشخصية والأثر العام من السيِّد جو.


ربما تكون «كامالا» بديلاً لدى القطاع الذى كان رافضًا للمُرشَّحَيْن الأصليِّيَن معًا؛ لكنَّ المشهدَ الآن ليس كما كان قبل 3 يوليو و27 يونيو. ترامب بعد المُناظرة ومحاولة الاغتيال ليس ترامب السابق، وليس كما كان قبل اختيار جيميس ديفيد فانس نائبًا له. غريمته المُقترَحَة قادرةٌ على جَذب الأقليَّات والتقدُّميين، ومُضادَّة للخطاب القومىِّ الشعبوىِّ باللون على الأقل؛ لكن من قال إنَّ البيئةَ الأمريكية لا تعيشُ مرحلةَ انجذابٍ لليمين، وتستشعرُ مخاطر ثقافيّة واجتماعيّة تُعزِّز قابليَّتها للاستقطاب المحافظ؟! والأهمَّ أنَّ الديمقراطيين يُؤسِّسون خطابَهم على مُعاداة المنافس بأكثر من اقتراح البدائل، ويتَّخذون «الدفاع عن الديمقراطية» شعارًا واحدًا، وهو تصوُّرٌ نُخبوىٌّ مُجرَّد، يُلامس التنظيرَ السياسىَّ، ولا يشتبكُ مع هموم الناس وشواغلهم الوقتيَّة، بينما يجيدُ غريمُهم اللعبَ على المسائل المُلحَّة واقتراح مسارات ديناميكية تبدو مُقنعة، بغَضّ النظر عن موضوعيَّتها وإمكانية تحقيقها، فكأنها مُواجهةٌ بين فيلسوفٍ ومُقاتل، كان يُمكن أن تخدمَ الأوَّلَ لو وُضِعَت فى قاعة البحث بالجامعة؛ إنما الواقع أنها مَوضوعةٌ فى حلبة مُلاكمة.


كلُّ ما كان يُسدِّد عليه ترامب لدى بايدن سيجدُه فى هاريس. لقد استبدَلَ مُنافسوه بلاعبٍ مُتمرِّسٍ تضرَّرت لياقته، هاويًا خفيفًا وفقيرَ الخبرة والمهارة. ولعلَّ هذا ينطبقُ على نيوسوم وشابيرو وأىِّ بديلٍ آخر. الأمرُ أقربُ لمَوجةٍ عاتية لا يُمكنُ صَدُّها أو ركوبها؛ إنما الأرجح أنَّ الديمقراطيين يبحثون عن شرفِ المُحاولة، وأن يخسروا بملامةٍ أقل. النزول ببايدن من البداية لا معنى له سوى ذلك، والتأخر فى إزاحته أيضًا، والارتباكُ الحادث فى استخلاف من ينوب عنه؛ ولو أفضى للسيدة ميشيل أوباما نفسها. يدلُّ التذبذب على الرخاوة وافتقاد الرؤية، أمَّا تجديد سرديَّة صُعود امرأة بعد هيلارى، وفى مناخ الاحتدام الراهن بسُخونته الحارقة؛ فلا يتجاوزُ نطاقَ البحث عن دعائيّةٍ قليلة الكُلفة والأثر. والمعنى أنَّ اليمين يُخرِجُ أسوأَ بضائعه ونعرضُ الأفضلَ، ولا حيلةَ لنا فى تفضيلات الزبائن طالما نُحافظ على جودة مُنتجاتنا، أمَّا كَونها لا تُلبِّى تفضيلات الجمهور أو تأخَّرت فى وصول الأسواق؛ فتلك تفاصيل هامشيَّةٌ غير مُهمَّة. المُؤكَّد أن حملة ترامب ستدرسُ الموقف، وقد تُغيِّر بعضَ تكتيكاتها عقب الاستقرار على المُنافس؛ لكنْ ما لم تقع مُفاجأةٌ طارئة كبيرة بما يكفى لمُعادلة اختلالات الشهور الطويلة الماضية؛ فإنه مَاضٍ فى طريقه للبيت الأبيض. وحتى تلك الحقيقة ليست الفارقة؛ إذ الخسارةُ الديمقراطية ستكون أفدحَ لو انطلق موكبه فى حراسةِ أغلبيّةٍ جمهورية داخل جناحى الكونجرس. كلُّ ما قِيْلَ عن استفاقة اليمين فى أوروبا سيصيرُ ظِلًّا باهتًا لما ستطرحُه الولايات المتحدة على العالم؛ لو استُكمِلَ السيناريو هكذا. لقد قطعَ ترامب نصفَ الطريق فى مُناظرة يونيو، وارتاح بأحد جانبيه على مقعد الرئيس فى مشهد الاغتيال، وينتظرُ الآن أن يستكملَ له أعداؤه مراسمَ التنصيب وطقوس التهنئة والمُباركات.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة